عبد العليم شهاب

أحمد الجدع

في عام 1961 ذهبت إلى بلدة الخرمة من أعمال مدينة الطائف بالجزيرة العربية، وعملت فيها مدرساً في المدرسة السعودية الابتدائية .

وصاحبت فيها عدداً من المدرسين ،جاؤوها من مصر وفلسطين والأردن،وكانوا في معظمهم بعيدين عن الثقافة لا هـَم ّلهم سوى انتظار الراتب آخر الشهر، ثم السهر على لعب الورق وتدخين السجائر، لا يملون ذلك سديس الليالي.

وكان من بين هؤلاء مدرسان جاءا من مصر : محمد رشاد مخلوف ، وكان قد اقترب من الستين، وكان رغم ذلك مدخناً شرها ولاعب ورق، وكانت صلتي به وثيقة حتى كدت أتزوج ابنته، ولا زلت أحتفظ  بهدية منه كتاب: حمله لويس التاسع على مصر.

الثاني: عبد العليم شهاب، وكان في الأربعين، لا يدخن، لا يلعب الورق، يحب الشعر والشعراء والأدب والأدباء، متديناً تديناً حقيقياً، راقي السلوك والخلق.

توثقت العلاقات ما بيني وبين هذا الرجل سريعاً، ذلك لأني كنت مثله ميالاً إلى الكتب والأدب، وكنا نخرج معاً  كل مساء إلى ظاهر البلدة حيث تمتد الصحراء بلا نهاية، فيخلو لنا الجو فنتطارح ما عندنا من أخبار الأدب والأدباء والشعر والشعراء، وكان هو أعرف مني في ذلك ، فقد كان هو في الأربعين وأنا في العشرين .

كان هو لا يعرف صلتي بالإخوان المسلمين، فكان يحدثني عنهم ويحببهم إليّ، ولما علم صلتي بهم ازداد لي حباً ومني قرباً، وكان مما أفادني به أن عرفني على مجلة" المسلمون" التي كان يصدرها سعيد رمضان في جنيف، فداومت على شرائها عندما نقلت في السنة الثانية إلى مدينة  الطائف، ذلك أن الخرمة لم يكن بها مكتبات تجارية، ولا تصلها الصحف والمجلات في ذلك الزمان.

وكان مما أفادني هذا الرجل أن حدثني بسيرة الشاعر المصري عبد الحميد الديب الذي أطلق عليه عارفوه لقب "الشاعر البائس" وقد كان هو كذلك، وقد تكون عبقريته الشعرية قد تفجرت من هذا البؤس الشديد الذي عاشه من مولده حتى وفاته!

وقد ذكر لي أن صديقاً للشاعر الديب قد كتب سيرته في كتاب، وأن هذا الصديق كان راوية الديب،يحفظ  من أشعاره الكثير، ووعدني عبد العليم أن يهديني نسخة من الكتاب يأتي بها في العام التالي، وقد فعل.

 هذه  النسخة من كتاب: " الشاعر البائس عبد الحميد الذيب" تأليف عبد الرحمن عثمان وإصدار مكتبة دار العروبة بمصر، من النسخ النادرة التي لا زلت أحتفظ بها في مكتبتي، وقد قرأتها أكثر من مرة.

ومما ذكره لي عبد العليم، ولم أجده في الكتاب، أن الشاعر الديب هو صاحب الأبيات الشهيرة في الوصف الدقيق لسوء الطالع والحظ العاثر:

إن حظي كدقيق
ثم قالوا لحفاة
صعب الأمر عليهم
إن من أشقاه ربي

 

بين شوك نثروه
يوم ريح اجمعوه
قيل يا قوم اتركوه
كيف أنتم تسعدوه

هكذا روى لي الشطر الأخير من البيت الرابع، وهكذا تداوله الناس، ولعل صوابه : "أبداً لن تسعدوه"!

 ومما يجدر ذكره هنا أنني أجبت على سؤال حول هذه الأبيات في مقال كتبته عن الديب ونشره موقع أدباء الشام على شبكة الانترنت ....

وللشاعر الديب أبيات كثيرة ينعي بها حظه مثل قوله:

حظي هو الأيكة الخرساء ذابلة
هو السحاب جهاماً، والندي أسناً
كأنه أذرع شلاء راحتها
لا تسألوني عن بؤسي وعلته

 

هو النسيم سموماً غير خفاق
هو الضياء به موتي وإحراقي
أو أنه أعين من غير أحداق
سلوا به الحظ ميتاً فوق أعناق

وللديب البيت المشهور في وصف بؤسه:

وهام بي الأسى والبؤس حتى

 

كأني عبلة والبؤس عنتر!

ويقول مؤلف الكتاب بأن هذا البيت من قصيدة يتحرج من إيرادها في كتابه، وكأنها مما يدخل في باب "المكتمات" في الشعر العربي الحديث.

وللديب أشعار جيدة، يُعجب القراء سبكها ومعانيها، منها في هجاء بعض الوزراء:

برامكة وليس لهم رشيد
مدحتهم فما شرفوا بشعري
وصغت هجاءهم فإذا الأهاجي

 

وأقيال وكلهم عبيد
لخستهم، وما شرف القصيد
على الأفواه لحن أو نشيد

وللديب في التحريض على حكومة مصر:

كُلوا الحكومة أو موتوا من الجوع

 

صوت الضعيف المرجى غير مسموع

وعندما حوكم على هذه القصيدة قال للقاضي: أنا مدحت الحكومة ولم أهجها، لم أقل كُلوا الحكومة (بضم الكاف)، بل قلت كِلوا الحكومة (بكسرها)! فتبسم القاضي وبرّأه.

مالي خصصت هذه الكلمة عن أخي وصديقي عبد العليم شهاب فإذا بها تنقلب حديثاً عن الشاعر عبد الحميد الديب، فلنعد إذن لعبد العليم، فقد كان من حسناته عندي أن عرفني بالشاعر عبد الحميد الديب!

كنا نسير في صحراء الخرمة ونتطارح أحاديث الشعر والشعراء، ثم إذا هجم علينا الظلام عدنا أدراجنا وأخي عبد العليم يردد هذا البيت:

مشيناها خطاً كتبت علينا

 

ومن كتبت عليه خطا مشاها

وهذا صحيح..... ومن آمن به رضي، وسكنت نفسه

من هو هذا الشاعر الذي أتحفنا بهذا العلاج النفسي؟

يغلب على ظني أنه كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثير عزة.

هذه بعض ذكرياتي مع أخي عبد العليم شهاب، بارك الله به أينما كان، فقد أرشدني إلى مجلة "المسلمون" التي أفدت من قراءتها كثيرا، وعرفني على الشاعر البائس عبد الحميد الديب.

كانت أيام الخرمة حافلة، وكلها خير............. وللحديث عن كل ذلك مكان أخر.......