قائد.. برتبة جندي
صلاح حميدة
إستشهد( الريان)، هكذا قال أحد المحبين له وهو يبكي ، و يشعر بالأسى والحزن الشديد على فقدان قائد عالم مقاوم مثل الشيخ نزار ريان العسقلاني.
شهادة شخص بوزن وثقل وعلم وجهاد وشعبية ريان، ليس أمراً عابراً، ولا بد من توضيح وتركيز الضوء على معانيه ،التي ستمتد تأثيراتها ليس فقط للوقت الحالي بل للأيام والسنين القادمة.
عند ذكر شهادة (الريان)، لا بد من ذكر خطاب هنية الذي سبق شهادته بيوم،ومن المهم التركيز على العناوين الجلية التي ثبتها هنية في الوعي الجمعي للأمة العربية والاسلامية والعالم أجمع بعد الشعب الفلسطيني.
أعلن هنية بما لا يد مجالاً للشك أن معركة حماس والمقاومة الفلسطينية ساحتها قطاع غزة، ولكن هذه المعركة، معركة فلسطين من بحرها الى نهرها، معركة اللاجئين وحقهم في العودة، معركة القدس والمقدسات، معركة لا يوجد فيها من يرفع الراية البيضاء تحت وطأة الحاجة المادية والغذائية، ولا تحت وطأة العدوان المباشر، معركة عنوانها(لن نعترف بإسرائيل)، ودون ذلك الأرواح والأولاد والأموال والبيوت وكل ما نملك.
استشهد(الريان) ليثبت هذه المعاني ومعاني كثيرة أخرى، فعند الحديث عن( الريان)، يبرز طلبه من قيادة الحركة أن يعفوه من العمل التنظيمي ليتفرغ للعلم الشرعي، وهو عالم محقق في علم الحديث الشريف وله العديد من المؤلفات، ولكنه في نفس الوقت قال لهم أنه يتشرف أن يبقى جندياً هو وعائلته في جيش القسام، فكلما أردت مشاهدة أي فعالية لحماس في شمال القطاع تجد الريان في مقدمتها، فهو يتقدم الصفوف في الرباط على الثغور، تجده يحمل قاذفات خارقة للدروع يقصف الدبابات في الاشتباكات الميدانية مع الاحتلال، قئد يحمل رشاشه يقاتل مع المقاتلين في الميدان، قائد يحرص على حضور كافة الدورات العسكرية للقسام، ويكون أول المطيعين لمدربين هم في جيل أولاده في أكثر التدريبات قسوة.
عند الحديث عن الريان، لا بد من القول أن حركة حماس نموذجاً لم يألفه العرب والمسلمون لقادة يقاتلون مع جنودهم، قادة وعلماء يرابطون ويقاتلون في الليل، ويعملون في أعمالهم في النهار، ولا بد من ذكر قادة وعلماء كبار كالدكتور حسين أبو عجوة، والقاضي الفرا، والدكتور أبو شويدح وزير العدل السابق، وغيرهم ممن نعرفهم وممن لا نعرفهم من القادة، الذين يتقدمون الصفوف للتضحية بأرواحهم.
شهادة الريان، ثبتت ظاهرة جديدة، وسمة جديدة للعالم المجاهد، بعد أن ثبت في عقول الناس صورة العالم الذي يلبس جبة وعمامة، ولا نراه إلا في صحبة حكام النفاق والعمالة، علماء بعيدون عن الجماهير وآمالها وآلامها، شهادة الريان، أعادت هذه الشهادة صورة العالم المجاهد العز بن عبد السلام، وبينت أن مكان العالم هو ساحات الجهاد، ساحات العلم، ساحات الجامعات، ساحات المقاومة الشعبية.
عند الحديث عن شهادة الريان، لا بد من ذكر حادثة غريبة أيضاً في تاريخنا الحديث و المعاصر ، ففي العام2001م طلب ولده من قيادة القسام أن يمنحوه الفرصة للقيام بعملية استشهادية مع صديق له بإقتحام مستوطنة صهيونية على أرض قطاع غزة، ولكنهم ردوه عدة مرات رغم الحاحه، لكونه يبلغ من العمر ستة عشر عاماً، فما كان منه إلا أن ذهب إلى والده الريان، ليتوسط له عند قادة القسام ليجندوه لعملية الاقتحام الاستشهادية، فذهب الريان إلى قادة القسام وطلب منهم تلبية رغبة ولده، وأنه ليس عنده مانع في ذلك، وتمت العملية وقتل وجرح فيها ما يقارب العشرين مستوطناً.
هذه الحادثة تبدو غريبة في قاموسنا السياسي والنضالي، فقد تعودنا على قادة يتوسطون لأولادهم لينالوا وظيفة أو رتبة، أو منحة دراسية، أو منحة مالية، أو سفرية استجمام تحت عنوان دوره، أو يخرجون عائلاتهم إلى بلدان عربية و أوروبية لأنهم ينزعجون من صوت القذائف والاشتباكات.
لم يكن الريان وحده من قدم ولده للجهاد والمقاومة، فمحمود الزهار قدم ولديه وزوج إبنته، وخليل الحية قدم ولده وأخيه وعدداً من أقاربه، والدكتور باسم نعيم وزير الصحة قدم ولده، والنائب إسماعيل الأشقر قدم أخيه، والنائب شهاب قدم ولده البكر عبد الرحمن، والقائد الشهيد إسماعيل أبو شنب لحق به ولده في طريق الجهاد والتضحيات.
قدم الريان نموذجاً للقائد المبادر الذي لا يفر من أرض المعركة، ولا يتنازل، فقبل ما يقارب السنة، كان الصهاينة يتصلون على بيوت المقاومين الفلسطينيين، ويعطونهم فترة ليخلوها حتى يتم قصفها، وأطلق حينها أحد الصحافيين في الضفة الغربية(رومل شحرور) نداءً لإفشال هذه السياسة عبر التجمهر في البيوت المستهدفة، فما كان من (الريان) إلا أن قام بمبادرة من رجل قائد مجاهد، وقاد الجماهير إلى تلك البيوت، وتوقفت بعدها هذه السياسة،حتى عادت في الانتفاضة الحالية، ورفض أن يخلي بيته، فهو قائد المبادرة بعدم الاخلاء، فكيف به يفر من بيته؟ فقال :-
(نموت في بيوتنا ولا رحيل، نعيش في فلسطين ونموت فيها).
هذا النموذج من القادة الذي يتمسك بأرضه ويبقى بين الشعب والمجاهدين، لا يفر من ساحة المعركة، ولا يترك جنوده ويفر بأموال الشعب المسروقة، قادة يقاتلون ويجوعون ويحاصرون مع شعبهم، يقاتلون معه، ويقتل أبناؤهم مع أبنائه،ولا تجد بينهم من يهرب، ثم تتم ترقيته، ويأتي ليعطيك محاضرات حول الوطنية والوطن.
نموذج من القادة، لا يبحث لا عن رتب ولا إمتيازات دنيوية ولا تجارة ولا كراسي، فشهادة الريان، وضعت المنافقين في مأزق كبير، فقد كانوا يسلقون هذه القيادة بألسنة شداد، فضعاف النفوس أصبحوا يعتقدون أن قادة حماس سيمددون التهدئة بلا شروط وسيستسلمون لجيش الاحتلال، لأنهم مشغولون في التهريب والتجارة ومستفيدين من الحصار، حتى أن أحد الناس العاديين، قال لي من شدة تأثره بالدعاية التي كانت تبث ضد قادة حماس، كان هذا الشخص حريصاً على رؤية بيت ريان الذي قصف، لأنه أصبح يعتقد أن قادة حماس يسكنون الفلل الفارهة وهجروا المخيمات، ولكنه صعق عندما رأى أن هذا القيادي يسكن في مخيم جباليا.
فحادثة إغتيال الريان كشفت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه القيادة تجارتها مع الله، ولا أحد سواه، وثبتت شعار رئيس الحكومة الفلسطينية الشرعية إسماعيل هنية:-
(هي لله ..هي لله..لا للسلطة.. ولا للجاه) .
هذا النموذج الغريب من القادة، في زمن( الغرباء)، يبين سر تكالب كل الكفار والمنافقين للقضاء عليه، واستئصال شأفتها ، فهذا الصنف من القيادة، عرى المنافقين وأسيادهم، وبين المعنى الحقيقي للقيادة في الاسلام، وبين سبب التفاف الشعب الفلسطيني حولها، ورفضه دعوات الانقلاب عليها، وتحمل في سبيل ذلك كل ما حل به منذ اختياره الحر لها، فهي قيادة تحاصر معه، وتجوع معه، وتقاتل وتقتل معه، وستنتصر معه إن شاء الله.
الطريف في هذه الحرب وما سبقها من حصار، أن قادة الظلم العالمي والاقليمي والمحلي، يهدفون ل(كي وعي) الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والاسلامية،حتى يتعلم الدرس، ولا يختار إلا قيادة تريدها إسرائيل وأمريكا، وأنظمة العمالة العربية، ولكن هذه الحرب، وهذا النموذج القيادي، قلب السحر على الساحر، فقد تم( كي الوعي) للفلسطينيين والعرب والمسلمين، ولكن( كي الوعي) كان بالاتجاه الذي لا يريدونه، فقد أصبحت المعاني التي رسختها حماس في خطابها الاعلامي، ونموذج القيادة العملي على الارض،أصبحت هذه المعاني أغنية الجماهير في العالم أجمع،أغنية أعادت الأمور الى مربع الصراع الحقيقي، أغنية(لن نعترف..لن نعترف..لن نعترف بإسرائيل).
هذا النموذج من القيادة أحدث (كياً للوعي) تجاوز المسلمين إلى غيرهم، فليس من الصدفة أن يرسل عميد المسيحيين في فلسطين رسالة الى رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية في أول أيام المعركة، يقول له فيها:-
(إذا خيرنا بين العبودية والموت، فلن نختار إلا الموت، نحن فداء لكم، نحن فداء لغزة، نحن فداء لفلسطين).
ولكن بالرغم من حبنا لقادة حماس، وإعجابنا بتضحياتهم وتقدمهم الصفوف، فالمطلوب منهم شعبياً ألآتي:-
* عليهم أن يعلنوا بشكل واضح أن المقاومة لها عنوان، وأن أي حراك سياسي يجب أن يمر عبر بابها، وأن أي عنوان آخر لا يمثل المقاومة.
*على المقاومة ألا تمنح من طعنوها ويطعنونها في ظهرها فرصة ركوب الموجة، واستثمار تضحيات وصمود قادتها وعناصرها، عبر خداعها بكلام معسول باللسان ، وخنجر مسموم خلف الظهر، فمن أراد الحق فطريقه معروفة، ولكن من المحظور إعطائهم فرصة تسلق تضحيات المقاومة وجهادها، وعليها ان تعلن بشكل جلي أن زمن تسلق التضحيات والجهاد- الذي كان سمة الثورات العربية منذ بداية القرن الماضي- إنتهى الى غير رجعة، ومن أراد طريق الحق عليه أن يعلن ذلك بشكل جلي، ويتبعه بخطوات عملية على الارض، لا أن يعطيك من طرف اللسان حلاوة أمام الاعلام، ويطعنك طعنات مسمومة نجلاء في ظهرك..
*على المقاومة أن تحذر من النظام المصري العميل، وعليها أن لا تلبي دعوته لقادتها إلى القاهرة، لأن هذه الدعوة تأتي في سياق إحساس هذا النظام أن خديعته الأولى للمقاومة لم تعط الاحتلال الفرصة لقتل قادة المقاومة من الضربة الأولى، ولذلك يهدف من طلبه لقادة المقاومة(تعالوا ندردش)، يهدف من وراء ذلك كشف أماكن قادة المقاومين ومنح الفرصة لاغتيالهم من فرق الموت، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
*على المقاومة ألا تمنح هذا النظام العميل الفرصة لأن يأخذ أي دور في أي ملف تفاوضي أو حواري أو أي نوع من أنواع الوساطة.
هذه القيادة التي نمنحها ثقتنا ومبايعتنا،قيادة شعب الجبارين، الذين سيقطعون قدم ورقبة من يطأ أرض غزة، هذه القيادة مطالبة بالتنبه لخبائث المنافقين وأسيادهم، مثلما هي مطالبة بالتوحد الوجودي والوجداني مع الشعب الفلسطيني.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.