الشيخ محمد بدر الدين أبو السمح الفقيه
(1307-1385هـ/1890-1965م)
الشيخ محمد بدر الدين أبو السمح الفقيه
د. محمد بن لطفي الصباغ
الشيخ محمد بدر الدين الفقيه عالم فاضل من علماء بلدنا السلفيين القراء التربويين وهو محمد بدر الدين بن محمد نور الدين أبو السَّمح الفقيه المصري. ولد في قرية التلين من مديرية الشرقية في مصر سنة 1307هـ/ 1890م في أسرة علم وفضل ووجاهة. وتعلَّم في مدارسها وحفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره وحفظ عدداً من المتون كالألفية لابن مالك والشاطبية للشاطبي وغيرهما من المتون. وجمع القراءات. ولما أنشأ السيد محمد رشيد رضا مدرسة: "الدعوة والإرشاد" انتظم فيها وتخرج فيها.
وهو أصغر إخوته الذكور، فأخوه الأكبر هو الشيخ عبد الظاهر أو محمد عبد الظاهر[1]. خطيب الحرم المكي وإمامه من الفقهاء الأزهريين وكان سلفي العقيدة استقدمه الملك عبد العزيز إلى مكة وولاَّه الخطابة والإمامة وإدارة دار الحديث من سنة 1345هـ إلى سنة 1370هـ سنة وفاته. كان محدّثاً ومفسراً وفقيهاً وواعظاً، وقد وقفت على بعض الكتب التي عليها تعليقاته في مكتبة جامعة الملك سعود، ويبدو أنها اقتنت عدداً من كتبه بعد وفاته.
وكان الشيخ عبد الظاهر كريماً لطيف المعشر؛ فقد حدثني صديقي الشيخ محمد أبو صّياح الحرش –رحمه الله- أنه عندما حلَّ في مكة كان يدعوه ويقول له: أنت في كلّ يوم مدعوّ عندي.
وكان أخوه عبد المهيمن[2] بعده إماماً في الحرم المكي، وقد عرفته، وذلك في أثناء سنوات الحج التي كنت أحجها بمعية شيخي الشيخ عبد الرزاق عفيفي –رحمه الله-. فقد كان يخرج معنا إلى عرفات ومنى.
وكان يرحمه الله شديداً على المخالف، غيوراً على الدعوة السلفية ولي معه ذكريات عدة.
جاء الشيخ محمد بدر الدين إلى دمشق سنة 1332هـ/ 1914م -كما قالت بنته الأستاذة رشيدة -حفظها الله-. ولما قامت الحرب العالمية الأولى بقي في دمشق، واتخذ له فيها مسكناً، وكان قد نزل في بادئ الأمر في دار الصعيدي ثم تزوج فاطمة بنت رفاعية وأنجب منها سبعة أولاد، أربعة ذكور وثلاث بنات، وأولاده الذكور هم زكي ورشيد وعبد الحكيم ولقمان.
وأقام مدرسة لتعليم الأولاد سمَّاها (المدرسة المحمدية) في زقاق المحمص من حيّ الميدان، وكان يعلّم فيها القرآن والقراءة والكتابة والفقه والمحاسبة ومسك الدفاتر التجارية والخطّ، وقد نجحت هذه المدرسة نجاحاً عظيماً. وأقبل الناس عليها إقبالاً كبيراً ثم نقلها إلى حيّ الحقلة في الميدان وجعلها جزءاً من بيته.
فهو من المربين الذين عرفهم حيّ الميدان في دمشق.
وقد قال لي مرة: كأن الله تبارك وتعالى اختار لي حيّ الميدان؛ فأنا منذ وطئت قدماي دمشق حللت فيه، وقد بقيت فيه إلى الآن.
ثم سافر بأهله إلى جدّة وأقام فيها سنوات، وأقام مدرسة فيها، وذكر لي -رحمه الله- أن المدرسة نجحت نجاحاً عظيماً، وصار عليها إقبال كبير.
وقد سُرَّ بالإقامة هناك وكان قريباً من أخيه الشيخ عبد الظاهر، غير أن زوجته أصابها مرض، ولم تستطع العيش في الحجاز لحرّه ورطوبته وهي شامية ألفت جوّ دمشق، فعاد إلى دمشق.
وفي الإجازة الصيفية لعام 1360هـ/ 1940م التحقتُ بهذه المدرسة مدة الإجازة، وأذكرُ أنه كان متابعاً للأخبار، وقد حصل في تلك الحقبة اغتيال الزعيم السوري الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، فكان يتابع خبر هذا الاغتيال في الجرائد ومع الزائرين له من الرجال.
كان الشيخ فقيهاً متمكّناً، وكان كاتباً ذا أسلوب عال، ولكنه لم يكن ينشر شيئاً على عادة كثير من المشايخ في تلك الأيام، وقد شهد الأستاذ علي الطنطاوي بامتلاكه أسلوباً رائعاً عندما اطلع على رسالة منه إليه فيها انتقاد مهذَّب رفيع لموقف للطنطاوي؛ فلما قرأها أثنى على أسلوب كاتبها واعترف له بالحقّ.
وكان سلفياً يكره البدع ويحذِّر منها، من أجل ذلك كان بعض المشايخ يشيعون عنه أنه "وهّابي"، وكانت هذه التهمة كبيرة جدّاً عند العوامّ وقد يصاب المتَهم بها بما يسوءه... فكان يقابل ذلك بالصبر والمضي على طريقه السويّ.
وكان خطّاطاً متقناً، وقد كتب مصحفاً بخطّه الجميل الرائع، وقد حملته بنته الأستاذة رشيدة –حفظها الله- كما أخبرتني إلى قسم المخطوطات في وزارة الأوقاف السورية، ويظهر أنه كان أثراً فنياً رائعاً.
تولّى الإمامة في مسجد الموصلي في الميدان ثم انتقل إلى جامع عنَّابة في حيّ الحقلة، فكان يؤمُّ الناس ويخطب الجمعة، وكانت خطبه متميزة بإيجازها وبأسلوبها فقد كان يكتب الخطبة ببيانه الذي تحدثنا عنه آنفاً، ويعالج موضوعات تتصل بحياة الناس، وكان أداؤه للخطبة موفَّقاً جدّاً، فكان لا يلحن أبداً، وكان يخصّ الخطبة الثانية بفائدة فقهية مما يحتاج إليه الناس. وكان ينيبني أحياناً لأقوم بالخطبة وقد سألت بنته الأستاذة رشيدة عن هذه الخطب. فقالت:
إنني بعد وفاته خفت عليها من الضياع فجمعتها وجمعت ما ترك من كتب وأوراق وسلّمتها إلى الشيخ صادق حبنّكة في جامع منجك في حيّ الميدان، وهي لا تدري شيئاً عنها.
وكنت ممن يسعد بسماع هذه الخطب الكبيرة القيمة والفائدة في أكثر أيام الجُمَع وعندما زار دمشق العّلامة الدكتور تقي الدين الهلالي طلبت منه أن يدعوه لإلقاء خطبة الجمعة فاستجاب، وأعلنّا في بعض الصحف أن الدكتور الهلالي سيلقي الخطبة في جامع عنابة فسارع كثير من الناس إلى الجامع. وكانت خطبة مشهودة.
كان -رحمه الله- عفيف النفس، مع أنه مرّ في بعض مراحل حياته بضيق وفقر، فكان لا يقبل شيئاً من أحد، وقد حاول بعض المحسنين أن يقدم له مساعدة فاعتذر عن عدم قبولها بقوله: (الحمد لله أنا بخير ولست بحاجة).
وأشهد أنه كان من الصادقين الصابرين، فقد مرت به أزمات عائلية واقتصادية وصحية في نفسه وأسرته فكان يقابل ذلك بالصبر والدعاء والالتجاء إلى الله، والأخذ بالأسباب من مراجعته الأطباء، فقد كان يسافر إلى بيروت في أزمة صحية ألمت بزوجته وكان يسافر بها أسبوعياً لهذا الغرض.
وكان ورعاً أعظم الورع، فكان إذا دعي إلى طعام سأل عن مال الداعي، فإن كان فيه شبهة اعتذر، وإن كان لا يمكنه الاعتذار أكل في بيته ثم ذهب إلى الدعوة وتظاهر بأنه يأكل ولكنه لا يفعل.
وكان متابعاً للمجلّات الإسلامية والكتب الإسلامية الحديثة، يقرؤها ويقوّمها؛ فقد قرأ مرة كتاباً بعنوان (الإسلام المصفَّى) فقال لي: ليس هذا الكتاب بالمصفّى بل هو المشوِّه لدين الإسلام المحرِّف لحقائقه.
كان يحضر دروس العّلامة الشيخ صالح العقاد، وما كان يتخلف عن حضور درس الجمعة، وكنت أذهب معه إلى الدرس ونعود معاً؛ ذلك لأننا جيران والدرس في بيت الشيخ في حيّ الصالحية. وكذلك فقد كنت أحضر معه أحياناً دروس الشيخ في النورية[3].
كنت ألقاه يومياً في المسجد في الصلوات الخمس، وكان حديثه نافعاً، وأذكر أنه اطلع على مقالة للشيخ علي الطنطاوي نشرها في مجلة المسلمون عنوانها (يا بنتي) فأعجب بها، وقال: أرى أن تطبع هذه المقالة في رسالة وتوزَّع على الطالبات وقال: أنا مستعدّ للتبرع بمبلغ ذكره لطباعتها، ودفع المبلغ المذكور وكنت حينذاك عضواً في لجنة مسجد الجامعة: الجامعة السورية، فاقترحت على اللجنة إنشاء فرع للنشر وأن تكون هذه الرسالة أول رسالة فجمعنا تبرعات يسيرة وضممناها إلى المبلغ الذي دفعه الشيخ ونشرنا الرسالة ووزعناها على طالبات الجامعة. وقدّر الله أن يتتابع نشر الرسائل وأن يظهر بعد ذلك عدد من الرسائل عن لجنة المسجد يزيد على المائة[4].
وكان على صلة وثيقة بشيخنا محمد بهجت البيطار رحمه الله وكذلك فقد كانت له صلة بالشيخ سعدي ياسين الذي كان إذا جاء من بيروت اتصل به وزاره، وكذلك فقد كانت له صلة بالشيخ محمّد ناصر الدين الألباني وكانت له صلة وثيقة بالعلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة الذي كان يزوره كثيرا كلما جاء إلى دمشق من مكة المكرمة في فصل الصيف وقد عرفته عنده وأهداني بعض مؤلفاته.
وكذلك فقد كانت له صلة بالشيخ زين العابدين التونسي، وكان يصلي إماماً معه في مسجد الخانكية أول الأمر، وكانت له صلة بالشيخ سعيد الحافظ وعندما انتشرت المدارس الحكومية، اتجه الناس بأولادهم إليها فضعف شأن المدرسة، فافتتح مكتبة في الميدان مقابل مدرسة خالد بن الوليد، يبيع فيها الكتب والقرطاسية. ومما أذكره في ذلك أنه كتب بخطه الجميل لوحة على باب المكتبة نصُّها:
(رائحة الدخان تؤذينا فنحِّ عنا سيجارتك يرحمك الله)
ثم أكرمه الله بأن فتحت بنته مدرسة لتعليم البنات وتحفيظ القرآن الكريم فكان عليها إقبال شديد أغناه الله بذلك وجزاها الله الخير.
وكان عفّ اللسان لا يذكر أحداً بسوء ولا يغتاب أحداً ومجالسه كلها مجالس خير وعلم ودعوة، وكان يشجّع الحركات الإسلامية، ويحضّ على مطالعة الكتب الإسلامية، وأشهد أنه كان من الصادقين الصابرين.
ولي معه ذكريات كثيرة، أحسن الله إليه ورحمه الله وغفر لنا وله وجزاه عن المسلمين الخير.
وتوفِّي رحمه الله في 3 ذي الحجة من سنة 1385هـ 1965م ودفن في حيّ الميدان بدمشق.
هذا العالم الفاضل لم يُعط حقّه من التعريف وبما أني من تلامذته ومن جيرانه ومن أصدقائه كتبت ما كتبت واعتمدت في هذه المعلومات على خبرتي الشخصية، وكذلك على ما ذكرته لي بنته الأستاذة رشيدة -حفظها الله- بالهاتف.
هذا وقد كتب لوحة بخطه الجميل فيها بيتان من الشعر وكان يكررهما ويصدر عنها في حياته والبيتان هما:
يا لهفَ قَلبي على شَيئينِ لو جُمِعا عِندي لكُنتُ إذن من أسعَدِ البَشَرِ
كَفافُ عَيشٍ يَقيني ذُلَّ مَسألةٍ وخِدمَةُ العِلمِ حتَّى يَنقَضي عُمُري
[1] انظر ترجمته في الأعلام للزركلي 4/11 ط 4.
[2] انظر ترجمته في تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف 1/357 ط1.
[3] وهي مدرسة (مؤسسة جامعية) ذات شأن بناها السلطان نور الدين الشهيد ودفن في قبر خلفها.
[4] انظر تفصيل ذلك في المقدمة التي كتبتها للجزء الثاني من رسائل الجامعة التي أعاد طبعها المكتب الإسلامي.