محمد إقبال...
الشاعر والمجدد
عبد العزيز كحيل
يعتبر الدكتور محمد إقبال من أبرز الوجوه الإسلامية المعاصرة في شبه القارة الهندية، فهو الشاعر الفحل الموهوب الذي حمل الهم الإسلامي وتغنى بدين الله وأمجاده، وهو الفيلسوف القدير الذي دعا إلى تجديد الفكر الإسلامي، كما أنه السياسي الذي عمل على استقلال المسلمين عن الهند ببلد خاص بهم، هذا الرجل الذي توفي سنة 1938 مازال مجهولاً إلى حد بعيد على الساحة العربية وبين كثير من المسلمين رغم الشهرة التي يحظى بها ويستحقها فلا بد إذن من شيء من المعرفة الحقيقية به وبفكره وآرائه ، وقصد الوفاء ببعض حقه نعرض لجوانب بارزة من عطائه وحياته رحمه الله
نبوغ نادر
يعجب الدارس لحياة إقبال رحمه الله من قدرته الفائقة على التحصيل في علوم كثيرة مختلفة، فهو قد تربى في جو من الروحانية التي اشتهر بها مسلمو الهند وتأثر بجلال الدين الرومي ومحمد شبلي النعماني وعب من نبع القرآن الكريم والعلوم الدينية ثم درس الفلسفة في جامعة كمبردج الإنجليزية ذات الشهرة العالمية ونبغ فيها ودرس بعد ذلك في ميونيخ بألمانيا ثم انتقل إلى باريس والتقى بالفيلسوف المشهور هنري برجسون والمستشرق ماسينيون، وتكونت له في أوروبا ثقافة ثرية متنوعة شملت بالإضافة إلى الفلسفة علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون، وقد اشتغل محاميا بعد رجوعه إلى بلده... ألا يذكرنا هذا برجال السلف الذين كان الواحد منهم موسوعةً علمية وكأنه اجتمع فيه عدة رجال متخصصين ، ولعل العجب يزداد عندما نعلم أن إقبال كان يحسن اللغات الأردية والفارسية والعربية والإنجليزية، وقد اشتغل بالسياسة وترأس الرابطة الإسلامية بالهند وشارك في المفاوضات الخاصة بمستقبل بلاده آنذاك وأعلن في 1932 من لاهور عن مشروع إنشاء باكستان.
إقبال.. الداعية المتحمس
إن الذي خلد محمد إقبال هو بدون منازع حرارة دعوته إلى الإسلام وغيرته عليه وانشغاله به، ويلمس المطلع على شعره حبه الشديد للرسول عليه الصلاة والسلام، فكم هام به في قصائد عصماء ترتعش لها الفرائس وتذرف لها العبرات (فكان داعيا يثير الحماس وينفخ في المسلمين روح العزة والإباء ويذكر المسلم بدوره الرائد ومكانته القيادية ورسالته الخالدة) كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي، وكان شديد الإيمان بخلود الرسالة المحمدية وعمومها وخلود هذه الأمة وصلاحيتها للبقاء وكرامة المسلم وتهافت الفلسفات المعاصرة، وتغنى بكل هذا في أشعاره الرائعة المكتوبة بالأزدية والفارسية وقد ترجم كثيرا منها إلى العربية كل من الدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ أبو الحسن الندوي وغيرهما، ولتقدير إقبال الداعية حق قدره يجب تذكر ظروف الانحسار والشدة التي كان عليها المسلمون آنذاك وما عانوه من زحف غربي زعزع العقائد وشوش على الرؤى وأفسد علاقة المسلمين بدينهم وربهم ونبيهم فتلك هي الظلمات التي انبرى الشاعر القدير لإزاحتها وتحريك كمائن الإيمان في النفوس وتوجيه سهام النقد للدعوات الوافدة، وإن الخاطر ليجيش وتثور العواطف وتتحرك الحماسة الإسلامية في المؤمن وهو يقرأ قصائده الرائعة: في مدينة الرسول-شكوى ومناجاة-دعاء طارق-حديث الربيع-في جامع قرطبة- إلخ...
وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر لم ينكفئ قط على هموم المسلمين الهنود رغم كثرتها وضخامتها وإنما كان يحمل الهم الإسلامي كله ويرفع راية الرسالة الخاتمة متعديا الحدود ويخاطب ضمير المسلم أينما وجد يرده إلى الله ويمد وشائج الحب بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إقبال ... المجدد
شغل إقبال كما قلنا بأوضاع المسلمين وبحث في شأنها ونقب في أسباب الضعف الشامل فوضع يده على مكمن الداء وأدرك أن الأزمة فكرية بالأساس تتمثل في العجز عن تحويل قيم الوحي وحقائقه وكلياته إلى معايير اجتماعية وسلوكيات ميدانية، فالمشكلة تكمن في تصورات المسلمين وانقطاعهم عن عناصر القوة في دينهم وهو ما يدعو إلى تجديد فكري عميق، فأصدر في سنة 1932 كتابه المشهور (تجديد الفكر الديني في الإسلام) باللغة الإنجليزية وضمنه آراء في معالجة الأزمة الفكرية وركز تركيزا خاصا على معرفة الذات والثقة بالنفس ليسترجع المسلم مقومات شخصيته وثقته بنفسه وبرسالته ويعود إلى احتلال مقام الإمامة والتوجيه، وقد أبدأ الدكتور رحمه الله وأعاد حول إثبات ذات المسلم وطالب بإعادة قراءة تراث السلف في ضوء العصر وحاجاته ووسائله للخروج من دائرة التقديس والتقليد إلى رحاب الانتفاع والإبداع، ويمكن تلخيص فلسفته التجديدية في ضرورة تطليق الجمود ومواجهة تحديات العصر والتسلح بالفعالية والديناميكية لمتابعة حركة الكون، وهذا ما يفرض على المسلم أن يعيش ويتجدد ويعيد النظر في نفسه وفيما حوله ويستفيد من الإبداعات الإنسانية في مختلف مجالات الحياة، وفي هذا الإطار فرق بين الوجود الإنساني والوجود الإيجابي، وأكد أن المسلم بفضل إيمانه يجب أن ينخرط في النوع الثاني كما احتفى _رحمه الله_ احتفاء كبيراً بموسى عليه السلام ورد عطاءه الخارق إلى اليد التي تحمل العصا لا إلى العصا الخشبية، فاليد الموسوية هي التي استحقت أن تفرق البحر وتفجر من الحجر ماء وليس مجرد العصا فدعا المسلمين الى أن يكونوا مثل موسى عليه السلام أصحاب أياد قوية ليجري الله عليها ما يشاء من المعجزات
إن إقبال الفيلسوف كان من الباحثين عن (الإنسان الكامل) ربما تأثرا بنيتشه الذي درسه في ألمانيا نفسها، ووجد ضالته في المسلم صاحب الإيمان واليقين والشجاعة والقوة الروحية والتوحيد الخالص والإنسانية الشاملة والتجرد من الشهوات والتمرد على الموازين الزائفة، يقول في أحد الأبيات: إنك أيها المسلم في العالم وحدك--- وما عداك سراب خادع ودرهم زائف
فالمسلم الذي كان يريده إقبال حي خالد رائد التغيير ورسول الحياة يستمد قوته من رسالته ويتخلق بأخلاق الله ولا يحجب ضياءه عن أي شبر في هذا الكون.
هكذا يثق الفيلسوف الكبير في المسلم وينير له طريق الفعالية وينتظر منه خلاص العالم، وهو بذلك من رواد التجديد المسلمين الذين عنوا بتوضيح التصور وتحريك الإيمان واستصحاب قيم الوحي لمعايشة العصر وتغيير الحياة نحو الأفضل.
إقبال والحضارة الغربية
تقلب محمد إقبال في أعطاف الفكر الغربي واغترف من مصادره الأصلية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغاص في أعماقه وتأثر ببعض جوانبه لكنه لم يذب فيه ولا انهزم أمامه ولا اغتر بالحضارة التي أنشأها ذلك الفكر وإغرائها الذي لا يصمد أمامه إلا من تمتنت صلته بالله وكتابه ونبيه، وله _رحمه الله_ كلمات وأبيات بديعة في هذا الموضوع منها:
- (كسرت طلسم الحاضر وأبطلت مكره، التقطت الحبة وأفلتت من شبكة الصياد، يشهد الله أني كنت في ذلك مقلدا لإبراهيم، فقد خضت في هذه النار واثقا بنفسي وخرجت منها سالما محتفظا بشخصيتي).
- (لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ويغشى بصري، ذلك لأنني اكتحلت بإثمد المدينة).
بل كان محمد إقبال عدواً للحضارة الغربية لماديتها واستعبادها للشعوب، وكان شعره سهاما مسمومة في صدور الغربيين يقول: (لقد تضخم العلم وتقدمت الصناعة في أوروبا ولكنها بحر الظلمات ليست فيه عين الحياة... إن هذا العلم والحكمة والسياسة والحكومة التي تتبجح بها أوروبا جوفاء ليست وراءها حقيقة، إن قادتها يمتصون دماء الشعوب).
وكان يرفض الشيوعية رفضه للرأسمالية ويعترهما فرعين من دوحة المادية تلتقيان على النسب المادي والنظر المحدود إلى الإنسان.
وكان يرتاب من دعوات تجديد الإسلام يقول: (إنني أخاف أن تكون الدعوة إلى التجديد إنما هي حيلة وانتهاز لفرصة تقليد الغرب) ولهذا انتقد أتاتورك رغم أنه كان قد انخدع به في أول الأمر (إن كمال تغنى بالتجديد في حياة تركيا ودعا إلى محو كل أثر قديم وتراث قديم، ولكنه جهل أن الكعبة لا تجدد ولا تعود إلى الحياة والنشاط إذا جلبت لها من أوروبا أصناماً جديدةً، إن زعيم تركيا لا يملك اليوم أغنية جديدة إنما هي كلها أغان معادة تتغنى بها أوروبا منذ زمان... إنه لم يستطع أن يقاوم وهج العالم الحديث فذاب مثل الشمعة وفقد شخصيته).
ويقول مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من أولئك الذين يحجون إلى أوروبا ويشدون إليها الرحال مرة بعد مرة ولا يتصلون بك أبداً في حياتهم ولا يعرفونك).
ويقتضي الإنصاف أن نشير إلى أنه رغم حملاته العنيفة على الحضارة المادية واعتداده بالانتساب للإسلام إلا أنه تأثر ببعض توجهات الفكر الغربي ونجد ذلك في آرائه متمثلا في مسحات من فلسفات هيجل ونيتشه ويرجسون وتوينبي أثرت على تصوره ولم يتخلص من ذلك إلا في الطور الأخير من حياته حيث ازداد فكره نضجاً ودعوته وضوحاً ومعارفه اتّساعاً، وهذه حقيقة أكدها الإمام المودودي والأستاذ أبو الحسن الندوي والدكتور محمد البهي، وقد اقترن تأثره بالفكر الغربي بوقوعه تحت تأثير التصوف الشرقي فأحدث ذلك بعض التشويش على فكره رحمه الله من ذلك مثلاً أنه يعتبر النار المذكورة في القرآن مجرد حالة نفسية وليست مكاناً أعده الله للأشرار لأن الله يتنزه عن تعذيب الكائن الضعيف الهزيل، ونحو هذا من التأويلات ، والعصمة للأنبياء وحدهم وكفى المرء فخرا أن تعد معايبه
هل محمد إقبال مجتهد؟
غالى في إقبال علمانيون وإسلاميون، أولئك لانتحالهم بعض آرائه غير الأصيلة واعتماده مجتهداً يجدد الإسلام نفسه ويلحقه بالفهم العلماني _كما فعل الدكتور إبراهيم عافة في بعض أبحاثه المتسمة بالتوجه العلماني _ وهؤلاء عندما بالغوا في مناقبه فعدّوه مجتهدا بالمعنى الأصولي وقد أدرج بهذه الصفة في ملتقى الفكر الإسلامي المنعقد بالجزائر سنة 1983 والمخصص للاجتهاد إلى جانب الأئمة الأربعة ونظرائهم، وقد سألت الدكتور ظهور أحمد أظهر الذي ألقى محاضرةً حول إقبال عن الأمر فأجابني بكل صراحة بأنه كان شاعرا وفيلسوفا ومفكرا لكنه لم يكن مجتهدا بالمعنى الاصطلاحي، فهو لم يكن عالم دين ولا ادعى ذلك إنما هو _رحمه الله_ داعية متحمس له آراء في التجديد كما لغيره.
مواقف مشرفة
نسجل في الأخير بعض المواقف المشرفة وقفها الرجل المؤمن:
- هو أول مسلم يصلي في مسجد قرطبة بعد ضياع الأندلس وذلك سنة 1932 وسكب هناك العبرات وكتب رائعته الخالدة (في جامع قرطبة).
- دعته فرنسا لزيارة مستعمراتها في شمال إفريقيا فأبى كما رفض زيارة مسجد باريس وقال: (إن هذا ثمن بخس لتدمير دمشق وإحراقها)فعل ذلك رفضا للإستعمار الفرنسي
- عرضت عليه بريطانيا وظيفة نائب الملك في جنوب إفريقيا _وكانت قد منحته لقب SIR_ فرفض لأن المنصب يقتضي سفور زوجته في الحفلات، وقال: (إن في هذا إهانة لديني ومساومة في كرامتي).
هذا هو محمد إقبال باختصار، وقد ولد سنة 1877 في البنجاب وتوفي يوم 17/04/1938 .