العالم الأديب محمد اجتباء النَّدْوي

1

(1351-1429هـ/ 1932-2008م)

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

عرفته في القاهرة في أيام معدودات هي مدة انعقاد مؤتمر الهيئة العامة السابع لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، الذي كانت ندواته ومحاضراته واجتماعاته في فندق المركز الكشفي العربي الدولي، في شارع يوسف عباس بمدينة نصر، بين 12 و 15 من رجب 1426 هـ، وقد لفت انتباهي تحلق شباب شبه القارة الهندية ممن حضر المؤتمر حوله في كل مساء، يصغون إليه باهتمام وتبجيل..

فدنوت منه بشوق، لأعرف من ذا الرجل الذي يلقى كل هذا الاحتفاء...

كان شيخًا وقورًا، قد طعن في السن، واشتعلت لحيته شيبًا، هادئًا رزينًا، مبتسم المحيا، يحاور بسكينة، ويوجه بلطف، دمثًا لينًا، يفيد جالسيه بفوائد عزيزة، هي خلاصة خبراته وتجاربه في ميادين العلم والأدب والفكر..

إنه الأستاذ الدكتور السيد محمد اجتباء النَّدْوي العالم والأديب الهندي، وتكفي نسبته لنعرف موارد ثقافته وتحصيله، فهو أحد الدارسين والمتخرجين في ندوة العلماء التي نفخ فيها من روحه العلامة الإمام أبو الحسن النَّدْوي (1333-1420هـ/ 1914-1999م) عليه رحمات الله وكافأه بما هو أهل له..

في ذَرا أبي الحسن

ولم تكن علاقة الدكتور محمد اجتباء بشيخه أبي الحسن علاقة تلمذة عابرة، بل كانت علاقة صحبة وملازمة وطلب وإفادة واقتداء.. وقد عبر عن مكانة شيخه عنده بقوله: ((كان لنا والدًا عطوفًا، وأستاذًا شفوقًا، ومصدرًا ثرًّا، ومنهلاً نقيًّا عذبًا صافيًا، منذ نعومة أظفارنا)).

ويخبرنا ابن أخت الشيخ أبي الحسن فضيلة الشيخ محمد واضح رشيد الحسني النَّدْوي عن صلة المترجَم بخاله قائلاً: ((لقد عاش الدكتور اجتباء فترة طويلة بقرب الشيخ، وكانت لأسرته صلة وثيقة بأسرة الشيخ، وذلك من عهد الإمام المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد.. لقد قضى الدكتور اجتباء طفولته وعهدًا طويلاً من دراسته في بيئة الشيخ، فعرفه وأحبه.. ثم تتلمذ عليه وعاش فترة في ظل تربيته. ولقد صحبه في دمشق أثناء إقامته [أي إقامة أبي الحسن] أستاذًا زائرًا في جامعتها لعدة أشهر، في الخمسينيات من القرن العشرين.. ثم التحق بندوة العلماء مدرِّسًا في عهد رئاسة سماحته لها، وعمل في مختلِف المجالات العلمية والدعوية التي رعاها الشيخ)).

ولادته وتحصيله

ينحدر الدكتور محمد اجتباء النَّدْوي من أسرة شريفة حسينية، وكانت ولادته في قرية (مجهوامير) إحدى قرى مدينة (بستي) في المنطقة الشمالية لولاية (أترابرديش) الهندية بتاريخ 29 من جمادى الأولى 1351هـ يوافقه 29/ 9/ 1932م، في بيت علم ودين وجهاد، والتحق في حداثة طفولته بمدرسة (هداية المسلمين) في مدينة (بستي)، وكان أسس هذه المدرسة جده الأعلى الشيخ المجاهد جعفر علي الحسيني النَّقْوي، أحد خلَّص أصحاب الشيخ أحمد عرفان الشهيد والأمين العام لمكتبه، وفيها بدأ بتعلم اللغة العربية التي أتقنها فيما بعد وغدا من علمائها وأساتذتها وأدبائها..

ثم درس علوم الشريعة الإسلامية في دار العلوم لندوة العلماء بمدينة (لكهنؤ) ونال شهادة العالِمية منها سنة 1953م، ولكن هذه الشهادة لم تلبِّ طموحه ولم تشف نهمه في طلب العلم، فيمم وجهه شطر الشام والتحق بكلية الشريعة بجامعة دمشق، وفيها تخرج سنة 1960م، وهناك استفاد من صحبة كبار العلماء والفقهاء والأدباء والمفكرين. ثم تابع تحصيله في جامعة (عليكره) لينال منها شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها سنة 1965م بتقدير جيد جدًّا مع وسام التفوق العلمي الجامعي، وفي سنة 1976م حصل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي عن بحثه ((مساهمة الأمير صدِّيق حسن خان في الأدب العربي)).

على منابر التعليم

قضى محمد اجتباء النَّدْوي زهاء خمسة وثلاثين عامًا في التعليم والتربية والدعوة إلى الله، وقد بدأ نشاطه العملي أستاذًا للغة العربية والشريعة الإسلامية في المكان الذي تخرج فيه قديمًا وهو دار العلوم لندوة العلماء في (لكهنؤ)، من 1960- 1965م، ثم تولى تدريس اللغة العربية في المدرسة الثانوية العامة التابعة للجامعة المليَّة بمدينة (نيودلهي) إلى سنة 1972م، ثم حاضر في الجامعة نفسها وتولى رئاسة قسم الدراسات العربية والفارسية الإسلامية فيها حتى سنة 1979م. وعين مديرًا لجامعة الهداية، جي بور.

وغادر الهند ليحط رحاله في أرض الحرمين معلمًا في نجد والحجاز، فكان أستاذًا مساعدًا في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض من 1979- 1982م، ثم في كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إلى سنة 1986م. وبعد هذه السنوات السبع من الغربة عاد أدراجه إلى بلده الهند ليناط به رئاسة قسم اللغة العربية بجامعة كشمير سري نكر، من 1988- 1990م، وقضى السنوات الأخيرة من عمله الجامعي رئيسًا لقسم اللغتين العربية والفارسية بجامعة إله آباد حتى تقاعده سنة 1994م.

جهود حميدة

ولم تقتصر جهود المترجَم على التدريس الجامعي، إذ كانت له جهود علمية ومشاركات فاعلة في ندوات ومؤتمرات محلية ودولية في عدد من المدن منها: الرياض، ودبي، ومكة المكرمة، والقاهرة، ومراكش، وإستانبول، والكويت.. وكان من المشاركين في فعاليات (يوم القدس العالمي الخامس على الإنترنت) نهاية العام الماضي.

وهو عضو الهيئة الإدارية لندوة العلماء، والمجمع الإسلامي العلمي في (لكهنؤ).

وعمل في إذاعة جُدة للغة الأردية، مقدمًا للبرامج ومترجمًا للمواد الثقافية والإخبارية.

وكان له أثر ومشاركة بيِّنة في تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية التي بذر بذور دعوتها الأولى الشيخ أبو الحسن النَّدْوي في كتابه ((مختارات من أدب العرب))، ثم في سنة 1980م نضجت فكرة تأسيس الرابطة، بدعوة من الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا، في منزله بالرياض، بحضور الأساتذة الأدباء د. عبدالقدوس أبو صالح، ود. عبدالباسط بدر، ود. أحمد البراء الأميري، ود. محمد اجتباء النَّدْوي. واتفق المجتمعون على التماس موافقة الشيخ أبي الحسن أن يكون رئيسًا للرابطة، وكلِّف المترجَم بمراسلة الشيخ لطلب الموافقة، وهذا ما كان. وعُقد مؤتمر عام للأدباء في حرم ندوة العلماء بالهند، أُعلن فيه عن قيام (رابطة الأدب الإسلامي العالمية) وانتُخب الشيخ أبو الحسن رئيسًا لها عام 1981م، وهي اليوم منهل عذب ثر للأدب الطاهر النقي في العالم([2]). وتولى الدكتور محمد اجتباء رئاسة المكتب الإقليمي للرابطة في الهند، وهو عضو مجلس الأمناء فيها إلى وفاته.

مؤلفات وآثار:

خلف المترجَم عددًا من المصنَّفات والآثار، في موضوعات شتى شملت قضايا الفكر الإسلامي، والتراجم، والأدب واللغة، منها:

1- تاريخ الفكر الإسلامي. باللغة الأردية.

2-  حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية. باللغة الأردية.

3-  المرأة في الإسلام. باللغة الأردية.

4-  المعالم المشرقة. باللغتين الأردية والهندوسية.

5-  المحادثة والتعبير العربي. باللغة العربية.

6- أبطال الإسلام.

7-  مساهمة الأمير صدِّيق حسن خان في الأدب العربي. باللغة العربية.

8-  الأمير سيد صدِّيق حسن خان: حياته وآثاره. باللغتين العربية والأردية.

9-  الإمام أحمد بن عبد الرحيم شاه ولي الله الدهلوي، ومصادره العلمية. باللغتين العربية والأردية.

10- أبو الحسن النَّدْوي، الداعية الحكيم والمربي الجليل. باللغة العربية.

11- الشيخ أبو الحسن النَّدْوي أديبًا وداعية. باللغتين العربية والأردية.

شهادة عارف

أما صفات المترجَم وشمائله فيوجزها لنا أحد عارفيه، الخبيرين به وبأحواله، وهو نور عالم خليل الأميني أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند/ يوبي، الهند، ورئيس تحرير مجلة (الداعي) الصادرة عن الجامعة، بقوله: ((كان الشيخ محمد اجتباء أحدَ علماء العربية الممتازين في شبه القارة الهندية، ذا ثقافة واسعة، وانفتاح على أحوال العالم، واهتمام بالقضايا الإسلامية، وتألم على أوضاع المسلمين المتردِّية، يعايش هموم وآلام العالمين العربي والإسلامي، ويتحرق على ضعف الأمة المسلمة وهوانها على الأعداء.. وكلما تعمقت في شخصه ازددت إعجابًا بإنسانيته، وتقديرًا لحلمه وكرمه.. ولمست فيه رجلاً ذا تدين واعتدال، وتأنٍّ وهدوء، وزهد في السمعة الكاذبة، والشهرة الواسعة، وإنما كان يحرص على العمل، ويدعه يتكلم عنه. وتلك صفة ذات معنى أسمى ودلالة أرفع، إذا اتصف بها عالم كاتب داعية يتبنى رسالة ويحتضن غاية، فلا حاجة به إلى الاعتناء بأي دعاية وإعلام، لأن هذه الصفة وحدها تكفيه من كل وسيلة بإمكانه أن يتخذها لإشهار نفسه)).

صلة وصحبة

اتصلت أسبابي بأسباب الدكتور محمد اجتباء النَّدْوي في تلكم الأيام القليلة، وبثني فيها من ذكرياته الطيبة الغابرة في الشام، خلال السنوات الخمس التي قضاها فيها أيام دراسته في كلية الشريعة بجامعتها، وحدثني عن صلاته الوثيقة بعدد كبير من أعلامها ورجالات العلم والدعوة فيها، وكم كنت سعيدًا وهو يخبرني عن مواقف له مع بعض أشياخي وأساتذتي الأفاضل.. وكنت أستشعر في كلماته حنينًا دافئًا إلى الشام وأهل الشام، وحبًّا عميقًا متجذرًا للشام وأهل الشام، وشوقًا إلى ربوعها ولقاء الأحبة والألاف فيها.. وازدادت سعادتي حين علمت أنه بصدد زيارتها بعد الفراغ من مؤتمر الرابطة بالقاهرة.. وهذا ما كان، فقد حجزنا في رحلة واحدة من القاهرة إلى دمشق، وكنت لصيقًا به فيها، نتابع ما بدأناه من أحاديث الذكريات والأشواق.. وكان معنا عدد من الأدباء الأفاضل، منهم: أستاذنا الدكتور وليد قصاب، والأخوان الحبيبان أحمد صوان، وخليل الصمادي.. وفي مطار القاهرة التُقطت لنا صور مع الشيخ المترجَم، وفي مطار دمشق ودعناه على مضض وقد مضى إلى مضيفه الشيخ د.حسام الدين فرفور الذي كان بعض ولده في استقبال زائرهم الجليل...

صدمة أي صدمة!

وفي الرياض أظهرتُ صورتيَّ مع الشيخ محمد اجتباء النَّدْوي، وعزمت على إرسالهما إليه، لتبقيا ذكرى الأيام المبهجة التي قضيتها بصحبته.. ولكن الصورتين لم تلبثا أن غاصتا في أكوام الكتب والأوراق، ونسِّيت أمرهما سنوات! وقبل أيام وقفت عليهما من جديد، فجعلتهما في ظرف دسسته في حقيبتي عازمًا عزمًا أكيدًا أن أرسلهما في صباح اليوم التالي إلى شيخنا في الهند، أجل وضعتهما في الحقيبة وتناولت العدد الجديد من أعداد مجلة الأدب الإسلامي رقم (60)، لأطالع ما يحمله من موضوعات جديدة مفيدة، فإذا بخبر يفجؤني ويدخلني في حيرة وذهول.. خبر قليل الكلمات، لكنه خلف في نفسي أثرًا عميقًا من الحزن والألم.. يقول: ((فقدت رابطة الأدب الإسلامي العالمية أحد رجالاتها في شبه القارة الهندية بوفاة الأستاذ الدكتور السيد محمد اجتباء النَّدْوي في 20/ 6/ 2008م))([3]). ثم ألحق الخبر بترجمة موجزة للمتوفى عليه رحمات الله تترى..

نحيت المجلة جانبًا.. وأخرجت الصورتين من الحقيبة.. تأملت في وجه الشيخ ومحياه الوقور.. رميت بالظرف بعيدًا، وأعدت الصورتين إلى سجل الصور.. فما من حاجة بعد إلى إرسالهما، فلمن أرسلهما؟! ومن يستقبلهما؟!

رحمك الله أيها الشيخ الجليل، كم كنت أود أن أتعرفك أكثر، وأن أتواصل معك زمنًا أطول، وأن يكون بيننا مراسلات وسؤالات، أنتفع فيها من علمك، وأستفيد من تجاربك، وأقف على أخبار من أحب من مشايخي وأساتذتي في مراحل لم أدركها من أعمارهم، وأدركتها أنت.. ولكن قضاء الله أسرع من الأماني، وأقطع للصلات.. أولم يسمِّ الصادق الأمين الموتَ بهاذم اللذات! بلى والله إنه لهاذم اللذات، ومشعل الأحزان في القلوب كالجمرات!!

ولكننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.

              

([1]) أفدت في كتابة هذه الترجمة من: مقدمة كتابه ((أبو الحسن علي الحسني النَّدْوي، الداعية الحكيم والمربي الجليل))، وتقديم الشيخ محمد واضح رشيد الحسني للكتاب. و((مجلة الأدب الإسلامي))، العدد 60، 1429هـ/ 2008م، ص142. و((مجلة الداعي)) الصادرة عن الجامعة الإسلامية دار العلوم، ديوبند/ يوبي، الهند، العدد 9- 10، السنة 32، رمضان- شوال 1429هـ/ سبتمبر- أكتوبر 2008م، باب إلى رحمة الله، بقلم رئيس التحرير: نور عالم خليل الأميني أستاذ الأدب العربي بالجامعة.

([2]) انظر ((أبو الحسن علي الحسني النَّدْوي، الداعية الحكيم والمربي الجليل)) للمترجَم ص47.

([3]) كانت وفاته في إثر جراحة قلبية أجريت له في مستشفى (مركز القلب) بنيودلهي، بعد سنوات من معاناة القُلاب (مرض القلب)، يوم الجمعة 15 من جمادى الآخرة 1429هـ، وصلى عليه في مسجد الجامعة المليَّة الإسلامية بدلهي ابنُ أخيه الأكبر الشيخ عبيد الله الأسعدي، بحضور عدد وافر من جِلة علماء الهند ورجال الفكر والدعوة فيها، ودفن بمقبرة الجامعة، مخلِّفًا ثلاث بنات وابنًا، ألهمهم الله الصبر، ورحم فقيدهم وفقيدنا.