الدكتور مصطفى حسني السباعي

الدكتور مصطفى حسني السباعي

بقلم : محمد المجذوب

أبـلغ القول في الرثاء iiالدموع
لـيـس كـل امرئ يموت iiأبا
رايـة مـن بنود ربك لولا iiالـ
وحـسـام قـد سله الله فالكفـ
طـويـا فـجـأة فمادت iiديار
وسألنا ، ولم نصدق ،.. أحق ؟!
ولـقـد طالما ضرعنا إلى iiالله
نـنـشد البرء للجريح iiالمفدى
واسـتجيب النداء ، فانحسم iiالدا
وأراد الإلـه لـلـفـارس iiالمر
وقـد سـألـنا له الشفاء iiسريعاً
والـمـقـادير في يد الله iiغيب











فـدعـوها تذب عليه iiالضلوع
حـسان حتى يلام فيه iiالجزوع
ـجـهل لم تتخذ سواها الجموع
ـر هـزيم من هوله iiوصريع
جـنـود الـهدى وجنت iiربوع
فـإذا كـل مـن هناك iiصديع
لـدى الـحجر والقلوب iiخشوع
بـعـدمـا أيأس الأساة فريعوا
ء وزالـت مـواجـع iiوصدوع
مـوق غـير الذي أراد iiالجميع
فـأتـى دونـه الحمام iiالسريع
ضـاع في تيهه الحكيم iiالضليع

* * *

قالوا : " كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر ، إلا المصيبة فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر ..."

والواقع أن هذا هو الواقع في كل شيء ، وفي كل مصيبة ، إلا مصيبة برجل في زمن قل فيه الرجال ، واشتدت إليهم حاجة الرجال !

وهذه الأيام تتابع على النبأ الفاجع فما يعتور أثره فتور، ولو زعمنا ذلك لكذبتنا الدموع ، التي لا نستطيع نهنهتها كلما خطر في الجنان أبو حسان ، أو ذكر آثاره وأعماله لسان .

ويا لها من لحظة .. تلك التي تلقيت فيها النبأ الهائل !.. إذ دخلت علي ابنتي وأنا غارق في قراءة أخبار الصحابة من فاتحي العراق ، وهي واجفة راجفة تقول في نبرات خائفة :

" هاتف من دمشق يقول إن السباعي قد مات ! ".

ولم أع ما أفعل ... إلا أن أدور في مكتبي على غير هدى وأنا أبكي وأجأر : " اللهم رحمتك !.." ولم أستطع أن اصدق الخبر.. وكيف أصدقه ، ولما يمض على لقائنا سوى أيام كنت خلالها مفعم الصدر أملاً بأن أبا حسان على عتبة الشفاء !

ولا عجب فقد فوجئت من أبي حسان يوم لقائنا الأخير بمثل الطلعة القديمة ، التي عهدت إشراقتها المحببة قبيل الإصابة التي أثقلته بالألم المتواصل طوال سنوات الألم الأخيرة .

ولمح دهشتي وفرحتي بمنظره ، فقل :

" لو رأيتني يا أبا غسان عقيب عودتي من البيت الحرام ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إذن لكانت دهشتك أبلغ .. لقد استعدت في جوار الكعبة المشرفة وفي بلد الرسول الأعظم نصف نشاطي الذي حبسني عنه المرض ، ولقد ذهبت إلى الأرض المباركة ، وأنا كما رأيتني في مكة المكرمة ومنى أول وصولنا ، لا أستطيع الصلاة إلا على كرسي .. فما غادرت مكة حتى وجدتني أسعى إلى الحرم بنفسي ، ثم أقضي الصلاة بركوعها وسجودها وقعودها كهدي أيام العافية .. ولهذا تراني أتهيأ للسفر إلى البلد الحرام لأتخذه لي مقاماً وسكناً ، أجدد به روحي ، وأسعد بمناجاة الله في بلد خليله وأحب أرض الله إلى رسوله .. ومن أجل ذلك قبلت عرض المعارف السعودية للتدريس هناك دون تردد ".

أجل .. هكذا تركت أبا حسان قبل أيام ، فلما أفضت إلي ابنتي بنبأ الموت ذهبت أجادل وأغالط "لعل الخبر عن السفر ! .. لعل لاقط الهاتف لم يفرق بي " مات السباعي " .. و"سافر السباعي" "!

وبعد ساعات أربع تحققنا من النبأ الصادع عن طريق حمص .. فلم يبق من مجال لأي جدال ‍

ووصلت دمشق ظهر اليوم التالي ، ولم أعرف مكان الجثمان إلا من انقطاع حركة المواصلات في شارع مدحة باشا . وسرعان ما ابتلعني موكب الجنازة العزيزة كقطرة الماء لامست السيل الهادر، الذي ما لبث أن ملأ شارع الحميدية حتى قلب الجامع الأموي ‍.. ‍‍‍‌وأبت دمشق الوفية المؤمنة أن تحمل السيارة جسد البطل الذي طالما هز منابرها وأثار عزائمها وحفز شبابها لاستعادة مكانتها في خدمة الإسلام ، وتحرير أرض الإسلام ، فإذا هي تتداول نعشه على الراح حتى المقبرة ، التي ضمت من قبله أجساد الأباة من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وتابعي تابعيهم من أعلام الهداة .

وفي غمرة الأنين والنشيج وانطلاقات الأصوات المؤمنة بشعارات السماء ، التي وقف الفقيد حياته الغالية على تركيزها وتحقيقها ، والتي بذل في نصرتها آخر أنفاسه في لحظاته الأخيرة .. وجدتني أتساءل وأتذكر.

أتساءل عن السر الذي يحفز هذه السيول من الجموع على تحمل الحر والزحام طوال ساعات ، لا تفارق الموكب الحزين حتى تودع الثرى جثمان الرجل ، الذي زحفت لتشييعه من أنحاء القطر السوري ، ومن كل بلد مجاور اتسع وقته وظروفه للمشاركة في هذا التشييع ؟

أتقديراً لعلم الفقيد .. وقد كان من العلم في المكان المرموق ‍

أتعظيماً لجاه ناله من الدنيا ؟ وقد كان له الجاه الذي يغبطه عليه الكثيرون من أهل الدنيا ‍؟

أم تزلفاً إلى قوم من الأحياء يبتغون لديهم المنفعة بهذه المشاركة ؟ ولكن كثيراً من العلماء الكبار يموتون كل يوم .. فما يكاد يحس بهم أحد .. وأكثر من هؤلاء أصحاب الجاه الذين تسنموا بالحق أو بالباطل أرفع المنازل ، ثم ذهبوا من هذه الدنيا أذلة لا يكاد يذكرهم أحد ، إلا عند تعداد السيئات .. وتوزيع اللعنات ‍؟

وأما المنفعة فهي أبعد الأشياء عن هذه المناسبة .. بل لعل ضررها على المشارك فيها هو الشيء الطبيعي، الذي لا ينبغي أن نتوقع سواه .

والحق الذي يحسه كل ذي ضمير، ويدركه كل ذي تفكير، هو أن هذه الآلاف المؤلفة إنما زحفت ونصبت وصبرت تمجيداً للفكرة التي دفع السباعي حياته كلها ثمناً لها ، وأذاب قلبه الكبير وقوداً لاستبقاء وهجها ، في إخلاص لله لم يشبه مطمع دنيوي ، وجهاد للحق لم يستهدف سوى تحرير الوطن الإسلامي من سلطان الطغيان أياً كان مصدره ، وتحريراً للفكر العربي والإسلامي من كل استعباد مهما يكن أثره ومؤثره .

والإخلاص لله ، والجهاد في سبيله ، كانا وانفكا في تاريخ هذه الأمة مبعث العزة ، ومنطلق الخلود .. وصدق الفاروق أمير المؤمنين إذ يهتف في وجه أبي عبيدة أمين هذه الأمة :

"... نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما نبتغ العزة بغيره أذلنا الله ".

ألا فليت المخدوعين بمغريات الدنيا ، المتفانين على سكرتها المسمومة ، يفطنون لهذه الحقيقة فيصونوا جباههم من تراب الهوان ، ويرتفعوا بأنفسهم ونواياهم وأعمالهم إلى المستوى الذي يفرضه الإيمان ، ليستحقوا مثل هذا المصير الذي انتهى إليه أبو حسان .

* * *

وغلبتني الذكرى .. وألفيت القلب المنكوب يتفتح عن مشاهد لا تنسى من حياة ذلك الحبيب .

تذكرت يوم عرفت الفقيد لأول مرة من خلال مقالة كتبها عن بدعة " أسبوع المشايخ " في حمص، فوجدتني تلقاء روح تحترق غيرة على حقائق الإسلام أن تحجبها ظلمات عصور الضياع والانهيار.

ثم لقيته مرة ثانية في اللاذقية يخطب عقيب معاهدة 1936 ، فإذا هو يجمع الأوصاف الثلاثة "خطيب منبر، وقائد عسكر، وواصف جؤذر" يتدفق بقوة لم أشهد مثلها من خطيب قبله .. يبدأ هادئاً حلواً جذاباً ، حتى إذا باشر مفاصل الفكرة غمرته الحماسة فراح يدفع بسامعيه إلى الأعلى .. إلى الجو الذي أراد.. كأنه قائد يباشر المعركة ، وسرعان ما يتحول سامعوه جنوداً يحصرون انتباههم في نطاق إشاراته .. وكأنما يراوده الإشفاق على سامعيه من عنف العاصفة ، فإذا هو يتحول من الشدة إلى الرقة ، وإذا هو يرسل النكتة تلو الأخرى ، في براعة موهوبة عجيبة لا تكاد تلامس أسماع القوم حتى ينطلقوا ضاحكين منتشين .

ثم لقيته للمرة الثالثة في دمشق ، وقد وصل لتوه من القاهرة ، وواكبه الآلاف من الشباب حتى الدار التي اتخذتها الجماعة للدعوة الانتخابية ، وإذا هو يتسنم المنبر الذي كأنما خلق له . ولأول مرة في ذلك اليوم تسمع دمشق صوت الإسلام يدوي بالمعاني الجديدة للانتخاب البرلماني ، الذي يريد الفقيد وإخوانه أن يكون وسيلة لتجديد رسالة دمشق التي بدأتها من أيام الفتوح الأولى ، بعد أن كان مفهوم الانتخاب لا يتجاوز تأييد فلان ، ونكاية فلان .. وتأمين أكبر قدر من المنافع لجنود الشيطان .

ثم جمعتني به حفلة أقامتها في طرابلس جمعية الشبان المسلمين ، فألقيت فيها أول كلمة كتبتها عن العدالة الاجتماعية في الإسلام ، وتكلم هو في الموضوع فكانت خطبته المرتجلة تشقيقاً وتفريعاً ثم توكيداً للحقائق التي عرضت لها مؤيدة بأحداث التاريخ الإسلامي ، التي كانت براهين لها قاطعة في مجال التطبيق . ولا أزال أذكر محاولة بعض الناقمين من الإسلام يومئذ إثارة المنافسة بين محاضرتينا فخصص بالإطراء حديثي. وراح يدس في إطرائه السموم ، فقلت له :

على رسلك .. إن أكن قد أحسنت حقاً فللسباعي الحق الأول بهذا الإطراء لأنه السابق إلى كشف هذه الجوانب المجهولة من فضائل الإسلام .

ثم جاءت معركة فلسطين سنة 1948 ، وكانت خطب الفقيد العظيم هي الوقيد الذي حرك الهمم لبذل الأموال والنفوس ، ينتقل بين بلد وآخر، يحث ويوضح ويذكر، فيترك في كل قلب دوياً ، وفي كل بلد نشاطاً قوياً .وقاد كتائب الجهاد في بطاح البلد المقدس ، في عزيمة وإخلاص ليس الحديث عنهما شأن هذا الحديث . ولكن أذكر موقفاً له لا تستطيع الأحداث أن تزيله من مخيلتي ، وكان ذلك عقيب الهدنة الأولى ، وقد عاد من ساحة المعركة ، ليتحدث إلى الشعب عن مصيرها وملابساتها وما وراءها من المؤامرات ، وانتصب السباعي يومئذ في ندوة (السنجقدار) وسط الآلاف المؤلفة من المستمعين المتلهفين لأنبائه ، وانتشروا في الشوارع ، وفي المنازل والفنادق المطلة ، يرهفون أسماعهم إلى الرجل الذي وثقوا بصدقه ، لأنهم لم يجربوا عليه الكذب .. الرجل الذي يقود صفوة من أبنائهم ، الذين هجروا مدارسهم وجامعاتهم ومتاجرهم ووظائفهم للذياد عن وطن الإسلام ، الذي زرعه صحابة نبيهم صلى الله عليه وسلم بجماجمهم وأشلائهم ودمائهم ، ورأيت الفارس المحارب يقف كالنمر الهائج في ثياب الميدان مسربلاً بغبار المعارك ، ثم يتدفق بالزئير المخيف .. يصف ويعنف ، ويكشف وينذر الناس بالخطر الذي تهيئه الخيانات وراء خطوط النار، ويهيب بالشعوب العربية أن يكونوا حذرين وأن ينهضوا بكل قواهم لإكراه حكوماتهم على تصحيح موقفها بإزاء المعركة .

أجل .. والله .. لقد قال لنا السباعي يومئذ كل شيء يجب أن يقوله قائد باشر المعركة بنفسه وإخوانه ، وكشف لنا ستور المستقبل الرهيب الذي سنصير إليه ، إذا لم نسرع إلى الضغط على الحاكمين لتغيير خططهم المعدة بأيدي العدو .. المستقبل الرهيب الذي أصبح اليوم حاضراً نعيشه ، بعد أن كان أحاديث نسمعها ولا نكاد نصدقها .

وبلغ البطل يومئذ رسالته ، ثم عاد إلى الجبهة ليواصل حماية الثغرة التي عهد بها إلى كتيبته ، وليسقي الأرض المقدسة بمزيد من الدم الطاهر، الذي تسابق إخوانه لبذله في سبيل الله ، ليسجلوا للعالم المتآمر، من وراء وأمام ويمين وشمال ، أن أرض الإسلام لن تعدم الأحرار، الذين يقدمون أجسادهم في سبيلها طعاماً للحديد والنار.

* * *

وانتخب فارس الميدان والمنبر نائباً عن دمشق .. وكم من نائب هو إحدى النوائب ، وكم من نائب لا عمل له سوى تحريك الرأس ورفع اليد وتكثير عدد الأصوات للجانب الذي هو أجدى له !. وكان انتخابه تشريفاً للنيابة إذ كان رجل الساعة في ذلك المجلس الذي كانت أولى مهامه وضع دستور البلاد.

وطبيعي أن يقود السباعي معركة القرآن تحت قبة البرلمان ، وكانت معركة حامية الوطيس شغلت القطر السوري بأجمعه ، بل العالم الإسلامي الذي أخذ يرقب مصير الإسلام في عاصمته الثانية .

وقد أثبت أبو حسان أنه النائب الذي يدرك أن مهمته في ذلك المجلس ليست إلا جزءاً من مهمته في كل بلد وقرية ، فشغل الجماهير وأثار العزائم وحشد القوى للضغط على دعاة العلمنة .. الذين حاولوا الوقوف في وجه التيار الإسلامي ، ليسبغوا على الدستور لون أفكارهم المجتلبة ، فما لبثوا أن باؤوا بالهزيمة ، وانتصر دعاة الإسلام ، الذين فرضوا على الدستور صبغة التشريع الذي أنزله الله لإنقاذ البشرية من لوثات الجاهليات الجديدة والقديمة .

ولقد كان القلم أحد أسلحته الجبارة في تلك المعركة ، به يرد على الصحف المنحرفة ، وبه يزيف دعاوى الزائغين ، الذين زعموا أنهم يحاربون (أسلمة) الدستور باسم القوانين . وكانت الجماهير المؤمنة ، وفي طليعتها المثقفون عشاق الأدب الرفيع ، تترقب مقالاته تلك في " المنار" لتتداولها في لهفة حارة ، حتى ليرتفع ثمن العدد الذي يحملها إلى خمسين ضعفاً .

* * *

وكان الفقيد العظيم أشد الناس بغضاً للانقلابات العسكرية ، لإيمانه أن السبيل الوحيدة للإصلاح ، أياً كان، إنما هو الفكر الحر والمنطلق العلمي المبني على الحجة المفحمة .. وهذا ما دفعه إلى استنقاد مجهوده في سبيل إقناع أديب الشيشكلي بإعادة الحياة البرلمانية إلى البلاد ، بعد تلك الاندفاعة الحمقاء التي قوض بها العهد الدستوري .

وتردد أياماً بين الشيشكلي والواليبي المعتقل ، تحقيقاً لهذه الغاية ، ولكن النجاح كان مستحيلاً عليه، لأن طموح الشيشكلي لم ينسجم مع الغاية التي يريدها الفقيد ، لذلك سرعان ما قلب له ظهر المجن ، وضمه إلى صديقه رئيس الوزراء الدكتور معروف في معتقل المزة ، وأعقب ذلك بمصادرة حرية الجماعة فأغلق مراكزها ، ووضع رجالها تحت مراقبة شديدة . وبعد مدة غير يسيرة أخرجه من المعتقل لمواجهته ، وقد حدثني أبو حسان ، عليه رحمة الله ، بالبحث الذي دار بينهما يومذاك :

قال الشيشكلي : يؤسفني أيها الأستاذ أن تصدر عني إساءة نحوك ، وأنا الذي أقدر جهادك ، وأثق بإخلاصك ومن معك .. وقد كان الأحرى بنا أن نأتلف بدلاً من أن نختصم ونختلف .. ومع ذلك فإن المجال لا يزال أمامنا متسعاً لذلك فلننس الماضي ولنتعاون .

فقال أبو حسان : ولكن الذي وجدته منك أكد لي ألا سبيل إلى التلاقي .

قال الشيشكلي : ولم لا .. إنك تدعو إلى الإسلام ، وأنا والله مسلم يملأ قلبي الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، فكيف لا يتم تلاقينا .

قال الفقيد : لعلك تفهم الإسلام عبادة وعقيدة وحسب ، أما نحن فالإسلام في مفهومنا نظام يشمل الحياة ويقدر لكل شيء حسابه ، لأن الله يقول لنا : [ما فرطنا في الكتاب من شيء] ومعنى ذلك أننا لا نستطيع القبول بالواقع الذي تفرضه القوة ، ولا بد لنا من النضال بكل الوسائل المشروعة حتى نعيد إلى هذه الديار نظامها الإسلامي الذي به دخلت أمتنا التاريخ ، وبه تسنمت مركز القيادة العالمية من أوروبة إلى أقصى الصين .

وهنا لم يبق متسع لاستمرار المحاولة ، فأعلن صاحب الانقلاب أسفه لإصرار السباعي على معارضته ، ونهض ليودعه وهو يقول " إذن فنحن معذورون في اتخاذ كل ما نراه ضرورياً لحماية أهدافنا . ولكني آمل ألا نيأس من إمكان التلاقي في وقت وآخر.. عندما تتضح لكم حقيقة أغراضي يا دكتور !.."

وكان طبيعياً أن يفرض الحصار على تنقلات الفقيد ، وعلى داره ، التي أخذت تزدحم بالزائرين من مختلف أنحاء دمشق وغيرها . ثم رأى الشيشكلي أن دمشق لا تتسع له وللفقيد فأخرجه إلى لبنان ، حيث بقي في منفاه هذا إلى نهاية ذلك العهد .

وفي حياة الفقيد بلبنان ، مدة النفي ، صور رائعة من جهاده وأخلاقه ، لا يحسن أن يغفلها الذين يتحدثون عن شخصية ذلك المجاهد الدؤوب ، والأبي الأنوف .

لقد عاش أيامه تلك في خدمة للإسلام لا تفتر، فمن محاضرة ، إلى حديث ، إلى تأليف . ولقد حدثني عدد من المثقفين من مختلف الطوائف أن للسباعي الفضل الأكبر في تعريفهم حقائق الإسلام ، التي ما كانوا ليعلموا عنها من قبل شيئاً .

ومع ذلك فإن أسوأ ما لقيه السباعي في تلك الأيام وما وليها إنما جاءه عن طريق شباب كانوا أحق الناس ببره وحبه ، وكان ذلك يوم عاد إلى سورية ليستأنف نشاطه في خدمة الحق ، فإذا هو يواجه سلسلة من التدابير حيكت في غيابه للتسلط على الجماعة ! إنها محاولة انقلاب بدأت خفية وراء الستور، ثم ما لبثت أن خرجت إلى الملأ تواكبها وتؤرثها تحريشات الصحف المشبوهة ، التي لم يعرف لها قط سابق اهتمام بقضايا الإسلام ، إلا عند مهاجمة دعاته ، والدعوة إلى عداته .

وأشهد .. لقد تحمل أبو حسان من ظلم هذه الفئة ـ سامحها الله ـ ما تنوء به كواهل العصبة أولي القوة . وحسبي أن أذكر مشهداً واحداً من هذه المأساة ، ولولا خشية الإساءة لمن لا نحب إيذائهم من إخواننا الأحياء ، لوجدت متسعاً لعرض الكثير من هذه المشاهد ، التي لا أشك أنها كانت من العوامل التي انتهت به إلى الشلل.

حدث ذلك في دمشق ، وفي اجتماع ضم طائفة من قادة الجماعة ، بينهم من مصر الأستاذان أبو رقيق وحسن العشماوي ، ومن سورية الأساتذة عصام العطار وعبد الكريم عثمان (رح) ، وحضر الاجتماع الأستاذ (فلان) عن الفئة الأخرى .

وطرحت الأفكار بصراحة ، وفسح مجال القول لمن شاء ، ووجد الأخ (فلان) الفرصة مواتية لتفجير ما حمل من ألغام ، فإذا هو يقول في لهجة مضغوطة لم يستطع أن يلطفها :

" هناك أسئلة تطلق ولا نعرف بماذا نجيب عليها .. أولاً .. مصروف الأستاذ السباعي أثناء وجوده في لبنان طوال زمن النفي .. من أين أتى به ؟ ثم هناك مبلغ من المال كان قد قبضه من الأستاذ (أمين...) قبل سفره إلى فرنسة لنوال الدكتوراه .. كيف تصرف به ؟ وبأي حق ؟ "

ووجمت الألسن ، وغامت الوجوه تحت غشاء الدهشة المرة ، إذ لم يكن أحد منا يتوقع أن تصل الخصومة في القوم إلى حد اتهام الرجل الذي وهب كل شيء في سبيل الدعوة .

ولكن وجهاً واحداً لم تزده هذه الجرأة إلا إشراقاً وابتساماً ، هو وجه السباعي ، الذي ظل محتفظاً بهدوئه واطمئنانه المألوف في مثل هذه المجالس الخاصة، كأن شيئاً مؤسفاً لم يحدث ! وكان عليه أن يجيب ، فقال :

" أما مصاريف المنفى فيخجلني أن أضطر لكشف الستر عن وضع لا يخص أحداً سواي ، وهو أنني كنت أقترضها من ابن عمي عبد السلام السباعي في بيروت ، حتى بلغت ديوني بسبب ذلك قرابة العشرين ألف ليرة . ولقد كان في وسعي أن أنجو من هذه الديون لو قبلت معونة أخ واحد من الكويت .. لقد بعث إلي بالسيد رفعة الأيتوني يقول : " إنك موقوف عن العمل ، (2) ولا مورد لك ولأسرتك ، وأن أخاك هذا كلفني أن أقدم إليك راتباً شهرياً ريثما تنكشف محنتك ".

ولكنني رجوت من السيد الأيتوني أن يرفع إلى الأخ الكويتي شكري على مروءته ، ويؤكد له أنني في غير إلى شيء من ذلك ، فألح وطلب إليّ أن أعد ذلك من باب الاقتراض فقلت : إنني أقترض من ابن عمي ، ولا أحب أن أكون مديناً لغيره .

وهنا طلب الأستاذ عبد الكريم عثمان الإذن بالكلام والتفت إلى الأستاذ (فلان) يقول :

أتذكر يوم كذا ... وكنا نتحدث عن الأستاذ السباعي فقلت لي : حقاً إن الرجل مظلوم .. وضربت لي مثلاً على ذلك بأنه قد تلقى من الدكتور (أمين ...) هبة باسم الدعوة فدفعها إليك بدوره لتنفقها على مصالح الجماعة، وقد فعلت . ثم قلت : ومع فإن بعض الألسنة غير النظيفة تريد أن تتحرك بالباطل لتتهم الرجل بأنه استأثر بالهبة لنفسه !

وأطرق (فلان) .. وقد تذكر كل شيء ، ولكنه لم ينطق بحرف .. ثم انفض الاجتماع لصلاة الجمعة ، ففارقنا إلى غير رجعة !

* * *

واستأنف الفقيد جهاده ، كشأنه المعهود ، في نشاط لا يعرف الكلل .. وكانت طلائع المرض قد بدأت تدهمه بين الحين والآخر، فيرتفع ضغطه حتى يلزمه الفراش . ويلح على إخوانه بإعفائه من العمل لينصرف إلى معالجة طويلة . وقلت ذات مرة وهو يصر على طلبه الإعفاء " إنني لواثق من الخطر الذي يتهدد صحتك ، ولكن هل بوسع العلاج أن يمد لحظة في أجلك المقرر !.. إنك ميت على كل حال وأنا أوثر لك أن تقضي شهيداً في قلب المعركة ، على أن تموت حتف أنفك في الفراش ".

وكان طبيعياً لجسد يسرف في إحراق وقوده ، أن ينطفئ أخيراً ،وفي سرعة . وهكذا وقع القدر ، ونزل به الشلل الذي انتهى به إلى الانفجار.. فالانطفاء !..

ولا أزال أكر يوم وقعت عيني عليه بعد الإصابة فلم أستطع تمالك دمعي ، فجعل يسليني بما يذكرنيه من حكمة الله ، وجمال التسليم إليه .

وقص عليّ ظروف المصيبة وما لابسها من لطف الله ، إذ كان في خلوة بعيدة عن الناس في فندق من (ضهور الشوير) بلبنان ، حيث قضى أياماً في راحة لم يحلم بمثلها من زمان ، ولكنه فوجئ أخيراً بانقباض في صدره لم يستطع تفسيره ، ما لبث أن استحال إلى قلق عنيف ، فدعا بالنادل ، وطاب إليه أن يؤمن سفره عاجلاً إلى بيروت ومن ثم إلى دمشق . وهناك سأل أهله عن والديه وتفقد أسرته ، فوجد كل شيء كما يحب ، إلا أنه ما كاد يستريح قليلاً حتى وقعت الفاجعة .. فإذا هو في قبضة الشلل !.. وكان ذلك آية من رحمة الله الذي لم يأذن بوقوعها في غرفته المنعزلة في (ضهور الشوير) .. ولو حدث له ذلك هناك لكان متعذراً أن يعلم به أحد قبل ساعات ، لأنه موص خدم الفندق ألا يدلوا عليه أحد وألا يواجهوه إلا بطلب منه !

وقال لي أبو حسان وهو يمجد الله على عنايته :

" لا أشك في أن هذه الإصابة كان خيراً لي وأوفر أجراً .. ذلك لأن مشاغل الدعوة والسياسة كانت تستهلك وقتي جميعاً ، فلا أجد متسعاً للتأليف الذي أريد ، أما اليوم فقد أتاحت لي المصيبة فرصة ما كنت لأتصورها ، وها أنذا أكتب ما لم أستطع كتابته من قبل ، وكل ما أتمناه هو أن يعينني ربي على تسجيل كل ما لدي من أفكار في خدمة دينه ، ونصرة شريعته .

وحقق الله لأبي حسان رجاءه ، فإذا هو يضم إلى التراث الإسلامي باقة من أنفس ذخائره ، التي أخرجها الفكر المؤمن خلال هذا القرن .

* * *

ويشاء الله أن ألقاه أثناء موسم الحج ـ لعام 1382 هـ ـ في مكة المكرمة ، ثم في منى . وشد ما أحزنني منظره ، وقد بلغ منه الهزال والضعف مبلغاً كبيراً . وضبطت أعصابي وأنا أرقب شمعته التي خيل إلي أنها على حافة النهاية . ثم خلوت لنفسي أبكيه وأدعو له ، وذكرت رفاقي بحاله وسألتهم له الدعاء .. وأشهد ، لقد سمعت ضراعاتهم تصاعد من حول الكعبة ، وفي الطريق إلى مدينة الرسول ، وعلى مقربة من الضريح المبارك .. تسأل الله العافية للرجل الذي أحرق قلبه ، وأذاب وجوده في سبيله .

ومن هنا كان عظم الفرحة التي اعترتني ، وأنا أسمع إلى أنباء تقدمه الصحي عقيب عودته من الحرمين، ثم عندما كنت أنظر إليه وهو يتقدم نحوي بنشاطه الجديد يوم اللقاء الأخير!

ولقد تركته يومئذ ، وأنا كبير الرجاء بأن يتكرر بيننا هذا التلاقي في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إذ كان هو على أهبة السفر إلى مقر عمله الجديد في المسجد الحرام ، وكنت على أمل الانتقال إلى مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم للعمل في جامعتها الإسلامية .

ولكن شاءت حكمة الله أن أتلقى خبر نعيه ، في الوقت الذي كنت أترقب نبأ سفره !

وهكذا قضي علي أن أحرم أنس أبي حسان ، وأنا أشد ما أكون رغبة فيه وشوقاً إليه !

ولكن ذكرى أبي حسان قلما تفارق خاطري .. إني لأذكره وأنا في الجامعة بين زملائي من علمائها الفضلاء، ومع شبابها من جنود الإسلام ، الذين تعدهم للنهوض بأعباء الرسالة ، التي أسلم السباعي روحه وهو يجاهد لخدمتها ورفعتها .

أتذكره وأنا أفكر في مصيره الأخير فلا أجد مندوحة عن الربط بينه وبين الظروف التي رافقت إصابته .

لقد أكرم الله أبا حسان يوم الإصابة ، فألهب مشاعره حتى انطلق إلى دمشق ليتلقى قدر ربه في بيته ، بين عطف الزوج الوفية ، ولهفة الصغار الأحبة ، وحنان الأبوين الشفيقين .

ثم أكرم الله أهله ومحبيه وزوجه وبنيه ، فوافاه بالأجل المحتوم في فراشه ، وفي البلد الذي أحبه ، فأتيح لهم بذلك أن يمتعوا أبصارهم بمشهده الأخير، على فراش الموت ، وفوق راحات الأوفياء من تلاميذه في الدعوة ، التي أعطاها وجوده ، وفي كلية الشريعة التي شاء الله أن يحقق وجودها بجهوده ، ليخرج منها للإسلام صفوة جنوده !

وأخيراً ، إنها لكرامة ، أي كرامة ، أن تكون جنازة أبي حسان فرصة لإثارة الروح الإسلامي الذي توهم كثير من قصار النظر أنه قد اندثر!

ولا عجب ، فإن هذا الإسلام الذي أراد الله أن يكون أبداً مدرسة الأبطال ، قد جعل مصطفى السباعي بطلاً يرهف في حياته العزائم ، ويبدع في مماته العظائم .

وأعود إلى اللحظة الرهيبة ، التي تلقيت فيها النبأ الفاجع .

لقد كنت أطالع حياة الفاتحين من الصحابة في ارض العراق .

ووقفت ملياً عند نهاية البطل العظيم الذي بترت ساقه في ساحة المعركة ، فلم يقفه ذلك عن مواصلة النضال على الساق الأخرى حتى بترت هذه ، فإذا هو يتابع كفاحه زحفاً ، إلى أن وطئته الخيل وهو يضرب بسيفه في العدو !

وها نحن نتابع كفاح أبي حسان في مختلف مراحله ، وعلى اختلاف ميادينه ، فنراه مقدماً بكل ما يملك من سلاح وخبرة ، لا يعوقه عن ذلك سجن في (المية ومية) ولا اعتقال في غيره .. ولا نفي في لبنان ، ولا شلل من حقه أن يقعد الأبطال ، حتى يفاجئه الأجل وهو يوجه آخر طعناته إلى أعداء سنة رسول الله وصحابته الأجلة ، في مؤلفه الدامغ " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ".

فاللهم ارحم أبا حسان واغفر له ، واجزه عن دينك وكتابك خير ما تجزي العلماء العاملين .

اللهم قد روينا في السند الصحيح عن نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم أن المرء مع من احب، فاحشره إليك مع صفوة خلقك ، واجمعنا به في مستقر رحمتك ، مع النبيين والصدقيين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .

* * *

وبعد .. فهذه كلمات كتبتها قبل أربع عشرة سنة ، وأعيد فيها النظر الآن ، فألفيها كيومها الأول ، صورة حية للشعور الذي لا يزال يغمرني كلما عاودتني تلك الذكريات التي لا تنسى .

وأمسك القلم لأسجل ما يحسن أن يكون ترجمة صالحة لذلك الأخ الأثير فلا أكاد أجد مزيداً على ما أسلفت يومئذ ، اللهم إلا أن أقول :

إنه مصطفى بن حسني السباعي .. ولد عام 1333 هـ في حمص ، وفيها نشأ وترعرع وتلقى تعليمه حتى ما قبل الجامعة ، وأول المؤثرات في تكوينه الخلقي والفكري ، بيته ذو الطابع الديني والعلمي ، فقد كان والده الشيخ حسني خطيب الجامع الكبير في حمص ، وقد انتهت إليه هذه الخطابة عن آبائه وأجداده ، وامتازت أسرته بكثرة العدد والعلماء ، وقد عوده أبوه أن يصحبه إلى مجالس العلم وهو لما يتجاوز سن الحداثة ، ومنه تسرب حب الخير وكره الاستعمار، وشهد والده وهو يشارك في قتال الفرنسيين والمرتزقة من أعوانهم ، مع الشباب والمشايخ الذين أعادوا لحمص سيرة البسالة الإسلامية ، بما أوقعوا في قلوب العدو من الرعب ، وبما قدموا لدينهم ووطنهم من التضحيات ، فكانوا بذلك إحدى الحلقات المتممة لسلسة البطولات ، التي شاركت في تسجيلها أيامئذ معظم المدن والجبال الشامية ، من حوران إلى أقصى الإسكندرون ، فلم يبق بلد من سورية لم يلمع فيه اسم أو أسماء مغاوير أحيوا في الأذهان ذكريات الفرسان الذين ملؤوا تاريخ الجهاد دوياً لا يخفت مدى الدهر.

دراسته :

بدأ حفظ القرآن الكريم قبل الالتحاق بالمدرسة ، ثم اقبل على الدراسة النظامية حتى أتم المرحلة الثانوية وهو في الخامسة عشرة ، ولم ينقطع أثناء ذلك عن مجالس المشايخ مع والده ، وداب على المطالعة التي وسعت آفاق تفكيره ، حتى كان ينوب عن والده أحياناً في خطبة الجمعة ، فيفيض على جموع المصلين بكل ما يبعثهم على الإعجاب والانفعال .

ومن ثم شخص إلى مصر لاستكمال دراسته في كلية الشريعة ، واستمر في طريقه هذا إلى أن نال شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي 1368 هـ وكانت رسالته فيها كتاب " السنة ومكانتها ..." الذي أحرز إعجاب المشرفين والمناقشين . وقد سد يومئذ فراغاً كبيراً في مجال السنة ، إذ كان تفنيداً علمياً قاهراً لأباطيل أبي رية ومن ورائه من المخدوعين والمضللين ، وقال عنه علامة الشام المغفور له الشيخ بهجة البيطار:

(لو أن العمائم على مقدار العلم لكان من حق السباعي أن تملأ عمامته هذا المسجد بفضل هذا الكتاب) .

في التعليم :

بدأ عمله ـ قبل الدكتوراه ـ مدرساً للدين والعربية في بعض ثانويات حمص ، وقد أقبل على ذلك المسلك بنشاط وإيمان ، إذ كان على أتم اليقين بأن إصلاح التعليم هو المنطلق الذي لا مندوحة عنه لكل ما يجول في قلبه من آمال في مستقبل الإسلام ، ولما تحقق من قصور المناهج الرسمية ، وندرة النوعية المنشودة من المدرسين الواعين لحقائق الإسلام ، الناهضين بمسؤولياتهم ، تحول من التعليم الرسمي إلى التعليم الخاص ، وأنشأ بالتعاون مع بعض العناصر الصالحة بدمشق (المعهد العربي الإسلامي) الذي كان له الفضل في تخريج أفواج من الشباب المزود بالوعي والخلق ، ولم يكتف بذلك بل أحدث له فروعاً على شاكلته في عدد من المحافظات .

وشاء الله أن يتحول مرة ثانية من التعليم الخاص إلى التدريس الجامعي ، فعين أستاذاً في كلية الحقوق عام 1950 ، وهناك يلتقي بالكثيرين من خريجي المعهد وغيرهم من الطلبة الجامعيين ، الذين وجدوا فيه طرازاً جديداً من المدرسين لا يكتفي بالمحاضرات يلقيها ، بل لم يدع وسيلة تساعدهم على التقدم العلمي والتحرر العقلي إلا عمد إليها ، حتى اجمع الطلاب على تقديره وحبه ومتابعة حلقاته ومناقشاته بكل رغبة واجتهاد .

كلية الشريعة :

وفي ضوء هذه التجربة الجامعية ، مضافة إلى نجاحه وإخوانه في إسباغ اللون الإسلامي على دستور البلاد الجديد كما سيأتي ، بدأ مساعيه الجبارة لإحداث كلية للشريعة في جامعة دمشق ، تزود البلاد بحاجتها من الفقهاء الصالحين الذين تتطلبهم المرحلة الجديدة . وتوج الله مساعيه وإخوانه بالتوفيق ، فأنشئت الكلية وعهد إليه بعمادتها الأولى ، فانطلق بها في طريق النمو والعمل والتعميق ، حتى اصبحت على حداثة عهدها في طليعة الكليات تقدماً في ميدان العلم ، وتأثيراً في أوساط المجتمع، وكان لها بمثابة الأب الحاني يقدم إليها كل يوم جديداً من التضحيات ، وقد كان لـ (قاعة البحث) التي أحدثها في هذه الكلية أثر بعيد المدى في تفجير المواهب ، وتوسيع آفاق المعرفة لدى الطلاب ، الذين وجدوا فيها متعة جذابة تمدهم بزبدة التجارب العلمية ، وتفسح له مجالاً جديداً لبناء هذه العقول والنفوس المتفتحة لكل خير، حتى إنه لم يكن بقادر على إغفال أي موعد له معها ، مهما يشتد عليه الألم الذي شاء الله ألا يزايله منذ ألم به .

الموسوعة :

ورأى من ضروريات العمل ، لتوسعة سلطان الفقه الإسلامي ، تيسير السبل الكفيلة بتقريبه من متناول القانونيين والعاملين في نطاق التنظيمات القضائية والحقوقية ، ومن هنا انبثق اتجاهه وإخوانه، من المشاركين في هذا المضمار إلى تكوين " موسوعة الفقه الإسلامي " فبدأ العمل فيها داخل كلية الشريعة ، ولكن المشروع أكبر من طاقة الكلية والجامعة ، ولا بد له من مساندة دولية تتعهده بالمخصصات المالية اللازمة ، وكانت الوحدة قد جمعت بين مصر وسورية ، فسكنت التحركات السياسية ، وتوقع الناس عهداً جديداً من الخير ينعم به الإقليمان ، وتناسى إخوان سورية جراحهم التي أنزلها الحكم السابق ورجالها في مصر ، فتقدم السباعي باقتراح إلى جمال عبد الناصر يدعوه إلى تبني أمر الموسوعة ، على اعتبارها من أهم الأعمال التي يستطيع تحقيقها ، واستجاب للاقتراح أول الأمر، والفت اللجنة المختارة واتمت بعض الخطوات المبدئية في المشروع ، ثم توقف العمل الذي لم يشأ الله إتمامه لأمر هو أعلم به ، ومن ثم انتقل إلى الكويت ، حيث ترواح المشروع وما يزال يترواح بين مضي وتوقف ، وقد بدت تباشير استئنافه في عزيمة جادة وإمكانيات علمية .

في أتون السياسة :

وفي عام 1949 بعد انحسار ظلمات الانتداب الفرنسي عن سماء سورية لم يكن بد من تنظيم قواعد الدولة ، بإقامة المؤسسات الدستورية الضرورية ، فاقتضى ذلك إجراء انتخابات تقدم البلاد بها ممثليها لوضع قانونها الأساسي ، وكان على رجال العمل الإسلامي في دمشق ألا يغيبوا عن هذه المناسبة ، التي كان لهم الفضل الأكبر في قيادة البلاد إليها ، فقرروا خوض الغمرة بطائفة من الرجال الموثوقين ، ليشاركوا في توجيه المستقبل ضمن الخط الإسلامي ، وقد الله النجاح لهؤلاء بالكثرة من الأصوات ، وفي مقدمتهم الرجل الذي عرفته سورية كلها من خلال نشاطه الذي حرك الخامد من العقول والضمائر.

وسرعان ما لمع نجم الفقيد داخل المجلس التأسيسي كما كان خارجه ، فاختير نائباً لرئيسه ، وكان أحد التسعة الذين عهد إليهم بوضع مسودة الدستور.

وكان على النواب الإسلاميين أن يخوضوا معركة حامية لتوكيد المقاصد الإسلامية في ذلك الدستور، على وجه يحفظ للشام طابعها الموروث منذ عهد النبوة . وقد زاد المهمة تعقيداً قلة عدد هؤلاء بالنسبة إلى مجموعة النواب ، إذ كان المهيمن على مسرح الانتخاب نواب من اتجاهات أخرى، يضاف إلى ذلك فقدان الوعي الإسلامي الصحيح من أوساط العامة ، الذين لا يملكون القدرة على تصور النتائج ، التي تخطط لها الأيدي الخفية من وراء ألف ستار، فهم مأخوذون بالدعايات الصارخة التي تجعل (الوطنية) الظاهرية هي المقياس الأمثل لتقديم الأشخاص ، دون بحث عمن وعما خلفهم من التيارات .

وشملت المعركة البلاد كلها لا المجلس وحده ، وقد قادها السباعي وإخوانه من التجمع الإسلامي بشجاعة قاهرة وعزيمة باهرة ، حتى تمكنوا من استبعاد الطابع العلماني عن الدستور، وتثبيت اللون الإسلامي على معظم أحكامه الأساسية .

في الصحافة :

وكانت الصحافة إحدى أهم الركائز التي أحسن السباعي استخدامها في تلك المعركة ، فعن طريق (المنار) ـ جريدة الدعوة يومئذ ـ كان يحرك الجماهير بالكشف عن محاذير المسلك غير الإسلامي ، وبافتتاحياته الباهرة بل الساحرة كان يناقش المساندين لتجريد الدستور من اللون الإسلامي ، باسم العلوم الدستورية ، فيرد بالحجج القانونية ، التي لا ترد دعواها الباطلة التي توهم الجاهلين وأنصاف المتعلمين بصحة مزاعمهم ، فتأتي هذه الافتتاحيات لتحيل ما بنوه في الهواء هباءً منثوراً ، وتستقطب كل يوم أفواجاً من المؤيدين للاتجاه الإسلامي ، بعد أن كانوا من المعارضين له ، أو المترددين بشأنه، حتى ليرتفع ثمن العدد الواحد بسبب هذه الافتتاحية إلى أضعاف أضعاف ثمنه .

ولم يقف نشاطه الصحفي عند معركة الدستور وحدها ، بل استمر مرافقاً له حتى اللحظات الأخيرة من حياته ، إذ كان موقناً بأن الصحافة ـ إلى جانب المدرسة ـ أفعل الوسائل في الإصلاح والإفساد، وإذن فلا بد للفكر الإسلامي من صحافة تدافع وتهاجم وتنشر الوعي بين الجماهير، التي هي هدف التيارات الهدامة جميعاً ، ويجب أن تكون القاعدة الأساسية لكل عمل إسلامي صحيح . ومن هنا كان اهتمامه بهذا الجانب من وسائل الإعلام ، فأنشأ (المنار) يومية عام 1947 ثم (الشهاب) شهرية ، التي استمر صدورها حتى عام 1958 الذي تمت فيه الوحدة بين القطرين ، فتوقف نشاط الجماعة وما لها من وسائل النشر.

ومنذ توقفت مجلة (المسلمون) في مصر شرع في تجديد إصدارها من دمشق على نفس الخطة التي عرفت لها من قبل ، ثم حولها إلى (حضارة الإسلام) الشهرية التي ظل قائماً عليها حتى توفاه الله ، ولا تزال حتى الساعة مواصلة صدورها وجهادها في خدمة الإسلام ، برئاسة أخيه في الدعوة الدكتور محمد أديب الصالح الأستاذ في جامعة دمشق .

في المعتقلات :

والسياسة بالنسبة إلى شخصية السباعي جزء لا يتجزء من الحياة ، لأنها العمل الذي يتولى الجانب الأكبر من قيادة المجتمع ، فلا سبيل إلى عزله عن مجال المصلحين ، إذ لا سبيل إلى تحديد منطقة كل من المصلح الاجتماعي والقائد السياسي في حياة الشعوب . وهكذا بدأ الفقيد نشاطه السياسي مطلع شبابه ، أيام كان يرسل خطبه الأولى من على منبر الجامع الكبير في حمص بلد ابن الوليد ، ثم مضى يحمل قسطه في عملية النضال ضد الاحتلال الفرنسي ووسائله المختلفة ، فقاوم مدارس التبشير بالمنشورات الدامغة ، وشارك في التظاهرات الوطنية لمكافحة الاستعمار. وفي مصر شارك في إثارة الوسط الأزهري ضد الاحتلال الإنجليزي ، وأثناء الحرب العالمية الثانية عمل مع المؤيدين لثورة رشيد عالي الكيلاني لتحرير العراق من الإنجليز. وقد به ذلك إلى عدد من الاعتقالات ، ففي عام 1931 سيق إلى سجون الفرنسيين بتهمة مسئوليته عن منشورات وزعت في سورية احتجاجاً على سياستهم في المغرب ، وفي عام 1932 اعتقل ثانية في سورية بسبب إحدى الخطب المثيرة ، وفي عام 1934 اعتقله الإنجليز في مصر، وفي عام 1940 أعاد الإنجليز اعتقاله في قضية رشيد عالي ثم أبعدوه إلى فلسطين واحتجزوه في معتقل (صرفند) وفي سنة 1941 اعتقله الفرنسيون مرة أخرى وجعلوا ينقلونه بين سجون حمص وبيروت والمية ومية وقلعة راشيا ، حيث بقي سنتين ونصف السنة معرضاً لأصناف النكال .

السباعي وفلسطين :

وكانت الأحداث تتابع بقوة مفزعة في قلب فلسطين ، وكلها تشير إلى النهاية المخططة من قبل الاستعمار وأعوانه . ولم يكن ليفوت الفقيد أبعاد المؤامرة بالنسبة إلى أقطار العرب ومستقبل الإسلام كله . ولم يجد سبيلاً للقيام بالواجب نحوها إلا الإقبال على جماهير المسلمين بفتح أعينها على الكارثة القريبة ، فراح يتجول في المدن السورية محذراً منبهاً ، آخذاً عليها المواثيق المغلظة لنصرتها ، وكان ذلك عام 1943 والبلاد السورية تحت كابوس الأحكام العرفية ، فلم يعبأ بعواقب ما يفعل . واستمر على ذلك في حماية ربه حتى ألهب المشاعر وشحذ العزائم ، وهيأ الجو للمعركة الفاصلة .. حتى إذا دوى نفير الجهاد عام 1948 نهض لاستجابة الداعي يقود كتائب الإيمان إلى قلب فلسطين ، واختار مجال عملها منطقة القدس ، حيث حققت أروع البطولات في قتال لم تشهد شوارع بيت المقدس له مثيلاً قط ، حتى استخلصت من العدو أجزاء كانت الأيدي المجرمة تتفانى في الحفاظ عليها ، ولم يتوقف ذلك الجهاد الرهيب إلا بعد أن توقفت الحرب كلها بخضوع الحكومات العربية للهدنة المفروضة ، وإكراهها المجاهدين على التراجع عن الأرض الحبيبة .

نضال لم يتوقف :

ولكن سكوت الرصاص لم يمنع السباعي من مواصلة طريق الواجب ، فعاد من جهاد البندقية إلى جهاد البيان ، ومضى يكشف للناس ستور المؤامرة الكبيرة ، والمخططين لها والضالعين معهم . وما زال يكافح في هذه السبيل حتى استطاع إقناع المسئولين بإدخال القضية الفلسطينية كمادة دراسية في مناهج التعليم ، كي تظل الأجيال على ذكر منها ومن الوعي لملابساتها وأبعادها ، وراح في الوقت نفسه يعقد البحوث حولها بصورة مستمرة في مجلة (حضارة الإسلام) التي لا تبرح حتى الساعة تتابع طريقه في موضوع (الدرة المغتصبة) .

في قتال الفرنسيين :

وكان العام 1945 موعد الحسم التاريخي للقضية السورية مع فرنسة بعد أن نقضت هذه عهدها ، ومزقت معاهدة الاستقلال التي عقدتها مع ممثلي الشعب السوري في باريس عام 1936 فتحركت البلاد تطالب بجلاء المحتل ، ورد هذا على ذلك بوحشية تجاوزت كل جرائمه السابقة . ومن هنا كان لا بد من اللجوء إلى السلاح مرة أخرى ، فانطلقت القوى الشعبية لقتاله في كل بلد .

وكان لفقيدنا الغالي جولات مذكورات في هذه المناسبة ، إذ وجد فيها المجال الذي طالما سعى إليه. وعرف مما خبره في حرب اليهود كيف يجعل من ضرباته للعدو ومع من معه من المرتزقة مفاجآت مرعبة تزلزل الأرض تحت أقدامهم ، حتى أتم الله فضله بطرد الأعداد الذين لم يلبثوا أن :

خرجوا في مواكب العار يحدوا هم هتاف الهوام والازدراء

وعلى الشام من طيوف مآسيـ ـهم بقايا الآلام بعد الوباء

في ميادين الدعوة :

أدرك الفقيد مبكراً أن طبيعة العمل الإسلامي قائمة على التعاون ، وهذا ما حداه إلى تأسيس وقيادة العديد من الحركات الإسلامية في سورية ، وأكد اهتمامه بهذا الجانب اتصاله بحركة (الإخوان المسلين) بمصر تحت قيادة الإمام حسن البنا . إذ وجد في تنظيماتها المحكمة المجال الذي يتطلع إليه، فما لبث أن ارتبط بها ، وشارك في أنشطتها المختلفة ، ومن ثم عمد إلى مد هذا النشاط المنظم إلى سورية ، فأنشأ بالتعاون مع إخوانه الجناح السوري لجماعة الإخوان المصرية عام 1945 واختير مراقباً عاماً له .

وسرعان ما استقطبت هذه المنظمة ذوي الاتجاه الإسلامي ، فإذا هي بعد قليل تحتل المرتبة العليا في توعية الجماهير وشحذ كفاياتها ، ولما زحفت كتائب الإخوان لنجدة فلسطين كان التعاون على أتمه بين الأصل والفرع ، سواء في جبهات القتال أو ميادين التدريب ، ولما أوقع فاروق غدرته في ظهور الإخوان ، وقام رئيس وزرائه إبراهيم عبد الهادي باغتيال الإمام البنا ، كان لا مندوحة لها من القضاء على نشاط رفيقه المختار مصطفى السباعي بالاغتيال أو بالاعتقال ، استكمالاً للمخطط المرسوم ، للتخلص من الجماعة التي يعتبر وجودها الخطر الأكبر على استمرار إسرائيل . ولكن الله شاء غير ما أرادوا فعجزت وسائلهم عن الوصول إليه ، وانطلق يقود التظاهرات الهائلة تملأ شوارع دمشق لنصرة إخوان مصر، كلما نزلت بهم نكبة ، أو تحرك الطغيان لينزل بهم ضربة .

القناة والعدوان الثلاثي :

والسباعي الذي بايع الله على الإسلام لا يستطيع تجاهل قضاياه حيثما كانت ، ومهما كانت الظروف التي تحيط بها ، وليس بوسعه التفريق بين قطر وآخر من بلاد الإسلام في هذا المضمار، لذلك كان في مقدمة المناضلين لمصلحة مصر يوم دعا الواجب إلى ذلك . ففي عام 1952 ألقي في السجن لمدة أربعة أشهر بسبب تحركه الشعبي لمؤازرة المقاتلين للإنجليز في معركة القناة . وفي سنة 1956 كان البرلمان المتدفق بالحمم أيام العدوان الثلاثي على مصر، وبمساعيه وتحريضه استحالة الجامعة بدمشق معسكراً للتدريب ، ضم بين جناحيه الأساتذة والطلاب على سواء . وقد أعلن وإخوانه تأييدهم المطلق لرجال الثورة في موقفهم من أعداء مصر، ناسياً كل ما أنزله النظام الديكتاتوري الإجرامي من نكال في قادة الدعوة وشبابها .

السباعي والشيشكلي :

ويوم قاد الزعيم أديب الشيشكلي بانقلابه على الحكومة القانونية بسورية تقدم للتوسط بينه وبين رئيسها السجين الدكتور معروف الدواليبي ، وجهد إقناع الشيشكلي بتصحيح موقفه ، حتى إذا استيأس من ذلك عالنه بالعداء فضمه إلى صديقه الدواليبي في سجن المزة . ثم بعد مدة أفرج عنه واستدعاه ، وجعل يحاوره معتذراً إليه عما أسلفه نحوه ، محاولاً إقناعه بالتعاون معه على اعتبار أنه مسلم لا يريد بالإسلام إلا خيراً . ولكن الفقيد كان أكبر من محاولة الشيشكلي ، فأفهمه أن الإسلام يقتضيه أن ينسحب من الحكم ويتركه للهيئات الدستورية ، ولا مكان للتعاون بينهما إلا على هذا الأساس ، فسقط في يد العسكري ، وأبلغه تصميمه على البقاء ، وعلى إلزامه بيته , ثم رأى أن سورية لا تتسع للاثنين فأمر بإخراجه منفياً إلى لبنان .

موقف لا ينسى :

ويأبى اندفاع الفقيد الانحصار في جانب من الأرض ، فكانت رحلاته إلى كراتشي سنة 1951 وأوربة سنة 1956 وموسكو سنة 1957 وفي كل منها كان له آثاره في الأفكار، وفي خدمة الدعوة ، ونقف من هذه الزاوية على مؤتمر بحمدون (1) سنة 1954 بخاصة .

لقد دعت إلى هذا المؤتمر طائفة من رجال العلم والسياسة الأميركيين باسم (المؤتمر الإسلامي المسيحي) وكان الهدف الأبعد لهم هو تأريث العصبية الدينية ضد الشيوعية ، بوصفها عدوة الأديان جميعاً . وبعد تردد رأى دعاة الإسلام في دمشق حضور المؤتمر لقطع الطريق على المستغلين .

وفي بحمدون دار نقاش طويل عريض حول الدين والإلحاد والماركسية ، وكاد الأمر يتحول لمصلحة السياسة الأميركية ، فطلب وفد دمشق الكلام . وقدم السباعي لإيضاح رأيه ، فتلا عليهم كلمة جامعة مانعة في الموضوع ، كان لها أكبر الأثر في الأوساط الأميركية والإسلامية . إذ أوضحت للأعضاء الأمريكيين أن عداء الإسلام للماركسية لا يمكن أن ينسي المسلمين عدوانهم على فلسطين ، وتشريدهم أهلها لتوطين شذاذ الآفاق من يهود العالم ، بالتعاون أو التنافس مع الاتحاد السوفيتي نفسه !

وهكذا استطاعت صراحة السباعي أن ترد الأميركيين إلى بعض الوعي ، فيعلنوا اعترافهم بظلم قومهم ، ويعدوا بأنهم سيعملون على توعية شعوبهم بهذه الحقيقة .

وإيمان فوق الخوف :

ومن مآثره البطولية رحمه الله ذلك الموقف العجيب الذي واجه به حكم الإعدام ، الذي أصدر على شقيق له أيام رئاسة نور الدين الأتاسي على سورية .

لقد وزعت في المدن السورية منشورات تدعو إلى الإضراب إعلاناً لمعارضة التسلط ، وخرج الناس يومئذ في حمص إلى الأسواق ليروا مدى استجابة الناس لهذه الدعوة . ووقف ذلك الفتى السباعي أمام حانوته بجوار الجامع الكبير منتظراً ماذا يجب أن يعمل ، أيفتح الناس فيفتح ، أم يضربون فيضرب معهم !

وصدرت الأوامر العسكرية بسحق المحاولة دون رحمة ، وحمل الفتى في من حمل إلى السجن ، ومن ثم حكم عليه مع آخرين بالموت . ولكن الله لم يقدر تنفيذ الحكم فحال بين المحكومين وإعدامهم .

وحدثني الأخ الفقيد ، وكان المحكومون يتوقعون حبل المشنقة يومئذ ، فقال : هذا الطاغية ـ نور الدين الأتاسي ـ يريد مني أن أزوره لأشفع لأخي .. وهيهات له ذلك !

أجل .. لقد كان إعدام أخيه يومئذ أقرب إلى قبوله من التفريط بعزة الإسلام أمام الطغيان . ولن يستغرب ذلك من رجل كمصطفى السباعي مطمئن القلب بالإيمان أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أمر لم يستطيعوه إذا لم يسبق به قدر الله .

مؤلفاته أثناء المرض :

ولعل ملابسات مرضه لا تقل عظمة عن هذه البطولة . فقد شاء الله ، جلت حكمته ، أن يصاب بالشلل الجانبي ، وأن يعاني من ذلك ما تنوء به العزائم طوال سنوات ثمان ، لا يفتر خلالها عن التسبيح بحمد ربه والصبر على قدر له ، وعلى الرغم من الآلام المبرحة المتصلة ، لم يكف نشاطه في خدمة الكلمة المؤمنة مدرساً ومحاضراً ومؤلفاً ، حتى اسلم روحه لبارئه عام 1964 .

وحسبنا أن نشير من عشرات مؤلفاته إلى كتبه الثلاثة " اشتراكية الإسلام " و " المرأة بين الفقه والقانون " و " هكذا علمتني الحياة " التي كتبها في ظل المرض والألم . وكان الأول والثاني منهما محاضرات ألقيت على طلاب كلية الشريعة ، ثم جمعت في هذين الكتابين .

أما الثاني والثالث فلم يختلف على روعتهما وسدادهما قارئان من المسلمين ، بخلاف الأول الذي قيل فيه الكثير، وصنف في نقده اكثر من كتاب ، فليس حسناً أن نمر بذكره دون كلمة في تقييمه (2).

من أجل الإنصاف :

لقد شاء بعض ذوي الأغراض من مدعي العلم استغلال الخلاف القائم بشأن هذا السفر، فراح ينفث ذات صدره في منشورات لا يراد بها وجه الله ، وكان من ردود الفعل لذلك ندوة أقيمت في الجامعة السورية ، تحدث فيها عدد من العلماء مؤيدين للكتاب ومؤلفه ، مفندين ادعاءات خصومه ، مفرقين بين أهل العلم منهم وأهل الأهواء .

وكذلك كان لحكام مصر في ذلك الوقت نصيبهم من هذا ، إذ رأوا في عنوان الكتاب ما يمنحهم مجالاً واسعاً للاستغلال ، فأخرجوا منه مئات الألوف من النسخ في طبعة صغيرة شعبية ، وزعت على القوات المسلحة ، وفي مختلف الأوساط ، وأطلقوا لإذاعاتهم العنان تقتطف منه ما يتفق مع أهواء الحكام ، وما يوهم السذج بأن الإسلام هو تلك التصرفات التي يعالجون بها أمور الناس تحت ستار (الاشتراكية) في مجتمع (الكفاية والعدل) !

وقد أثار هذا الاستغلال سخط المؤلف في حينه ، فوجه إلى القائمين به تقريعاً لاذعاً قرأه الألوف في الصحف السورية ، ولا بد أنهم اطلعوا عليه ، وإن لم يرتدعوا به .

أما نحن فنقول : إن قارئ الكتاب في روية وتجرد لا يجد أي صلة بين مضمونه وأي من المذاهب الاشتراكية المعروفة في العالم ، وليس له صلة بالاشتراكية خارج نطاق العنوان ، الذي كان ضرباً من المشاكلة اللفظية ، كالذي نقرأه في قوله تعالى [ومكروا ومكر الله] وقوله عز من قائل [فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم..] وشتان بين المكرين والاعتداءين ، فإذا كان مكر الكافر احتيالاً على الحق لصرف الناس عنه ، فهو من الله رد له بما يبطله ، وإذا كان اعتداء الظالم تجاوزاً على الحق ، فهو من المؤمنين العدول دفع له بما يحقق الأمن ويمحق البغي . وإنما اختار له ذلك العنوان اجتذاباً لأذهان الجيل ، الذي زينت له الاشتراكية حتى باتت في نظره هي الحلم السعيد ، فكل حديث عن عدالة الإسلام وتفوقه على المحاولات البشرية ، لا يجد أذناً مصغية إذا لم يحمل إشارة إلى ذلك الإطار السحري . أما مضمون الكتاب فبحث علمي في الحياة الإنسانية ، وما يحيط بها من مشكلات الفرد والمجتمع ، وما أنزل الله من الحلول لكل معضلة منها ، على الوجه الضامن للتوازن ، المحقق للمصلحة والأمن ، وعلى صورة من الدقة لا تحلم ببعضها عقول المفكرين في سائر العصور، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً .

والسباعي في كتابه هذا يعالج الأوضاع البشرية على ضوء الشريعة الإسلامية بعقلية العالم المجتهد الذي يحاول استنباط الحل من منابع الوحي دون تعصب لمذهب بعينه ، وينقب في صفحات التاريخ عن المثل التطبيقية التي برز هذا الحل من خلالها ، وما أحسب ناقداً بقادر على أن يدل على حكم واحد قال به المؤلف لا يعتمد فيه على أصل من الكتاب أو السنة أو التطبيق السليم من عصور السيادة الشرعية ، وقولنا هذا لا يعني أننا ندعي له العصمة من الخطأ ، بل نقول بأن كل خطأ صدر منه أثناء ذلك لا يعدو حدود الاجتهاد ، الذي يؤجر صاحبه على كل حال إن شاء الله . ولعل أكبر أخطائه تلك يتمثل في العنوان الذي وجد فيه المضللون كل مسوغات الاستغلال .

إيضاح لا بد منه :

بقيت كلمة أخيرة حول موقفه (المتطور) من جمال عبد الناصر ، فقد أخذ عليه بعض إخوانه القدامى مهادنته للرجل ، منذ العدوان الثلاثي إلى نهاية عهد الوحدة بين الإقليمين .. وهو حكم لا مسوغ له إلا عند الذين يعيشون خارج نطاق الأحداث ، وإلا فأي عذر للسباعي لو حكم بواعث النقمة من رجال الثورة فخذلهم وهم في قلب المعركة دفاعاً عن مصر العزيزة !

أما مسالمته القوم بعد الوحدة فعلى أساس الأمل الذي راود كل مسلم بأن يبدؤوا عهداً جديداً من الاعتدال الذي توجبه عليهم إسلامية الشعب السوري ، الذي لم يتنكر لإسلامه قط ، على الرغم من كل المحاولات الهدامة التي افتعلها المعارضون للإسلام .

ولا ننسى مع ذلك أن تلك الوحدة كانت بالنسبة إلى الأوضاع السورية آنئذ عملية إنقاذ أشبه شيء بجراحة تجرى لمريض لا سبيل إلى تخليصه من أوجاعه إلا بشق بطنه أو كشف دماغه .

فالشيوعية الحمراء تنيخ بكلاكلها على صدور الناس ، وتخترع لهم كل يوم مسرحية تنشر الرعب في كل مكان .. والحزبية الصماء تنافس الشيطان في التضليل ، فتمزق البرلمان ، وتسوق كثرته إلى تجمع تعبث به الأيدي الملوثة ، وإلى جانب هذا وذاك تقوم المحاكم العرفية باسم الشعب ، للتخلص من كل العناصر التي تتوسم فيها بقية من الأنفة والكرامة . وبذلك وضعت البلاد على شفا مجزرة أهلية يقتل فيها الأخ أخاه والولد أباه ، فكان ارتماء الجميع في أحضان الثورة المصرية ، على عجزها وبجرها ، أهون الشرين وأيسر المحنتين على الشعب السوري ، الذي أصبح ذلك المريض الذي لا مناص من شق بطنه أو كشف دماغه .

وفي حال كهذه يكون من أسخف السخف أن يقف السباعي أو غيره في وجه السيل الجارف ، بدلاً من العمل على تنظيم مجاريه ، بالحكمة والموعظة الحسنة .

وهكذا كان موقف الفقيد من سلطان عبد الناصر في سورية أول الأمر، حتى تحقق له أن الرجل مدفوع في منزلق لا يستطيع فيه التماسك ولا نية له بالعودة عنه .

رؤيته الإسلامية :

ولئن سبق قدر الله فحالت وفاة الفقيد دون الوقوف على آرائه في مستقبل الجيل وواجب العلماء ، إن في آثاره التي خلفها لمستدركاً يمدنا بالمزيد من ذلك ، فليس ثمة كتاب أو مقالة أو خاطرة أنتجها قلمه إلا وهي حافلة بما يؤكد أنها أمالي مفكر درس تاريخ أمته ، وأوضاع جيله ، واستوعب الخطوط الكبرى لواقع العالم المعاصر، ورصد ذلك كله من خلال الرؤية الإسلامية التي تنظر إلى الأشياء بنور الله .. فهو طبيب من الطراز النادر، يشخص الداء كما هو ، ثم يصف له الدواء كما يجب . ولذلك تعددت جوانب جهاده ، ومحاولاته الإصلاحية ، ووسائله إلى تحقيقها .

موقفه من البدع :

لقد كافح البدع في الدين لأنها عناصر دخيلة تسللت إلى فهوم الناس ، فأفسدت عليهم تصورهم للحق ، فكانت كالإضافات التي يضمها الجاهل إلى وصفة الطبيب الحاذق ، تبطل صلاحيتها ولا تنفع المريض بشيء. وقد حدثناك عن عمله في إبطال بدعة (خميس المشايخ) وما أدى إليه من رفع كابوس الدجالين على صدور المخدوعين .

وبين يدي الآن الحلقة الثانية (من أحاديث الدعوة) التي كان يبثها عن طريق الإذاعة ، وتوزع على جماهير الشعب في كراريس مطبوعة ، وقد خص هذه الكلمة بالكلام عن (ليلة النصف من شعبان) وفيها يقول عن دعائها المشهور :

" وإذن فهذا الدعاء من صنع المئات المتأخرة .. وهو من الناحية الشرعية غير جائز، ففيه الزعم بأن ليلة النصف من شعبان هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، وهذا زعم باطل باتفاق جمهور العلماء. وفي هذا الدعاء نسبة المحو والإثبات إلى الله في أم الكتاب ، وهو محال عليه ، وعلم الله لا يتبدل ولا يتغير ، ومن زعم غير ذلك فقد نسب إليه الجهل أو التردد ، وكلاهما على الله محال ".

ولا شك أن مكافحة البدع هي أول طريق الإصلاح للجيل المسلم ، الذي لا أمل له بالنصر إلا عن طريق الالتزام بحقائق الإسلام ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالوقوف عند حدود ما شرع الله وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم . وفي هذا يقول ، غفر الله له ، في مقدمة هذه الحلقة :

" فإن الله لا يقبل من الدين إلا ما كان خالصاً له ، ولا يقبل من العبادة إلا ما أمر بها ، وما أهلك أهل الديانات إلا تزيدهم فيها ، وابتداعهم ما لم يأذن به الله ".

لكي ينجح المصلحون :

ومما يدخل في تحديد مهام العلماء نحو مجتمعاتهم ، والخصائص التي لا مندوحة لهم عن التسلح بها لتمكينهم من التأثير في حياة الناس ، قوله بعد أن يحصر معنى الحياة بكونها (فكرة وعقيدة) :

" وأجدر الناس بالحياة الكريمة هم أرباب العقائد ، فهم الذين يتذوقون العادة في غير ما يألفه الناس من معاني السعادة ، إن السعادة عندهم قد تكون سجناً ، وقد تكون حرماناً ، وقد تكون تشرداً ، وقد تكون عذاباً ، وقد تكون موتاً . ففي السجن والحرمان والتشرد والعذاب سعادتهم ولذتهم وهناءة نفوسهم ، وإن كان الناس يرون ذلك كله بلاء وشقاء ، وبذلك كان المصلحون يعيشون في مجتمعاتهم وكأنهم غرباء عنها ، إنهم ليخالطون الناس ويؤاكلونهم ويمازحونهم ويعاملونهم ، ولكن المقاييس التي يقيسون بها الغنى والفقر والعطاء والحرمان والسعادة والشقاء غير المقاييس التي يعرفها الآخرون ، وما رأينا مصلحاً في قومه قد سلم من ألسنة المعاصرين واستهزائهم .." (3)

كأنه يصف نفسه :

والعارفون لأخلاق الفقيد المتتبعون لمسارح جهاده وصلابة عزيمته في الحق ، وما لقيه من العنت والآلام، ومن إساءات الذين كان من أحق الناس ببرهم ، يدركون أنه بتحديده هذه المعالم إنما ينطلق من خلال تجاربه الذاتية ومميزاته الخلقية ، وهو ما تلمحه صريحاً في بعض شعره ، وبخاصة الذي أرسله مع أنفاسه الأخيرة ، كقوله في قصيدة يصف بها أصناف الناس ومسلكه بينهم :

هم الناس بين اثنين : صيد تشوقهم معارك في ساح الهدى وصعالك

دعيني أعيش العمر في غربة الهوى ففي الحق محرابي وفيه مناسكي

وفي النصح لذاتي وفي الخير ثروتي وفي العلم محراثي وفيه سبائكي

وفي حائيته الأخيرة يقول :

يا سهام الأقدار خلي ثلاثاً هي عندي وجه الحياة الصحيح

أتركي لي عقلي أفكر فيه وعيوني أرنو بها وأروح

ويدي تملأ المصاحف علماً وبلاغاً ، وبالشجون تبوح

ولقد استجاب الله رجاءه فلم يحجب نوره عن بصره ولا بصيرته ، وأمده بالعون فلم يشل قلمه عن الإنتاج الرشيد المفيد حتى لقي وجه ربه الرؤوف الرحيم .

وأخيراً :

وكان من حق الفقيد أن نخص شعره ببعض الحديث ، فله في هذا الفن جولات موفقات ، وبخاصة في الجانب الديني والسياسي . وأذكر أنه أسمعني عقيب مغادرته سجن الشيشكلي قصيدة طويلة فيها من التوفيق الشيء الكثير ، وإن كان الغالب على منظومه طابع النثر الذي هو أداته المفضلة والأكثر استعمالاً . ولكنا نكتب هذه الأسطر وليس لدينا من شعره الكثير سوى القليل .

على أن إشارتنا لبعض أبياته الحائية تذكرنا ببعض الهفوات التي تعرض لها هناك عليه رحمات الله . ففي لحظات من طغيان الألم شط عن الخط فإذا هو يوجه شكواه إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم فيسأل أصفياءه أن يحملوه إليه وأن يطرحوه ببابه ، ثم يعرض أوجاعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقة ببركته ، سائلاً إياه الدعاء الذي لا يرد .. إلا أنه استدرك أخيراً فيحصر آماله بالله وحده قائلاً :

حسبي الله لا أريد سواه هو أنسي وفي حماه أريح

رب لولاك ما استطعت ثباتاً في مسيري ولا سمت بي روح

ومهما يقل في تأويل كلمات الفقيد فقد كان الأحب إلى قلوبنا أن يوجه مسألته كلها إلى الله وحده ، متوسلاً بطاعته لنبيه الأكرم ، وبتضحياته الكثيرة لإعلاء كلمته ، فذلك هو السبيل الأقوم .

وجزاه الله من واسع مغفرته خير ما يجزي العاملين المصلحين ، إن رحمة الله قريب من المحسنين .