الشهيد عبد الله عزام في ذكرى استشهاده

الشهيد عبد الله عزام الفارس الذي صعد

في ذكرى استشهاده (24-11-1989)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

عرفت الشهيد عبد الله عزام، وعايشته لبضع سنين: ففي 18 من أكتوبر سنة 1981م ـ وكنت آنذاك مدرسًا بكلية الألسن بجامعة عين شمس ـ غادرت القاهرة إلى الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة التعليم العالي المصرية أستاذًا زائرًا لمدة عام، بجامعة (Yale) بمدينة نيوهافن بولاية كنكتكت.

وفي أواخر ديسمبر من العام نفسه ـ وعلى مدى أربعة أيام ـ حضرت مؤتمرًا بمدينة سبرنج فيلد (Spring Field) بولاية ألينوي للشباب المسلم العربي حضره آلاف من الشباب. وكان شعار المؤتمر "الأسوة الحسنة" . وحول هذا الشعار دارت أغلب المحاضرات والندوات، وقام الشباب المسلم ـ في دقة رائعة وانضباط منقطع النظير- بكل الأنشطة والأعمال والخدمات التي يتطلبها المؤتمر.. يصدق ذلك على تقديم الطعام بوجباته الثلاث، وأعمال النظافة والحراسة، والتسجيلات الصوتية , والنشرة اليومية المطبوعة , والسوق الخيرية... إلخ حتى أشادت الصحف الأمريكية ببراعة هذا التنظيم ودقته، ويومها كتبت في نشرة المؤتمر ـ التي كانت تصدر يوميًّا ـ : "... لقد آمنت بإمكانية قيام الدولة الإسلامية المنشودة؛ لأن ما رأيته من دقة وتعاون ونظام ونشاط وإخلاص في التدبير والتنفيذ.. يجعل من المؤتمر صورة مصغرة "للدولة الإسلامية التي نتطلع إليها، وتهفو قلوبنا إلى وجودها ...".

وفي هذا المؤتمر العظيم كان أول لقاء لي بالدكتور عبد الله عزام الذي كان واحدًا من أعلام المحاضرين والخطباء في المؤتمر. وفي إحدى الأمسيات شرح عبد الله عزام أمام هذه الألوف المؤلفة من الشباب أبعاد القضية الأفغانية، وسمعت منه كلامًا جديدًا جعلني ازداد إيمانًا بصدقية الجهاد الأفغاني. كان عبد الله عزام يتكلم بنبض إيماني دفاق باسم الإسلام، والجهاد، والدم الزكي الذي بذله أكثر من مليون شهيد. ولكن هذه العاطفة القوية الجياشة كانت مصحوبة بمنطق عقلي علمي متزن وقور.

وفي تضاعيف كلامه حث عبد الله عزام شباب المؤتمر على التبرع للمجاهدين، واليتامى، والأرامل، والجرحى ببعض مالهم، وانضم لصوته صوت قوي آخر يتدفق بلاغة وإيمانًا هو صوت الدكتور يوسف القرضاوي.

وفي ربع ساعة كان أمام الرجلين على منصة الخطابة ما يزيد على ربع مليون دولار، عدا مفاتيح عشرات من السيارات الفاخرة مصحوبة بتنازلات عن ملكيتها لصالح القضية الأفغانية، وهذاكله عدا "أثقال" من الحلي الذهب تبرعت بها السيدات المسلمات اللائي كن يحضرن المؤتمر في قاعة مستقلة، وقد علمت أن الواحدة منهن كانت تجرد عنقها وأذنيها ويديها من حليها الفاخر, وتضعه في منديل , وتقدمه تبرعًا وهي تلهج بقولها "ما عند الله خير وأبقى".

كان عزام مندوبًا عن المجاهدين الأفغان في المؤتمر، ولم أكن أعرف عنه إلا أنه فلسطيني الجنسية، وأنه أحد الأعضاء البارزين المخلصين في جماعة الإخوان المسلمين، وأنه يعمل أستاذًا للشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد بباكستان، وأن له صلة قوية وثيقة بقادة المجاهدين الأفغان وخصوصًا "سياف عبد رب الرسول" . وقيل إنه كان همزة الوصل بين المجاهدين الأفغان، وبعض الشعوب العربية، وأصحاب الاتجاهات الإسلامية الحريصين على مناصرة المجاهدين الأفغان، ونما المجهود المبارك بعد ذلك بفتح مكتب في مدينة بشاور لإعداد المجاهدين من المتطوعين العرب الذين وفدوا إليه بالمئات، ولتلقي التبرعات، وتنسيق الجهود على كل المستويات.. وكان عبد الله عزام هو القائم على أمر هذا المكتب ورعاية شئونه.

*****

وكان لقاؤنا الثاني في الجامعة الإسلامية بإسلام أباد التي أعرت للعمل بها لمدة خمس سنوات (1984م ـ 1989م) وهي الجامعة التي يعمل بها الدكتور عزام، وتعددت لقاءاتي به في الجامعة حتى كادت تكون لقاءات يومية سريعة.

ثم كانت لقاءاتنا في منتديات ومحاضرات عامة، وكان ـ رحمه الله ـ حريصًا على حضور الأمسيات الشعرية التي كنا نقيمها في الجامعة أو مقر اتحاد الطلاب العرب، فقد كان يحب الشعر ويتذوقه ويحفظ كثيرًا منه، ويستشهد ببعض الأبيات الشعرية المتوهجة في مقالاته.

واذكر في هذا المقام أنه ـ رضوان الله عليه ـ ما كان يلقاني في الجامعة، ونحن في طريقنا لأداء محاضراتنا في الفصول إلا أوقفني وقال وعلى وجهه ابتسامة عريضة:

ـ "لن أتركك إلا إذا أمليت عليّ بيتًا من شوارد الشعر" ويخرج من جيبه "نوتة" صغيرة، ويسجل فيها ما تسعفني به الذاكرة، ولآخر بيتٍ أمليته له قصة: لقد استوقفني وقال: أريد بيتًا في موضوع الغربة. فضحكت وقلت له: اكتب المثل المصري المشهور "الغربة كربة". قال مبتسمًا: "أعني غربة الروح". وأحسست أنه شعر بالارتياح العميق حينما أمليتُ عليه بيت ابن الرومي:

أعاذَكَ أنسُ المجدِ من كل وحشةٍ         فإنَّكَ فـي هـذا الأنامِ غَريبُ

وبصوت خفيض أخذ يردد الشطر الثاني , ورأيت في عينيه عبرتين , وافترقنا .

أما آخر اللقاءات فكان بعد صلاة العشاء مساء يوم من أيام فبراير سنة 1989م. كنت ألقي محاضرة عامة في قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة، وموضوعها:

"رائد الجهاد الفلسطيني عز الدين القسام: في التاريخ والأدب". وأثناء المحاضرة دخل عبد الله عزام ومعه أبوه الذي جاوز الثمانين: شيخ قصير القامة، علاه الشيب، ولكن الحيوية تظهر في عينيه وقسمات وجهه، وكان معهما العالم العراقي المجاهد الشيخ محمد الصواف. وعلق الشيخان: عزام والصواف على المحاضرة بكلام طيب. وكان تعليق عبد الله عزام- كله أو أغلبه- تغزلاً في الشهادة ومقام الشهداء، حديث من يمتد بنظره وروحه إلى نيل هذا الشرف العظيم.

هذا والمعروف أن عبد الله عزام ترك العمل بالجامعة سنة 1987م ليتفرغ تمامًا لمقتضيات الجهاد الأفغاني، وليصبح علمًا من أعلام هذا الجهاد، أما الأدوار النبيلة التي قام بأدائها فهي أكثر من أن تحصى وتعد.

*****

وعدت إلى مصر ـ بصفة نهائية ـ في يونيو 1989م، وعلمت بعد عودتي بأسابيع نبأ استشهاده ومعه ولداه محمد وإبراهيم حين فجر أعداء الإسلام سيارته وهو متجه إلى أحد مساجد بشاورلإلقاء خطبة الجمعة يوم25 4 1410- 24 11 1989 . قلت يرحمه الله ؛ لقد حقق الله له أغلى أمنية حرص على تحقيقها طيلة حياته. وانعكست سيرته وعظمته حروفًا مشرقة مضيئة في قصيدة ملحمية طويلة نظمتها بعنوان: "الفارس الذي صعد". ومنها الأبيات التالية:

 .....................

    ثم اختفَى فسألتُ عنه

فقيل:

ـ لا تبحثُ هنا، وأبحثُ هناكْ

ـ وما هناكْ؟

ـ حيث المدافعُ والخنادقُ والصخورْ

حيث الكفاحُ المرُّ يحكي ملحمَةْ

كُتبتْ بماء القلبِ والأعصابِ

والأشلاءِ والعزم السعيرْ

فهناك خَالدُها

وسعدٌ

والمثنى

والكتيبةُ

والنذيرْ

يتقدمون بفتية الأفغانِ

في زحفٍ خطيرْ

و"عُقابُ" سيدنا رسولِ الله

فَوقُهُم ترفرفُ كالهديرْ

ليحققوا النصر الكبيرْ

أوموتةً تزهو على الأكوانِ

"أنْعِمْ بالمصير"!

"عزامُ" في هِذي الكتيبِة في بَشاورْ

أو عند"غزنةَ" أو "هرات" و "قندهار"

ليلاً هُنا، وهناكَ في ألَقِ النهارْ.

**********

هذه خطوط من حياته ، وكلها نير مضيء ، سينير الطريق لهذا الجيل وكل الأجيال ، ولا عجب أن يترك قبل استشهاده بسنوات طويلة وصيته ، وهى تدل ــ من ملامحه العقدية ، والنفسية ــ على الكثير والكثير ، وآمل أن تنتفع بها الأجيال انتفاعها بسنوات حياته الدعوية والجهادية لذلك أقدمها للقارئ بنصها :

 وصية الشهيد عبد الله عزام :

من بيت القائد البطل الشيخ جلال الدين حَقَّاني، في عصر الاثنين الثاني عشر من شعبان سنة 1406هـ الموافق العشرين من نيسان (أبريل) سنة 1986م أكتب هذه الكلمات :

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً .

لقد ملك حبُّ الجهاد عليّ حياتي ونفسي ومشاعري وقلبي وأحاسيسي، إنَّ سورة التوبة بآياتها المحكمة التي مَثَّلث الشِّرْعَةَ النهائية للجهاد في هذا الدين وإلى يوم الدين لتعتصر قلبي ألماً، وتُمزِّق نفسي أسى ، وأنا أرى تقصيري وتقصير المسلمين أجمعين تجاه القتال في سبيل الله .

إنَّ آية السيف التي نسخت قبلها نيفاً وعشرين آية –أو أربعين آية- بعد المائة من آيات الجهاد لهي الردُّ الحاسم والجواب الجازم لكلِّ من أراد أن يتلاعب بآيات القتال في سبيل الله، أو يتجرأ على محكمها بتأويل، أو صرفها عن ظاهرها القاطع الدلالة والقطعي الثبوت

وآية السيف " وقَاتلواْ المُشْركينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلونَكم كافة واعْلَمُواْ أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقين" التوبة 36أو آية "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحْرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُم وَخُذُوهُمْ واحصُرُوهُم وَاقْعدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُواْ وأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رحيم". التوبة 5

إنَّ التبرير للنفس بالقعود عن النفير في سبيل الله، وإنَّ تعليل النفس بعلل تخدر مشاعرها فترضى بالقعود عن القتال في سبيل الله لَهْوٌ وَلَعبٌ، بل اتخاذ دين الله لهواً ولعباً، ونحن أُمرنا بالإعراض عن هؤلاء بنصِّ القرآن: "وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخذُواْ دِينَهُمْ لعباً وَلَهْواً وغرَّتْهُمُ الحياة الدُّنْيا". الأنعام 70

إنَّ التعلَّل بالآمال دون الإعداد لَهْوَ شأن النفوس الصغيرة التي لا تطمح أن تصل إلى القمم، ولا أن ترقى إلى الذرى.

وإذا كانت النفوس كبـارا          تعبت في مرادها الأجسامُ

إنّ الجوار في المسجد الحرام وعمارته لا يمكن أن يقاس بالجهاد في سبيل الله، وفي صحيح مسلم أن آية: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحآجِّ وعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ باللهِ واليَوْم الأخِرِ وَجَاهد في سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ الله واللهُ لا يَهْدي القَوْمَ الظَّالمين، الَّذينَ آمنوا وهَاجَرُوا وَجَاهَدوا في سَبِيلِ اللهِ بأَمْوَالِهِم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُولئِك هُمُ الفَائِزونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرحْمةٍ مِنْهُ ورِضوانٍ وجنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ، خَالِدِين فيها أَبداً إنَّ اللهَ عندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ". التوبة 19 -22

هذه الآيات نزلت عندما اختلف الصحابة في أفضل الأعمال بعد الإيمان، فقال أحدهم:؛ عمارةٌ المسجد الحرام. وقال الآخر: بل سقاية الحجيج. وقال الثالث: بل الجهاد في سبيل الله

فهذه الآيات نصٌّ في المسألة، إنَّ الجهاد في سبيل الله أعظمُ من عمارة المسجد الحرام، وخاصة أنَّ صورة سبب النزول هي خلاف الصحابة حول هذه المسألة

وصورة سبب النزول لا يجوز تخصيصها ولا تأويلها، لأنَّ معناها قاطع في النصِّ، ورحم الله عبد الله بن المبارك إذ يرسل إلى الفضيل بن عياض

يا  عابدَ الحرمينِ لَوْ أَبْصرتنا          لعلمتَ أَنَّكَ بالعبــادة تلعبُ

مَنْ كان يَخْضُب خَدَّه بدموعه          فنحورنا بدمائنــا تتخضب

أرأيت قولَ الفقيه المحدِّث ابن المبارك للفضيل؟ إنَّه يرى أنَّ جوار الحرم، والعبادة فيه، في الوقت الذي تنتهك فيه الحرمات، وتسفك الدماء، وتستباح الأعراض، ويجتث فيه دين الله من الأرض –اقول يراه- لعباً بدين الله .

نعم، إنَّ تَرْكَ المسلمين في الأرض يذبحون، ونحن نحوقل ونسترجع ونفرك أيدينا من بعيد دون أن يدفعنا هذا إلى خطوة واحدة تقدمنا نحو قضية هؤلاء لَهْوَ ولَعبٌ بدين الله، وَدَغْدَغةٌ لعواطف بَاردةٌ كاذبة طالما خدعت النفس التي بين جنباتها .

كيف القرار وكيف يهدأ مسلم والمسلمات مع العدو المعتدي ؟

إنِّي أرى كما كتبت في كتاب (الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان) كما يرى شيخ الإسلام ابن تيمية من قلبي:

والعدوُّ الصائل الذي يفسد الدين والدنيا ليس أوجب بعد الإيمان من دفعه

أي لا أرى –والله أعلم- أيَّ فرق اليوم: بين تارك القتال في سبيل الله، وبين تارك الصلاة والصيام والزكاة .

إني أرى أَهل الأرض جميعاً الآن أمام مسئولية عظيمة أمام ربِّ العالمين، ثمّ بين يدي التاريخ .

إني أرى أنَّه لا يُعْفي من مسئولية ترك الجهاد شيء، سواء كان ذلك دعوة أو تأليفاً أو تربية أو غير ذلك .

إني أرى أنَّ كلَّ مسلم في الأرض اليوم منوط في عنقه تبعة ترك الجهاد (القتال في سبيل الله) . وكلُّ مسلم يحمل وِزًرَ ترك البندقية، وكلُّ من لقي الله – غير أولي الضرر- دون أن تكون البندقية في يده فإنَّه يلقى الله آثماً، لأنَّه تاركٌ للقتال، والقتال الآن فرض عين على كل مسلم في الأرض غير المعذورين. وترك الفرض إثم، لأنَّ الفرض ما يثاب فاعله، ويحاسب أو يأثم تاركه .

إنَّني أرى – والله أعلم- أنَّ الذين يعفون أمام الله بسبب تركهم الجهاد هم: الأعمى والأعرج والمريض، والمستضعفون من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، أي لا يستطيعون الانتقال إلى أرض المعركة، ولا يعرفون الطريق إليها

والناس كلُّهم آثمون بسبب ترك القتال، سواء كان القتال في فلسطين، أوْ في أفغانستان، أو في أية بقعة من بقاع الأرض التي ديست من الكفار، ودنست بأرجاسهم .

وإني أرى أنَّ لا إذنَ لأحد اليوم في القتال والنفير في سبيل الله، لا إذن لوالد على ولده، ولا لزوج على زوجته، ولا لدائن على مدينه، ولا لشيخ على تلميذه، ولا لأمير على مأموره.

هذا إجماع علماء الأمة جميعاً في عصور التاريخ كلها، إنَّه في مثل هذه الحالة يخرج الولد دون إذن والده والزوج دون إذن زوجته، ومن حاول أنْ يغالط في هذه القضية، فقد تعدَّى وظلم، واتبع هواه بغير هدى من الله.

قضية حاسمة واضحة لا غبش فيها ولا لبس، فلا مجال لتمييعها، ولا حيلة لأحد في التلاعب فيها وتأويلها .

إنَّ أمير المؤمنين لا يُسْتَأذن في الجهاد في حالات ثلاث :

إذا عطَّل الأمير الجهاد.

إذا فوّت الاستئذان المقصود.

إذا علمنا منعه مقدماً .

إنَّني أرى أنَّ المسلمين اليوم: مسئولون عن كلِّ عرْض ينتهك في أفغانستان. وعن كلِّ دم يسفك فيها، إنَّهم – والله أعلم- مشتركون في دمائهم بسبب تقصيرهم، لأنَّهم يملكون أن يقدِّموا لهم السلاح الذي يحميهم، والطبيب الذي يعالجهم، والمال الذي يشترون به الطعام، والحفَّارة التي يحفرون بها الخنادق .

وقد جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/111-112) "أنَّ من كان يملك فضل طعام ورأى جائعاً وتركه حتى مات فإنْ كان صاحب الطعام متأولاً –يظنه لا يموت- فإنَّه يدفع ديته من عاقلته (أقاربه)، وإن كان عامداً فقد جاءت روايتان في المذهب: إحداهما: أنه يدفع ديته من ماله الخاص، والرواية الثانية: أنَّه يقتص منه لأنَّه قاتل"؛

فأيُّ حساب وأيُّ عقاب ينتظر أصحاب الثروات والأموال التي تُهْدَرُ على الشهوات، وتراق عبثاً على الأهواء والكماليات .

فيا أيها المسلمون:

حياتكم الجهاد، وعِزُّكم الجهاد، ووجودكم مرتبط ارتباطاً مصيرياً بالجهاد

يا أيُّها الدعاة: لا قيمة لكم تحت الشمس إلا إذا امتشقتم أسلحتكم ، وأبدتم خضراء الطواغيت والكفار الظالمين .

إنَّ الذين يظنون أنَّ دين الله يمكن أن ينتصر بدون جهاد وقتال ودماء وأشلاء هؤلاء واهمون، لا يدركون طبيعة هذا الدين .

إنَّ هيبة الدعاة وشوكة الدعوة وعزة المسلمين لن تكون بدون قتال: "ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت" وفي رواية: "وكراهية القتال"؛

فَقَاتِلْ في سَبيل اللهِ لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ وَحَرِّص المُؤمنينَ عَسَى الله أن يَكُفَّ بأسَ الذين كَفَرُوا واللهُ أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلاً" النساء 84

إنَّ الشرك سيعمُّ ويسود بدون قتال "وَقَاتِلوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّه لله" البقرة 193. والفتنة هي الشرك .

إنّ الجهاد هو الضمان الوحيد لصلاح الأرض "ولَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفسَدتِ الأَرْضُ" البقرة 251 .

إنَّ الجهاد هو الضمان الوحيد لحفظ الشعائر وبيوت العبادة "وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض لهُدّمتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلواتٌ وَمَساجدُ يُذكَرُ فيها اسْمُ اللهِ كثيراً" الحج 40.

يا دعاة الإسلام:؛

احرصوا على الموت توهب لكم الحياة، ولا تغرنَّكم الأماني، ولا يغرنَّكم بالله الغرور، وإيَّاكم أن تخدعوا أنفسكم بكتب تقرأونها، وبنوافل تزاولونها، ولا يحملنكم الانشغال بالأمور المريحة عن الأمور العظيمة، "....وَتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ... "الأنفال7.

 ولا تطيعوا أحداً في الجهاد، لا إذن لقائد في النفير إلى الجهاد، إنَّ الجهاد قوام دعوتكم، وحصن دينكم، وترس شريعتكم .

يا علماء الإسلام:

تقدموا لقيادة هذا الجيل الراجع إلى ربِّه، ولا تَنْكلوا، وتركنوا إلى الدنيا، وإيَّاكم وموائد الطواغيت، فإنَّها تظلم القلوب، وتميت الأفئدة، وتحجزكم عن الجيل، وتحول بين قلوبهم وبينكم

يا أيها المسلمون:

لقد طال رقادكم واستنسر البغاة في أرضكم، وما أجمل أبيات الشاعر

 طال الـمنام على  الهوا          ن  فأين   زمجرة  الأسود

 واستنسرت عصب البغا          ة ونحن  في  ذل  العبيـد

 قيد   العبيد   من  الخنو          ع وليس من زرد الحديـد

 فمتى  نثور  على  القيو          د  متى نثور على القيـود

يا معشر النساء:

إياكن والترف، لأنَّ الترف عدو الجهاد، والترف تلف للنفوس البشرية، واحذرن الكماليات، واكتفين بالضروريات، وربين أبناءكنَّ على الخشونة والرجولة، وعلى البطولة والجهاد. لِتَكُنْ بيوتكن عَرينا لأسود، وليس مزرعة للدجاج الذي يُسَمَّنُ ليذبحه الطغاة، اغرسن في أبنائكن حبَّ الجهاد، وميادين الفروسية، وساحات الوغى .

وعِشْنَ مشاكل المسلمين، وحاولن أن تكن يوماً في الأسبوع على الأقل في حياة تشبه حياة المهاجرين والمجاهدين، حيث الخبز الجاف، ولا يتعدى الإدام جرعات من الشاي.

يا أيها الأطفال:

تربوا على نغمات القذائف، ودويِّ المدافع، وأزيز الطائرات، وهدير الدبابات. وإيَّاكم وأنغام الناعمين، وموسيقى المترفين، وفراش المتخمين.

أمَّا أنتِ أيتها الزوجة، ففي النفس الكثير والكثير أريد أنْ أبثه إليك :

يا أمَّ محمد، جزاك الله عني وعن المسلمين خير الجزاء، لقد صبرتِ معي طويلاً على لأواء الطريق، وتجرعت معي كؤوسا الحياة حلوها ومرَّها، وكنتِ خير عون لي على أن أنطلق في هذه المسيرة المباركة، وأن أعمل في ميدان الجهاد .

لقد تركت على كاهلك البيت سنة 1969 أيام كان لدينا طفلتان وولد صغير، فعشتِ في غرفة واحدة من الطين، لا مطبخ لها ولا منافع، وتركتُ على عاتقك البيت يوم أن ثقل الحِمْل، وزادت العائلة، وكبر الأولاد، وكثرتْ معارفنا، وزاد ضيوفنا، فاحتملت لله، ثم من أجلي القليل والكثير .

فجزاك الله عني خير الجزاء، ولولا الله، ثم صبرك علي غيابنا الطويل عن البيت ما استطعت أن أحتمل هذا العبء الثقيل وحدي.

لقد عرفتك زاهدة في حياتك، لم تشتكي أيام الشدة من قلة ذات اليد، ولم تترفي، ولم تبطري أيام أن فُتِح علينا قليل من الدنيا، ولم تكن الدنيا في قلبك، بل كانت معظم الوقت في يدك .

إنّ حياة الجهاد ألُّذ حياة، ومكابدة الصبر على الشطف أجمل من التقلب بين أعطاف النعيم وجوانب الترف، الزمي الزهد يحبك الله، وازهدي بما في أيدي الناس يحبُّك الناس

القرآن هو متعة العمر وأنس الحياة، والقيام وصيام النافلة والاستغفار في الأسحار يجعل للقلب شفافية، وللعبادة حلاوة، وصحبة الطيبات، وعدم التوسع في الدنيا، والبعد عن المظاهر، وعن أهل الدنيا راحة القلوب. وآمل من الله أن يجمعنا في الفردوس ،بعد أن جمعنا في الدنيا

وأما أنتم يا أبنائي:

 فلم تَحْظوا من وقتي إلاَّ بالقليل، ولم ينلكم من تربيتي إلا اليسير. نعم، لقد شغلت عنكم ولكن ماذا اصنع ومصائب المسلمين تذهل المرضعة عن رضيعها، والأهوال التي أَلمَّتْ بالأمة الإسلامية تشيب نواصي الأطفال ؟

والله ما أطقت أن أعيش في قفصي معكم كما تعيش الدجاجة مع فراخها، لم أستطع أن أحيا بارد النفس ونار المحنة تحرق قلوب المسلمين، لم أرض أن أبقى بينكم طيلة وقتي وأحوال المسلمين تمزِّق كلَّ من له قلب أو بقية من لب .

ليس من المروءة أن أعيش بينكم أتقلب بين أعطاف النعيم، توضع لي صحفة، وترفع صحفة، بين أطباق اللحوم وأنواع الحلويات .

والله لقد كنت في حياتي أمقت الترف، سواء كان ذلك في ثياب أو طعام أو مسكن، وحاولت أن أرفعكم ما استطعت إلى مقام الزاهدين، وأبعدكم عن مستنفع المترفين .

أوصيكم بعقيدة السلف (أهل السنة والجماعة)، وإياكم والتنطع، أوصيكم بالقرآن تلاوةً وحفظاً، وبحفظ اللسان، وبالقيام والصيام وبالصحبة الطيبة، وبالعمل مع الحركة الإسلامية، ولكن اعلموا أنّه ليس لأمير الحركة أي سلطة عليكم بحيث يمنعكم من الجهاد، أو يزين لكم البقاء للدعوة بعيداً عن مصانع الرجولة، وميادين الفروسية، لا تأخذوا إذن أحد للجهاد في سبيل الله، ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحبَّ إلي من أن تركبوا .

أوصيكم يا أبنائي بطاعة أمكم، واحترام أخواتكم (أم الحسن وأم يحيى). وأوصيكم بالعلم النافع الشرعي، وأوصيكم بطاعة أخيكم الكبير "محمد" واحترامه، وأوصيكم بالمحبة فيما بينكم، وبروا جدَّكم وجدَّتكم، وأكرموهما كثيراً، وبروا عمتيكم (أم فايز وأم محمد) فلهما بعد الله فضل كبير عليَّ، صِلُوا أرْحامنا، وبروا أهلنا، وأوفوا بحقِّ صحبتنا لمن صاحبنا

وأما الأحزاب الجهادية:

فاهتموا كثيراً بسياف وحكمتيار ورباني وخالص، لأننا نأمل منهم أن يواصلوا مسيرة الجهاد، وأن يحفظوا مسيرته من الانحراف، ولا تنسوا القادة في الداخل، خاصة جلال الدين وأحمد شاه مسعود، والمهندس بشير، وصفي الله أفضلي، ومولوي أرسلان، وفريد ومحمد علم، وشير علم/بغمان، وسيد محمد حنيف/اللوكر؛

وسبحانك الله وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك .