الشيخ أحمد الإمام (الشيخ المجهول)

محمد فاروق الإمام

1900-1981م

محمد فاروق الإمام

[email protected]

ولد الشيخ أحمد بن محمد الإمام في بلدة (عندان) القريبة من مدينة حلب في شمال سورية، وينتمي إلى عائلة عريقة في الدين والعلم، فوالده الشيخ محمد الإمام العنداني، عُرف بحلب ومحافظتها بغزارة علمه، فقد كان مرجعاً لكل طالب علم في المنطقة، وكانت تربطه بالشيخ العلامة (محمد أبو النصر) – حمص – صداقة حميمة وتزاور مستمر كانت تتخللها مناظرات ومحاضرات مفيدة وشيقة، وكان له (زاوية) مشهورة كان يستقبل فيها طلاب العلم والمحبين، وكان رفاعي الطريقة.

أخذ الشيخ أحمد عن والده مبادئ العلوم الدينية، من فقه وحديث وأدب، وحفظ القرآن ولم يتجاوز التاسعة من عمره. ألحقه أبوه بالمدرسة (الخسروية) بحلب فكان في مقدمة الطلبة المتفوقين، وحاز على شهادتها بتقدير جيد.

تعشق الشيخ – منذ نعومة أظفاره – الحرية والمغامرة، والفروسية واقتناء السلاح والتدرب عليه، وكان بين أقرانه محباً للقيادة والتحدث والخطابة. وقد اعتلى منبر أبيه ليلقي خطبة الجمعة وهو في الحادية عشرة من عمره.

انتسب الشيخ إلى جمعية (العربية الفتاة) وهو في الثامنة عشرة من عمره. وعندما دخل الأمير (فيصل بن الحسين) دمشق سنة 1918م، كان من بين من اختارتهم الجمعية ليكون مرافقاً للأمير – من حرسه الخاص – وعند سقوط دمشق بيد الفرنسيين عاد الشيخ إلى حلب ليلتحق بالقائد المجاهد (إبراهيم هنانو) وقد خاض العديد من المعارك ضد الفرنسيين بصحبة المجاهدين (عقيل السقاطي ومصطفى عويد ومصطفى حاج حسين). ووثق (هنانو) بشجاعته ونباهته ويقظته وفطنته واندفاعه، فكلفه بالقيام بالعديد من المهام السرية والصعبة، ومنها تكليفه بتسليم رسالة منه إلى (الشيخ صالح العلي) في جبال العلويين.

انضم الشيخ إلى (الكتلة الوطنية) ونقل نشاطه الوطني إلى العاصمة دمشق، وهناك تعرف على المجاهدين (نسيب البكري والشيخ محمد الأشمر والشيخ حسن حبنكة ورشاد فرعون وأبو عبدو العشي ومحمد الحلبي وفخري البارودي وشكري القوتلي). وعرفت أحياء دمشق الوطنية نشاطه، حيث كان يتنقل خلال عملياته في مقارعة المستعمر الفرنسي بين الأحياء الوطنية (حي الميدان، وحي قبر عاتكة، وحي الشاغور، وحي العمارة)،وكان يعرف آنذاك بلقب (الشيخ الحلبي والشيخ القروي)، وكان الفرنسيون يلقبونه (بالشيخ السوري).

وفي عام 1928 ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه بعد أن شغلها وشغل عملاءها شهوراً طويلة، حيث أبعدته مع بعض إخوانه إلى خارج سورية. وفي سنة 1932م ظهر الشيخ مجدداً في مدينة حلب، ليقود المظاهرات بعد أن أقدم الفرنسيون على تعطيل (الدستور) بحجة حماية الأقليات المسيحية، وكان يتقدم المظاهرات الحاشدة متأبطاً ذراع صديقه المسيحي الوطني (الدكتور أدمون رباط). ويحمل بيده الصليب في حين كان أدمون رباط يرفع بيده المصحف.

وفي عام 1936م أغلقت سلطات الانتداب مكاتب (الكتلة الوطنية) فأعلنت دمشق إضرابها العام الذي دام نحو (63) يوماً فكان الشيخ في تلك الأيام الخالدة يلهب حماس الجماهير المحتشدة في الجامع الأموي بخطبه النارية الداعية إلى الاستقلال ومقاومة المحتل. ولم تستطع السلطة الفرنسية ولا عملاؤها التعرف عليه – لكثرة ما كان يغير من شكله وهندامه ولباسه – فأطلقت عليه لقب (الشيخ المجهول) – ظل معروفاً به حتى وفاته – وتصدرت صحف الانتداب عناوين تقول: (خمسة آلاف ليرة لمن يدل على الشيخ المجهول)، (الشيخ المجهول مطلوب حياً أو ميتاً). وبمشيئة الله لم يقع الشيخ بأيديهم.

وفي سنة 1936م شارك الشيخ المجاهد فخري البارودي وبعض الإخوان في تشكيل فرقة (شبه عسكرية) سميت بـ(فرقة القمصان الحديدية) وشغل فيها منصب المرشد العام. في حين تسلم البارودي منصب المفتش العام. كانت تقوم بمهمات فدائية ضد الفرنسيين.

في نفس السنة التقى الشيخ بالمجاهد الفلسطيني الكبير (القائد عبد الرحيم حاج محمد) أبو كمال، في منزل المجاهد اللبناني (معروف سعد) بصيدا، وتعاهدا على الجهاد في فلسطين على أن يلحق الشيخ بأبي كمال بعد أن يعد نفسه ويصطحب معه بعض الشباب المتحمس للجهاد في فلسطين. وبالفعل وصل الشيخ إلى (طول كرم)، ومعه أكثر من ثلاثين شاباً من مختلف المناطق السورية واللبنانية. وفي فلسطين تعرف الشيخ على المجاهد (الشيخ يوسف أبو درة) والمجاهد (الشيخ عارف عبد الرزاق). وبقي الشيخ يجاهد إلى جانب اخيه (أبي كمال) حتى سقط الأخير شهيداً في قرية (صانور). وقد دثَّر الشيخ صاحبه بعباءته، وانسحب مع من بقي حياً من المجاهدين رغم الحصار الشديد الذي كانت القوات الإنكليزية تفرضه عليهم.

عاد الشيخ إلى سورية، وما كاد يحط رحاله حتى انتدبته الحكومة الوطنية (مدرساً للواء اسكندرون) وأناطت به مهمة توحيد الجهود من أجل بقاء اللواء جزءاً من سورية. وتعرض الشيخ في اللواء إلى مضايقات وصلت إلى حد محاولات الاغتيال، فترك اللواء عائداً إلى دمشق.

في عام 1939م عطلت سلطات الانتداب الدستور ثانية، وألقت القبض على الشيخ وعلى العديد من إخوانه الوطنيين وأودعتهم السجن في جزيرة (أرواد) لثلاثة أشهر، ثم أبعدت الشيخ إلى بلدته عندان وفرضت عليه الإقامة الجبرية فيها.

عندما تسلم (الفيشيون) الحكم في سورية – اعترفوا بالألمان المحتلين وناهضوا حركة ديجول ضد النازية – بعد سقوط فرنسا بيد الألمان في الحرب العالمية الثانية، عاد الشيخ لمزاولة نشاطه الوطني مجدداً، حيث قاد مجموعة من المجاهدين واستولى على الحاميات الفرنسية في كل من الباب ومنبج وجرابلس، وقد تعاطف معه في ذلك بعض العناصر الشركسية في هذه الحاميات، ثم انكفأ إلى مدينة حلب يريد الاستيلاء على حاميتها ومعه العشرات من المجاهدين وممن انضم إليه من (الجنود المليس) المسلمين الذين كانوا يعملون مع الفرنسيين فلم يتمكن لقوتها ومناعتها وكثرة الجنود المدافعين عنها.

وبعد انتصار الحلفاء على دول المحور وهزيمة حكومة الفيشيين الفرنسية المتعاونة مع الألمان، دخلت القوات البريطانية والقوات الفرنسية المؤيدة لديجول سورية، وبدأت ملاحقة الوطنيين ومنهم الشيخ الذي فر مع بعض إخوانه الوطنيين إلى تركيا، ثم ما لبث الأتراك – بعد أن رحبوا بهم وأكرموهم – بعد أيام من استضافتهم أن سلبوهم أموالهم (وكان معهم نحو 50,000 ليرة) وسيارة وأمتعة وتجهيزات عسكرية، وحملوهم على سيارة عسكرية تركية ونقلوهم إلى الحدود السورية بقصد تسليمهم للقوات الإنكليزية. واستطاع الشيخ الذي كان يجيد التركية من إقناع الضابط التركي المكلف بتسليمهم، بإخلاء سبيلهم عند الحدود السورية وهم يتدبرون أمورهم، لقاء مبلغ (500) ليرة كان الشيخ يحتفظ بها في ملابسه الداخلية.

التجأ الشيخ بعد تفرق أصحابه إلى جبل الأكراد حيث أجاره (حسن فائق آغا)، ثم انتقل بعد ذلك إلى البادية حيث مضارب الأمير (مجحم بن مهيد) الذي رحب به وأكرمه وكلفه بتدريس أولاده. وكانت لمجحم حظوة عند الفرنسيين،. وبعد أشهر قليلة اصطحب مجحم بن مهيد الشيخ إلى دمشق وسلمه للفرنسيين على شرط أن تقام له محكمة عادلة. وبالفعل جرت محاكمة الشيخ ووجدت المحكمة بأن الشيخ غير مذنب وأن عمله كان كفاحاً وطنياً مشروعاً، فأطلقت سراحه.

وفي عام 1940م عرض شكري القوتلي وسعد الله الجابري على الشيخ تدبير عملية لاغتيال خصمهم الدكتور (عبد الرحمن الشهبندر)، فرفض الشيخ بقوة مثل تلك الأفعال وندد بها، ولكنه فوجئ فيما بعد باغتيال الشهبندر.

وفي عام 1946م بعد الاستقلال قاوم الشيخ موجة (السفور) التي شجعها رجال الحكم آنذاك – على أنها نوع من التطور والحرية الشخصية – فاعتقله رفاق الأمس وفرضوا عليه الإقامة الجبرية في بلدته عندان.

في سنة 1947م ترأس الشيخ بعثة الحج السورية إلى الديار المقدسة، وهناك التقى بالملك (عبد العزيز آل سعود) وألقى بحضرته قصيدته المشهورة والتي يقول في مطلعها:

وجهت وجهي شطر كل مكان

أبغي صلاح الدين والأوطان

وأعجب الملك عبد العزيز بالقصيدة أيما إعجاب، فأنعم عليه بالهدايا ووضع تحت تصرفه سيارة خاصة لتنقلاته طيلة وجوده في الأراضي السعودية.

في عام 1948م لبى الشيخ نداء الجهاد والتحق (بجيش الإنقاذ) ومنح رتبة رئيس (نقيب حاليا)، ويشاء الله أن يصطدم بالعقيد (حسني الزعيم) وكان مديراً للأمن العام، حيث اعتقله وأودعه (النظارة) لمدة شهر، ولما علم بذلك الرئيس شكري القوتلي ما فعله الزعيم حضر بنفسه وأخرج الشيخ من النظارة واصطحبه بسيارته وسط تقريع حسني الزعيم وتوجيه أقذع الكلمات إليه.

ودخل الشيخ فلسطين (منطقة صفد) وأبلى مع إخوانه بلاء حسناً، ثم اختلف مع (طه الهاشمي) القائد العام للجيش العربي، فترك فلسطين والأسى يحرق قلبه على ما شهده وعايشه بعد أن أعلن – في آخر اجتماع له مع قادة الجيوش العربية التي دخلت فلسطين – (فلسطين ليست بحاجة لجيوش بل بحاجة إلى دعم وتسليح، فإن فيها من المجاهدين الصادقين ما تعجز عن ملاقاتهم إنكلترا وعصابات صهيون). وعاد الشيخ إلى دمشق، واعتكف عن كل عمل سياسي.

بعد حصول سورية على الاستقلال من فرنسا، لم يلهث الشيخ وراء المناصب واقتسام الغنائم، بل كان همه خدمة دينه ووطنه. لذا نراه عند مدلهمات الأمور في مقدمة الثائرين، وعند الاستقرار والأمن يبتعد قانعاً بما قسمه الله له.

وعند قيام (حسني الزعيم) بانقلابه سنة 1949م، أرسل وراء الشيخ يريد تنفيذ قسمه (عندما يصبح الأمر بيدي سوف أعدمك) ولكن العقيد (بهيج كلاس) أحد أركان انقلاب الزعيم وصديق الشيخ سارع بإبلاغ الشيخ بنوايا الزعيم الشريرة تجاهه، فلجأ الشيخ إلى بلدة (خان شيخون) متخفياً عند بعض أصحابه ريثما يغادر سورية كما نصحه بهيج كلاس، وبالفعل غادر الشيخ سورية إلى العراق.

وعند الإطاحة بحسني الزعيم عاد الشيخ إلى سورية، وتسلم وظيفة (مدرس) في مدينة عين العرب شمال سورية، وعند تسلم (أديب الشيشكلي) الحكم إثر انقلاب قاده سنة 1952م طلب من الشيخ أن يتعاون معه وان ينضم إلى حركته (حركة التحرير العربي)، فأبى الشيخ، فسرح من وظيفته وذهب إلى مدينة اعزاز حيث كلف بالإشراف على أعمال (ميتم اعزاز) الخيرية.

بعد الإطاحة بنظام الشيشكلي وعودة الحياة الديمقراطية، ورجوع (شكري القوتلي) من منفاه من مصر إلى سورية، ناشد الشيخ إخوانه الوطنيون  المجيء إلى دمشق ليزاول نشاطه السياسي من جديد. ونزولاً عند إلحاح إخوانه عاد الشيخ إلى دمشق وسكن في حي (العمارة) الوطني، وانضم إلى (الحزب التعاوني الاشتراكي) فترة لم يلبس أن اختلف مع زعيمه (فيصل العسلي) وأمين سر الحزب (سيف الدين المأمون)، عند قيادة الشيخ لبعض المظاهرات التي نددت بإعدام قادة الإخوان المسلمين في مصر.

وفي سنة 1955م التقى (بالشيخ عبد الله المبارك الصباح) وكان ولياً للعهد في الكويت، فدعاه للإقامة في الكويت، فلبى الدعوة ورحل مع عائلته إليها حيث كلف بمنصب قاضي وإمام وخطيب لجامع مدينة الأحمدي – ولم يكن في حينها في تلك المدينة إلا مسجد واحد كونها مدينة النفط حيث معظم سكانها من الأجانب والآسيويين غير المسلمين – وكان أمير مقاطعة الأحمدي الشيخ جابر الأحمد رحمه الله.

عاد الشيخ إلى سورية ليقيم في دمشق مجدداً سنة 1959م، مكتفياً بدار متواضعة يقيم وأسرته فيها، وبامتلاك مكتبة بسيطة يعيش من دخلها.

بعد سنين طويلة من الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة نازع الشيخ الحنين إلى بلدته عندان فعاد إليها بعد طول غياب (حوالي أربعين سنة).

وبعد وقوع الانفصال عام 1961م تقدم الشيخ لخوض الانتخابات النيابية بعد إلحاح من أهله ومعارفه، ولكنه أخفق في الوصول إلى مجلس النواب بفارق بسيط من الأصوات، خلافاً لكل التوقعات.

في عام 1962م تلقى الشيخ دعوة كريمة من جلالة الملك الحسين بن طلال لزيارته في عمان، فلبى الشيخ الدعوة، وكان لقاءً حميمياً – كما قال الشيخ – ولمس من الحسين تفاعله مع حال العرب وما هم عليه من فرقة وتناحر، وما يحيط بأمة العرب من أخطار. وبقي الشيخ أياماً في عمان وسط حفاوة ملكية بالغة، وغادرها على أن يكون هناك لقاءات فيما بعد.

وعند نجاح حزب البعث بانقلابه في 8 آذار 1963م كان الشيخ معتكفاً بداره يقوم بأعمال البر ويساعد على بناء المساجد ويعقد المصالحات العائلية ويحل الخصومات بينها. وعندما أقدم نظام البعث عام 1964م بضرب مسجد السلطان بحماة بالمدفعية، انتفض الشيخ وظهر في مسجد بني أمية بدمشق ليعلن من خلال خطبة نارية فتواه الشهيرة (بإعدام أمين الحافظ) – كان رئيساً للجمهورية في حينها – وطلبته السلطة ولاحقته ففر إلى العراق، وهناك تعرض لأكثر من محاولة اغتيال من قبل البعثيين العراقيين الذين أطاح بهم عبد السلام عارف. فغادر العراق بعد سنة تقريبا إلى مصر حيث منحه الرئيس جمال عبد الناصر اللجوء السياسي.

بعد حركة 23 شباط 1966م والإطاحة بأمين الحافظ والقيادة القومية لحزب البعث، عاد الشيخ إلى سورية بموجب عفو خاص على أن يلتزم داره ويبتعد عن أي نشاط سياسي.

بدءاً من عام 1972م ربطت الشيخ صداقة متينة مع المغفور له الملك (فيصل بن عبد العزيز) وبينه وبين (الشيخ راشد النعيمي) شيخ إمارة عجمان.. وكان على تواصل معهما حتى وفاتهما.

وافت الشيخ المنية في السابع عشر من شهر تشرين الثاني من عام 1981م في مدينة حلب إثر عملية جراحية. ونقل جثمانه ليدفن في بلدته عندان حيث شيعه أهلها، فيما تقاطرت العديد من الشخصيات الوطنية ومن معارف الشيخ ومحبيه من كافة المدن السورية للمشاركة في تشيعه، وعلى مدى أيام متلاحقة كانت تتقاطر بعض الوفود المعزية من الدول العربية إلى بلدته عندان لتقديم العزاء لأسرته وذويه.

كان الشيخ شجاعاً في قول الحق، يكره الخنوع والتزلف للحكام والمسئولين، وكان كريما مضيافاً حكمته: (أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب). من آثاره: (حياة الشيخ المجهول) و(سؤدد الإسلام) و)إرشاد المسلم) و(المولد النبوي) و(مولد الوفاء) و(حياتي) مذكرات لم تطبع.