علي أحمد باكثير

عاش في الظلِّ فقرأته الملايين

علي محمد الغريب

في وقت ساد فيه العبث حياتنا الثقافية، والأدبية، وفي فترة من الزمن تسللت (شلل) أصحاب الأهواء إلى وسائل الإعلام المختلفة كالأدب، والصحافة، والمسرح، يُقْصُون كلّ مَن كان مؤمناً بقيم هذه الأمَّة، يدبرون له المكائد، وينصبون له الشراك حتى يختفي من حياتهم أو يموت كمداً.

في هذه الأجواء الرهيبة وفي هذه العتمة الحالكة قدم من حضرموت إلى القاهرة عام 1934م شاب يرغب في دراسة اللغة العربية والدين الإسلامي في الأزهر، لكنَّه ما لبث أن غيّر رأيه ودخل كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة فؤاد الأوَّل (القاهرة حالياً) وكان هذا الاتجاه ناجماً عن تشجيع من العَالِم والأديب مُحبِّ الدين الخطيب؛ ليدرس الآداب الأجنبية، حتى يستطيع أن يرد السهام التي يرمي بها دعاة التغريب في الأدب والحياة وفي وجه التيار الإسلامي؛ ولقد صدقت فراسة الشيخ فأثبت الشاب ـ فيما أنتجه من أدب فيما بعد ـ أنَّه خير من حمل لواء الدفاع عن الاتجاه الإسلامي مقتحماً عشَّ (الدبابير) فكان نسمة لطيفة محمَّلة بعبق مجد مجيد، ورحيق تاريخ تليد، هذا الشاب هو: علي أحمد باكثير.

مولده

ولد علي أحمد باكثير في مدينة (سورا بايا) بأندونيسيا لأبوين حضرميين، حيث كان أبوه يعمل تاجراً، ولم تكن رحلات الحضارمة في أصقاع الأرض حبَّاً في التجارة فقط، فقد حملوا عقيدتهم مع بضاعتهم، وكانوا دعاة بالقدوة الحسنة والسلوك القويم، وكان لهم دور بارز في نشر الإسلام في أنحاء الأرض، وكان لهـم الفضل ـ بعد توفيق الله ـ في دخول الكثير من الشعوب في الإسلام بخُلُقهم الصدوق.

وعندما بلغ (علي) الثامنة من عمره أرسله والده إلى حضرموت ليتقن لغته، وليأنس بأهله؛ فالحضرمي شديد التعلق ببلده.

لم يكد الفـتى يبلغ الثالثة عشرة حتى أقبل على الشعر يقرضه، وينظمه، وقد حفظ من أشعار القدماء، وكان ولوعاً بشعر المتنبي، ولكم حدثتْه نفسه وداعبت مخيلتَه وهو صبي صورة شاعر كبير كالمتنبي.. فأخذ ينظم الشعر ثم يعرضه على أصدقائه، وأساتذته، فأطروا وشجعوه؛ فكان لذلك الإطراء والتشجيع أثر بالغ في إقباله على المزيد من القراءة، والدرس، والنظم أيضاً.

تزوَّج أديبنا في مرحلة مبكِّرة مـن فتاة أعجب بها، وأحبَّها حُبَّاً شديداً، لكن لم يُقدّر لهذا الحبّ أن ينضج، وهو لا يزال غضاً فتوفيت تلك الشابة، فحزن عليها حزناً كاد يودي به.

ثم راح ينتقل من بلد إلى بلد؛ فمن حضرموت إلى عدن، ثم إلى الحبشة ماراً بالصومال، ثم إلى السعودية التي مكث بها فترة غير طويلة، تعرّف خلالها على أدباء الحجاز والطائف وعلمائهما، يغشى مجالسهم، ويتدارس معهم أخبار الأدباء العرب.

 ثم عزم باكثير بعد ذلك على الرحيل إلى القاهرة حيث الحركة الأدبية نشطة. وصل القاهرة عام 1934م، فالتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ثم حصل منها على الليسانس عام 1939م. وفي عام 1940م حصل على دبلوم تربوي عمل بعده مدرساً للإنجليزية بمدرسة الرشاد الثانوية بمدينة المنصورة بدلتا مصر.

دخل باكثير معترك الحياة الأدبية منضماً إلى الركب الإسلامي، فدافع ببسالة، وناضل بشجاعة منقطعة النظير، وكان جواده فكره، وسلاحه يراعه.. يمده دمه. وقد اتسم أديبنا بتواضعه الجم، وبحيائه الفطري ؛ فكان محيَّاه كصفحة النهر هادئة صافية، بينما دخيلته كانت نهباً للصراع، والاضطرام، والتحرُّق شوقاً للحفاظ على تاريخ أمَّته والنهوض بها.

حقد اليساريين عليه

تألق الرجل في دنيا الأدب، فما من مسابقة تقام إلاَّ كان باكثير في طليعة الفائزين. ففي سنة 1947م أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية في مصر عن مسابقة في ستّ روايات في موضوعات معينة، فتلقت الوزارة خمسمئة رواية، ولمَّا فحصت اللجنة المختصة ذلك الكم الهائل من الروايات كان باكثير قد فاز بروايتين من الستّ، فحقَّق نجاحاً مدهشاً. فكان ذلك النجاح ـ والكثير غيره ـ وتمسّكه بالاتجاه الإسلامي من بواعث حقد اليساريين على باكثير المسلم، المتمسك بقيم الإسلام، ورفضه لكل التيارات الملحدة الزاحفة نحو ديارنا. بدأ أعداؤه في تدبير الحملات ضدَّه سواء بالتشويه أو التجاهل، وكانوا يتغامزون ويتلامزون عليه في منتدياتهم قائلين عنه في سخرية: (علي إسلامستان) فكان الرجل ـ يرحمه الله ـ يقول: "إنَّه لشرف عظيم لي أن أتَّهم بالإسلامية فيما أقدِّمه من أدب".

عندما صدر قانون التفرغ الأدبي كان باكثير أوَّل من حصل على منحة للتفرغ مدَّتها عامان، أنجز خلالهما رائعته: "الملحمة الإسلامية الكبرى عمر" فكانت تاريخاً أدبياً لفترة الخليفة الثاني العادل عمر بـن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وقعت في ثمانيةَ عشرَ جزءاً، استطاع من خلالها إلقاء الضوء على الحضارة الإسلامية الفذَّة، وصوّر فيها الصراع بين قوى الخير والشر، بين القوة الإسلامية الواثقة من عقيدتها، المؤمنة بربها، وبين أباطرة الروم وطغاة البشر، فصوَّرها تصويراً حاذقاً حتى لكأنَّك وأنت تقرأ تلك الملحمة تشمُّ غبار المعارك، وتسمع صليل السيوف من خلال أسلوبه الجزل، وبراعته الفائقة.

فلسطين

اهتم باكثير بقضايا أمَّته، ومن أبرز القضايا التي احتلت حيزاً كبيراً من تفكيره ووجدانه "قضية فلسطين" فقد كتب فيها خمس مسرحيات أبرزها: "شيلوك الجديد"، "شعب الله المختار"، "إله إسرائيل"، "التوراة الضائعة" وترجم مسرحيته: "شيلوك الجديد" ـ التي تنبأ فيها بقيام دولة إسرائيل وهزيمة الجيوش العربية ـ إلى الإنجليزية، وذلك لتوصيل صوته إلى الرأي العام العالمي محذِّراً من الصهيونية، لكنَّ دور النشر ـ يا للأسف ـ لم تقبل نشرها، فظلَّت حبيسة الأدراج حتى يومنا هذا، ثم جاءت هزيمة الجيوش العربية أمام العدو الصهيوني، فحزن باكثير حزناً شديداً اعتلّت بسببه صحته، وفي هذا يقول الأستاذ خيري حمَّاد: "أبصرت الدمعات تتساقط من عيني الأستاذ المرحوم الفقيد الغالي باكثير، وهو يقـف عند شريط الحدود الفاصل بين قطاع غزة والأرض المحتلة على بعد أمتار قليلة، وهو يرى الثكنة الإسرائيلية وقد ارتفع عليها العلم الإسرائيلي.. رأيت عبرات باكثير فلم أتعجَّب، فلقد أحبَّ باكثير فلسطين كما أحبَّ وطنه حضرموت، والقاهرة، وكل وطن عربي، بل إنَّ لفلسطين مكانة خاصة في نفسه رافقته طوال حياته، فلقد أحب باكثير فلسطين حباً عميقاً".. ويكفي ما خلَّده فيها من أعمال أدبية رائعة.

قدّم باكثير للمكتبة الإسلامية قرابة خمسين كتابا،ً من بينها: "الملحمة الإسلامية الكبرى عمر" التي لو لم يكتب غيرها لحفظت له مكاناً مرموقاً بين أعلام الأدب وفرسان البيان، وفي سنوات عمره الأخير اشتدَّت الحملات المحمومة المسعورة ضده للنيل منه؛ فما زاده ذلك إلاَّ إيماناً وتثبيتاً، وفي ذلك يقول الدكتور عبده بدوي: "في الأعوام الأخيرة لم نعرف لباكثير مكتباً أو وظيفة، فقد تمَّ تجميده تماماً، وأسهمت أسماء لامعة في عالم اليسار من إحكام الحصار حوله، وحجب الضوء عنه خوفاً من فكره الإسلامي وشخصيته الملتزمة".

وكان باكثير يقول: "إنِّهم يحسبون أنَّهم سيقتلونني عندما يمنعون الأخبار عني، أو يحاربون كتبي، ويحجبون مسرحياني عن النَّاس. أنا على يقين أن كتبي وأعمالي ستظهر في يوم من الأيام، وتأخذ مكانها اللائق بين النَّاس، في حين تطمس أعمالهم وأسماؤهم في بحر النسيان؛ لهذا فأنا لن أتوقَّف عن الكتابة، ولا يهمني أن ينشر ما أكتب في حياتي، إنِّي أرى جيلاً مسلماً قادماً يتسلَّم أعمالي ويرحب بها".

ولقد صدقت نبوءته، ويا ليته بيننا ليرى أن الذين حاربوه آنذاك لم يعد لهم ذكر ولا لكتبهم، أمَّا كتبه، وكتب صديقه محمَّد عبد الحليم عبد الله، فقد تألقت، وأعيدت وتعاد طباعتها مرات ومرات. بينما اختفت من السوق كتب من هاجموه.

وفي اليوم العاشر من نوفمبر عام 1969م خلع باكثير ملابس الأحياء مرخياً أهدابه بعد أن فاضت روحه إلى بارئها، ولم يترك ذرية من صلبه إلاَّ أنَّه كان نعم الأب، ونعم الراعي لابنة زوجته التي رعاها حق الرعاية. رحل بعد أن سجَّل تاريخه بصمات واضحة في حياتنا الأدبية، ورسمت خطواته علامات سبَّاقة على مسيرتنا الثقافية، فلقد تفرّد دون غيره بكثير من الـمواهب التي أضاءت نفسها بنفسها، رغم مساحة الظلّ الكبيرة التي فُرِضت عليه أثناء حياته.

فسلام عليه رُبَّاناً مخلصاً لم تصافه الرياح، وسلام عليه مجاهداً لم يغمد قلمه حتى واراه التراب.