شخصية الإمام محمد الطاهر بن عاشور في الشعر الإسلامي المعاصر
شخصية الإمام محمد الطاهر بن عاشور
في الشعر الإسلامي المعاصر
(1296 - 1393 هـ = 1879 - 1973 م)
عمر محمد العبسو
محمد الطاهر بن عاشور : رائد النهضة والإصلاح في تونس .
كان جامع الزيتونة مصنعاً لرجال أفذاذ قادوا حياة شعوبهم قبل أن يقودوا حياتهم، في وقت اضطربت فيه معالم الحياة، فكانوا منارات للهدى وعلامات لطريق السداد. و"محمد الطاهر بن عاشور" هو أحد أعلام هذا الجامع، ومن عظمائهم المجددين. حياته المديدة التي زادت على 90 عامًا كانت جهادًا في طلب العلم، وجهادا في كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد التي قيدت العقل المسلم عن التفاعل مع القرآن الكريم والحياة المعاصرة.
أحدثت آراؤه نهضة في علوم الشريعة والتفسير والتربية والتعليم والإصلاح، وكان لها أثرها البالغ في استمرار "الزيتونة" في العطاء والريادة.
وإذا كان من عادة الشرق عدم احتفاظه بكنوزه، فهو غالبا ما ينسى عمالقته ورواده الذين كانوا ملء السمع والبصر، ويتطلع إلى أفكار مستوردة وتجارب سابقة التجهيز، وينسى مصلحيه ومجدديه، ونبت بيئته وغرس مبادئه!!
لم يلق الطاهر تمام حقه من الاهتمام به وباجتهاداته وأفكاره الإصلاحية؛ وربما رجع ذلك لأن اجتهاداته تحارب الجمود العقلي والتقليد من ناحية، وتصطدم بالاستبداد من ناحية أخرى، كما أن أفكاره تسعى للنهوض والتقدم وفق منهج عقلي إسلامي، ولعل هذا يبين لنا سبب نسيان الشرق في هذه الفترة لرواده وعمالقته!!
وجاء مولد الطاهر في عصر يموج بالدعوات الإصلاحية التجديدية التي تريد الخروج بالدين وعلومه من حيز الجمود والتقليد إلى التجديد والإصلاح، والخروج بالوطن من مستنقع التخلف والاستعمار إلى ساحة التقدم والحرية والاستقلال، فكانت لأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا صداها المدوي في تونس وفي جامعها العريق، حتى إن رجال الزيتونة بدءوا بإصلاح جامعهم من الناحية التعليمية قبل الجامع الأزهر، مما أثار إعجاب الإمام محمد عبده الذي قال: "إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر".
وأثمرت جهود التجديد والإصلاح في تونس التي قامت في الأساس على الاهتمام بالتعليم وتطويره عن إنشاء مدرستين كان لهما أكبر الأثر في النهضة الفكرية في تونس، وهما:
- المدرسة الصادقية التي أنشأها الوزير النابهة خير الدين التونسي سنة (1291هـ = 1874م) والتي احتوت على منهج متطور امتزجت فيه العلوم العربية باللغات الأجنبية، إضافة إلى تعليم الرياضيات والطبيعة والعلوم الاجتماعية. وقد أقيمت هذه المدرسة على أن تكون تعضيدًا وتكميلاً للزيتونة.
أما المدرسة الأخرى فهي المدرسة الخلدونية التي تأسست سنة (1314هـ = 1896م) والتي كانت مدرسة علمية تهتم بتكميل ما يحتاج إليه دارسو العلوم الإسلامية من علوم لم تدرج في برامجهم التعليمية، أو أدرجت ولكن لم يهتم بها وبمزاولتها فآلت إلى الإهمال.
وتواكبت هذه النهضة الإصلاحية التعليمية مع دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فكانت أطروحات تلك الحقبة من التاريخ ذات صبغة إصلاحية تجديدية شاملة تنطلق من الدين نحو إصلاح الوطن والمجتمع، وهو ما انعكس على تفكير ومنهج رواد الإصلاح في تلك الفترة التي تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف التي خلقت مناخًا ثقافيًا وفكريًا كبيرًا ينبض بالحياة والوعي والرغبة في التحرر والتقدم..فمن هو محمد الطاهر بن عاشور وما هي جهوده في الإصلاح ؟ هذا ما نراه في الصفحات القادمة ....
اسمه ونسبه:
هو محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الشَّاذلي بن عبد القادر بن محمد بن عاشور، وهذا الأخير من أشراف الأندلس، قدِم إلى تونس، واستقرَّ بها بعد خروج والده من الأندلس فارّاً من القهر والتَّنصير، وكان عالماً عاملاً صالحاً.
وقد برز في عائلة ابن عاشور جَدُّ المترجَم (محمد الطَّاهر بن عاشور) الذي كان من فقهاء عصره، وتقلَّد مناصب هامَّة في القضاء والإفتاء والتَّدريس، إضافة إلى تولِّيه نقابة الأشراف، وله مؤلَّفات مطبوعة.
وأيضاً والد المترجَم محمد ابن عاشور، الذي تولى رئاسة مجلس دائرة جمعيَّة الأوقاف.
أما جَدُّه لأمِّه، فهو العالم الوزير محمد العزيز بُو عَتُّور (1240-1325هـ)، الذي تولَّى الوزارة الكبرى بعد مصطفى إسماعيل، وتحقَّقت على يديه إصلاحات نالت إعجابَ الوزراء وتقدير الأمراء.
مولده ونشأته:
ولد الإمام محمد الطاهر بن عاشور في ضاحية المَرْسى، قرب العاصمة التونسيَّة، سنة 1296هـ = 1879م . ونشأ في رحاب العلم والجاه، فسلك تعلُّم القرآن الكريم في سنِّ السَّادسة، فقرأه وحفظه على المقرئ الشيخ محمد الخياري، ثم حفظ مجموعةً من المتون، وتلقَّى قواعد العربيَّة على الشيخ أحمد بن بدر الكافي.
زوجته وأبناؤه:
تزوَّج محمد الطَّاهر ابن عاشور السَّيِّدة الشَّريفة فاطمة بنت نقيب الأشراف بتونس السَّيَّد محمد محسن، فأنجبت له أربعة بنين واثنتين من البنات.
برز من أولاده السيِّد محمد الفاضل (1909-1970م) الذي تولى التدريس بجامع الزيتونة والقضاء، ثم عمادة الكلية الزيتونيَّة للشريعة وأصول الدين، وعُيِّن مفتياً للجمهورية التُّونسيَّة، وكان عضواً بمجمع اللَّغة العربية بالقاهرة، وله مجموعةٌ من الكتب المطبوعة والأبحاث.
وكذلك الأستاذ عبد الملك وكان موظفاً سامياً، وله بحوث وتحقيقات علميَّة نُشرت له بالمجلَّات التُّونسية.
وللشيخ محمد الطاهر أحفادٌ بررة أساتذة جامعيُّون، منهم الأستاذ الدُّكتور المؤرِّخ محمد العزيز بن عبد الملك، والأستاذ الدُّكتور الحقوقيُّ عياض بن محمد الفاضل الذي رأَس الجامعة التونسية.
نشأته العلميَّة:
حفظ الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310هـ = 1892م) وهو في الـ14 من عمره، فدرس علوم الزيتونة ونبغ فيها، حيث قرأ فيه علوم القرآن والقراءات، والحديث، والفقه المالكي وأصوله، والفرائض، والسِّيرة، والتَّاريخ، والنَّحو واللُّغة والأدب والبلاغة، وعلم المنطق.
وأظهر همة عالية في التحصيل، وساعده على ذلك ذكاؤه النادر والبيئة العلمية الدينية التي نشأ فيها، وشيوخه العظام في الزيتونة الذين كان لهم باع كبير في النهضة العلمية والفكرية في تونس، وملك هاجس الإصلاح نفوسهم وعقولهم، فبثوا هذه الروح الخلاقة التجديدية في نفس الطاهر، وكان منهجهم أن الإسلام دين فكر وحضارة وعلم ومدنية.
كما تعلم الفرنسيَّة على يد أستاذه الخاصِّ أحمد بن ونَّاس المحمودي.
حصل ابن عاشور على شهادة التَّطويع - انتهاء التَّعليم الثانوي- من الجامع الأعظم سنة 1317هـ=1899م، وعاد بعدها إلى حضور دروس شيوخه، فقرأ على الشيخ محمد النخلي الوُسطى في العقيدة، وشرح المحلِّي في أصول الفقه، والمطوَّل في البلاغة، والأشموني في النحو، وعلى الأستاذ عمر بن الشيخ تفسير البيضاوي، وعلى الشيخ سالم بو حاجب البخاري والموطَّأ بشرحيهما.
شيوخه:
تحمَّل الطاهر بن عاشور العلم عن أعيان علماء تونس وشيوخ جامع الزيتونة، ومنهم:
الشيخ أحمد بن بدر الكافي، والشيخ أحمد جمال الدين، والعلامة الشيخ سالم بو حاجب (1244-1342م)، وله منه إجازة، والشيخ محمد صالح الشريف (1285-1338هـ)، والشيخ عبد القادر التميمي، الفقيه المتكلِّم الشيخ عمر بن الشيخ (1239-1329هـ)، وله منه إجازة، والشيخ عمر بن عاشور، والشيخ المقرئ محمد الخياري، والشيخ محمد صالح الشاهد، والشيخ محمد طاهر جعفر، والشيخ محمد العربي الدرعي، والعالم الوزير الشيخ محمد العزيز بو عتُّور، وله منه إجازة، والشيخ محمد بن عثمان النجار، والشيخ محمد النَّخلي، والشيخ محمود بن الخوجة، وله منه إجازة.
سفير الدعوة..
تخرج الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في الزيتونة عام (1317هـ = 1896م)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ = 1903م).
وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321هـ = 1900م)، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة -ذات المنهج التقليدي- والصادقية -ذات التعليم العصري المتطور- أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودون آراءه هذه في كتابه النفيس "أليس الصبح بقريب؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
وفي سنة (1321 هـ = 1903 م) قام الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية بزيارته الثانية لتونس التي كانت حدثاً ثقافياً دينياً كبيراً في الأوساط التونسية، والتقاه في تلك الزيارة الطاهر بن عاشور فتوطدت العلاقة بينهما، وسماه محمد عبده بـ "سفير الدعوة" في جامع الزيتونة؛ إذ وجدت بين الشيخين صفات مشتركة، أبرزها ميلهما إلى الإصلاح التربوي والاجتماعي الذي صاغ ابن عاشور أهم ملامحه بعد ذلك في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام". وقد توطدت العلاقة بينه وبين رشيد رضا، وكتب ابن عاشور في مجلة المنار.
تدريسه وتلامذته:
درَّس الشيخ محمد الطَّاهر ابن عاشور كتباً عالية في جامع الزيتونة، كأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز للجُرجاني، ومقدمة ابن خلدون، وموطَّأ الإمام مالك، وكان أول من درَّس (ديوان الحماسة) فيه. كما كان يقوم بتدريس الحديث النبوي الشَّريف في ليالي رمضان.
وقد أدخل الشيخُ بعض الإصلاحات على التعليم الزيتوني، كتقسيم التعليم إلى المراحل الثلاث المعروفة الآن، وتحديد زمن الحصَّة، وتعيين مواد الدراسة، والشيخَ المدرِّس لها في كل فصل، مع بيان أوقات الدَّرس لكل مادة.
أما تلامذته، فقد تحمَّل عنه العلم جمٌّ غفير من أهل تونس والجزائر ممَّن كان يقصد الزيتونة، فكان منهم الأديب والفقيه والمؤرِّخ والصِّحافي والاقتصادي، وكبار الوزراء والكتَّاب، وممَّن عُرف بالتأليف منهم أذكر:
محمد الصَّادق ابن الحاج محمود المعروف بـ (بسِّيس) (1332-1398هـ)، ومحمد الصَّادق الشطِّي (1312-1364هـ)، وأبو الحسن ابن شعبان (1315-1383هـ)، ومحمد الفاضل ابن المترجَم (1327-1390هـ)، وعلي بن محمد البوديلمي، ومحمد العيد آل خليفة (1323-1399هـ)، وأحمد كريِّم (1243-1347هـ)، ومحمد الشاذلي النَّيفر (1330-1418هـ) رحمهم الله جميعاً.
وظائفه:
آراء.. ومناصب
عين الطاهر بن عاشور نائباً أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة (1325 هـ = 1907م)؛ فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية، وأدخل بعض الإصلاحات على الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم، وعرضها على الحكومة، فنفذت بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم وكذلك دروس أدب اللغة، ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.
وأدرك صاحبنا أن الإصلاح التعليمي يجب أن ينصرف بطاقته القصوى نحو إصلاح العلوم ذاتها؛ على اعتبار أن المعلم مهما بلغ به الجمود فلا يمكنه أن يحول بين الأفهام وما في التآليف؛ فإن الحق سلطان!!
ورأى أن تغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب تبدل الأفكار والقيم العقلية، ويستدعي تغيير أساليب التعليم. وقد سعى الطاهر إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر في مصر، ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.
أما سبب الخلل والفساد اللذين أصابا التعليم الإسلامي، فترجع في نظره إلى فساد المعلم، وفساد التآليف، وفساد النظام العام؛ وأعطى أولوية لإصلاح العلوم والتآليف.
اختير ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328 هـ = 1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342 هـ = 1924م)، ثم اختير شيخاً لجامع الزيتونة في (1351 هـ = 1932م)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في الزيتونة.
أعيد تعينه شيخاً لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ = 1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وشملت عناية الطاهر بن عاشور إصلاح الكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد التعليم؛ فاستبدل كثيراً من الكتب القديمة التي كانت تدرس، وصبغ عليها الزمان صبغة القداسة بدون مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كما راعى في المرحلة التعليمية العالية التبحر في أقسام التخصص، وبدأ التفكير في إدخال الوسائل التعليمية المتنوعة.
وحرص على أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتوني الكتب التي تنمي الملكات العلمية، وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم التي يستطيع من خلالها الطالب أن يعتمد على نفسه في تحصيل العلم.
تولَّى ابن عاشور مناصب علميَّة وإداريَّة بارزة، وها هي مرتَّبة تاريخيّاً:
1317هـ: بدأ بالتَّدريس في جامع الزيتونة.
1320هـ: نجح في مناظرة الطَّبقة الثانية ليتولى التَّدريس رسميّاً بالجامع الأعظم.
1321هـ: انتُدب للتَّدريس بالمدرسة الصادقيَّة.
1323هـ: عُيِّن عضواً بمجلس إدارة الجمعيَّة الخلدونيَّة، وفي نفس العام شارك باللَّجنة المكلَّفة بوضع فهرس للمكتبة الصادقيَّة.
1324هـ: شارك في مناظرة التَّدريس للطَّبقة الأولى بالزيتونة، وفي نفس السنة عيِّن عضواً في هيئة إدارة الجمعيَّة الخلدونيَّة.
1325هـ: عُيِّن نائباً أول للحكومة لدى النَّظارة العلميَّة بجامع الزيتونة.
1326هـ: سُمِّي عضواً في لجنة تنقيح برامج التَّعليم.
1327هـ: ترأَّس لجنة فهرسة المكتبة الصادقيَّة.
1328هـ: عُيِّن عضواً بمجلس الأوقاف الأعلى، وفي نفس السنة اختير حاكماً بالمجلس العقاري.
1331هـ: عُيِّن قاضياً مالكياً للجماعة بالمجلس الشرعي، وفي نفس السنة عُيِّن مفتياً.
1341هـ: سُمِّي مفتياً نائباً عن الشيخ باش مفتي، وبعدها بعام عُيِّن بمنصب رئيس المفتين.
1346هـ: رُقِّي إلى منصب كبير أهل الشُّورى.
1351هـ: تسلَّم منصب شيخ الإسلام المالكي، و عُيِّن شيخاً للجامع الأعظم وفروعه، وفُصل من هذا المنصب -ويُقال: استقال- بعد سنة ونصف، ليعودَ إليه سنة 1364ه،ـ وبقي في هذا المنصِب إلى 1372هـ.
1367هـ: عُيِّن عميداً للجامعة الزيتونية إثر استقلال البلاد، وبقي فيه حتى سنة 1380هـ.
كما انتُخب الشيخ عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي ( مجمع اللُّغة العربيَّة بدمشق حالياً) وذلك في سنة 1375هـ.
أوليَّاته:
للشيخ محمد الطَّاهر ابن عاشور أوليَّات تمثِّل مظهراً من مظاهر تميُّزه- رحمه الله -وهي:
• أوَّل من فسَّر القرآن كاملاً في إفريقيَّة، وذلك في كتابه (التَّحرير والتَّنوير).
• وهو أوَّل من جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة). وأول من سمِّي شيخاً للجامع الأعظم.
• وأوَّل من تقلَّد جائزة الدولة التقديريَّة للدولة التونسيَّة، ونال وسام الاستحقاق الثَّقافي سنة 1968م.
• وهو أوَّل من أحيا التَّصانيف في مقاصد الشَّريعة في العصر الحديث بعد العز بن عبدالسلام (660هـ)، والشاطبي (790هـ).
• وأوَّل من أدخل إصلاحات تعليميَّة وتنظيميَّة في الجامع الزيتوني، في إطار منظومة تربويَّة فكريَّة.
أخلاقه وشمائله:
كان الشيخ رحمه الله رجلاً تزيِّنه أخلاقٌ رضيَّةٌ وتواضعٌ جمٌّ، اشتُهر بالصبر وعلوِّ الهمَّة، والاعتزاز بالنَّفس، عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة.
يقول زميلُه في الطَّلَب وصديقه المقرَّب الشيخ محمد الخضر حسين: "شبَّ الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعيَّة وقَّادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغُه بين أهل العلم". وقال فيه: "وللأستاذ فصاحةُ منطق وبراعة بيان، بالإضافة إلى غزارة العلم وقوَّة النَّظر وصفاء الذَّوق وسعة الاطِّلاع في آداب اللغة".
وقد وصَفَه أحدُهم، فقال: رأيت فيه شيخاً مَهيباً يمثِّل امتداداً للسَّلف الصَّالح في سَمْتِه، ودخل في عقده العاشر، ولم تنل منه السُّنون شيئاً.. قامةٌ سمهريًّة خفيفة اللَّحم، وعقليَّةٌ شابَّةٌ ثريَّةٌ بحصيلتها، وقلبٌ حافظٌ أصاب من علوم القدماء والمحدَثين، ولسانٌ لافظٌ يقدر عل الخوض في كل شيء من المعارف، وذهنٌ متفتحٌ يشقِّق الحديث روافدَ مع وقارٍ يزيِّنه وفضلٍ يبيِّنه، وأخلاقٌ وشمائلُ حسنةٌ تهشُّ للأضياف وترحِّب بالوارد، وتعطي في عُمق لمن يريد الاغترافَ من بحر كثُرت مياهُه وقد ازدحمت العلومُ فيه.
وكان في مناقشاته العلميَّة لا يجرح أحداً، ولا يحطُّ من قدره، فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً، وبرغم الحملات التي شُنَّت ضده لم ينزل عن المستوى الخُلُقي الذي يتَّصف به العلماء، بل لم يُشِر إلى خصومه، ولم يَشكُ منهم قطُّ.
ويقول فيه الدُّكتور محمد الحبيب بلخوجه: "هو نمطٌ فريد من الأشياخ، لم نعرف مثلَه بين معاصريه أو طلَّابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم.. وقد وهبه الله متانةَ علم، وسعة ثقافة، وعمق نظر، وقدرة لا تفتُر على التَّدوين والنَّشر، ومَلَكات نقديَّة يتَّضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات، وما يلحق بها من ابتداعات وتصرُّفات".
دوره في الإصلاح والتجديد :
كان الطاهر بن عاشور عالماً مصلحاً مجدداً، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلا أن القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام، وليس بعيداً عنه، ومن ثم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري.
يعد الطاهر بن عاشور من كبار مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث، ولقد احتوى تفسيره "التحرير والتنوير" على خلاصة آرائه الاجتهادية والتجديدية؛ إذ استمر في هذا التفسير ما يقرب من 50 عاما، وأشار في بدايته إلى أن منهجه هو أن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، تارة لها وأخرى عليها؛ "فالاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد"، ووصف تفسيره بأنه "احتوى أحسن ما في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفاسير".
ولعل نظرة التجديد الإصلاحية في التفسير تتفق مع المدرسة الإصلاحية التي كان من روادها الإمام محمد عبده الذي رأى أن أفضل مفسر للقرآن الكريم هو الزمن، وهو ما يشير إلى معان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص في معاني القرآن. وكان لتفاعل الطاهر بن عاشور الإيجابي مع القرآن الكريم أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم وألم بأهدافه وأغراضه، مما كان سبباً في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب "مقاصد الشريعة".
كان الطاهر بن عاشور فقيهاً مجدداً، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أن باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة ثانية، وكان يرى أن ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم بالتكاسل وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه فإن الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد. ورأى أن هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأن قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلا القليل، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول لأن بها يرتفع خلاف كبير.
ويعتبر كتاب "مقاصد الشريعة" من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحاً في الفكر ودقة في التعبير وسلامة في المنهج واستقصاء للموضوع.
وفاته:
تُوفِّي محمد الطَّاهر بن عاشور عن أربع وتسعين سنة في ضاحية المَرْسَى قرب تونُس العاصمة، يوم الأحد 13 من رجب سنة 1394هـ / الموافق 12 من آب (أغسطس) 1973م. ووُري الثَّرى بمقبرة الزّلَّاج.بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنَّاته.
تعريف بمؤلفاته:
تنوَّعت آثار الشيخ رحمه الله تعالى من حيث موضوعاتُها، فألَّف في التفسير، والحديث، والأصول، والأدب، واللُّغة، والتَّاريخ والتَّراجم، والدِّراسات الإسلاميَّة. وقد اتَّسمت بنُضج الفكرة وعُمق التَّحليل والمعالجة العلميَّة، وبلاغة الأسلوب.
ونخصُّ منها بالتعريف تفسيرَه للقرآن، وكتابه في الأصول (مقاصد الشَّريعة)، وكتابه في إصلاح التعليم، لشهرتها وتفرُّده بها في زمانه.
التعريف بالتفسير:
تفسير التَّحرير والتَّنوير الذي سمَّاه مؤلفه: (تحرير المعنى السَّديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد). وقد قدَّم له بتمهيدٍ وافٍ ذكر فيه مُراده من هذا التفسير، وقال: "فجعلت حقّاً عليَّ أن أبدي في تفسير القرآن نُكتاً لم أرَ من سبقني إليها، وأن أقفَ موقف الحكم بين طوائف المفسِّرين تارةً لها وآونةً عليها، فإنِّ الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيلٌ لفيض القرآن الذي ماله من نَفاد، ولقد رأيت النَّاس حول كلام الأقدَمين أحدَ رجلين: رجل معتكف فيما شادَه الأقدمون، وآخر آخذٌ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي تلك الحالتين ضررٌ كثير، وهنالك حالةٌ أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمِدَ إلى ما أشاده الأقدمون فنهذِّبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده، علماً بأنَّ غمط فضلهم كُفْرانٌ للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حَميد خصال الأمَّة".
ثمَّ قال: "وقد ميَّزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه، وما أجلبه من المسائل العلميَّة مما لا يذكره المفسِّرون، وإنَّما حَسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يديَّ من التفاسير في تلك الآية خاصَّة، ولست أدَّعي انفرادي به في نفس الأمر، فكم من كلام تُنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلِّم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدَّمك إليه متفهِّم".
كما وضَّح أن فن البلاغة لم يخصَّه أحد من المفسِّرين بكتابٍ كما خصُّوا أفانين القرآن الأخرى، ومن أجل ذلك التزم ألا يغفل التنبيه على ما يَلوح له منه كلَّما ألهمه الله تعالى ذلك بحسب مبلغ الفهم وطاقة التَّدبر. واهتمَّ أيضًا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، أمَّا البحث عن تناسب مواقع السُّور فلا يراه حقّاً على المفسِّر.
وتفسير التَّحرير والتَّنوير يعد في الجملة تفسيراً بلاغياً بياناً لغوياً عقلانياً لا يغفل المأثور ويهتم بالقراءات، حَفَل بضروب من التأويل والفهم لمقاصد الشَّريعة ما يعزُّ وجوده في غيره، ويتفرَّد به عن غيره. وطريقة مؤلِّفه فيه أن يذكر مقطعاً من السُّورة ثم يشرع في تفسيره مبتدئاً بذكر المناسبة، ثم لغويَّات المقطع، ثم التَّفسير الإجمالي، ويتعرَّض فيه للقراءات والفقهيَّات ... وهو يقدم عرضاً تفصيليّاً لما في السُّورة ويتحدَّث عن ارتباط آياتها وتناسبها، فهو لم يغادر سورة إلا بيَّن ما أُحيط بها من أغراضها، لئلَّا يكون النَّاظر في تفسير القرآن -كما يقول ابن عاشور- مقصوراً على بيان مفرداته ومعاني جُمَله، كأنها فِقرٌ متفرِّقةٌ تصرِفه عن روعة انسجامه وتحجُب عنه روائع جَماله.
ومما قاله المصنِّف في تقديمه لكتابه: "وقد اهتممتُ في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونُكَت البلاغة العربيَّة وأساليب الاستعمال"، وقال: "واهتممتُ بتبيين معاني المفردات في اللُّغة بضبطٍ وتحقيقٍ مما خلت عن ضبطِ وتحقيق كثيرٍ منه قواميس اللُّغة". وهو كما قال فعلاً حيث خرج من التَّفسير إلى إضافة قاموس لغوي لمفردات القرآن الكريم.
وأخيرًا هو يمتدح كتابه بقوله: "ففيه أحسنُ ما في التَّفاسير، وفيه أحسن ممَّا في التَّفاسير".
ومدَّة تأليف التَّفسير زهاء أربعين سنة، بدأ به في سنة 1341ه،ـ وانتهى منه في رجب سنة 1380هـ، وبدأ بنشره على حلقات في (المجلَّة الزيتونيَّة)، ثم طُبع مراراً.
التعريف بكتاب (مقاصد الشَّريعة الإسلامية):
يعدُّ هذا الكتاب من أشهر كتب ابن عاشور.
كان تأليفه استجابة للأُمنية التي أعرب عنها الشَّيخ محمد العزيز جُعَيط المفتي المالكي (1303-1389هـ)، يوم أن كتب في (المجلَّة الزيتونيَّة) أنه لم يعثر في تلك الثَّروة العلميَّة الهائلة على كتابٍ جامعٍ، يجمع في مطاويه شَمْل المقاصد الشَّرعية، ويُفصح عن أسرار التَّشريع.
فكان هدف ابن عاشور من تصنيفه -كما قال- ليكون: "مرجعاً بين المتفقِّهين في الدِّين عند اختلاف الأنظار وتبدُّل الأَعصار، وتوسُّلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُربةً لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض، عند تَطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردنا من نبذ التعصُّب والفَيْئَة إلى الحقِّ".
والذي دعاه إلى صرف الهمَّة إليه ما رأى من "عُسر الاحتجاج بين المختلفِين في مسائل الشَّريعة، إذ كانوا لا يَنتهون في حِجاجهم إلى أدلَّة ضرورية أو قريبة منها يُذعن إليها المكابِر، ويَهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهل العلوم العقليَّة في حِجاجِهم المنطقيِّ والفلسفيِّ إلى الأدلَّة الضَّروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة، فينقطع بين الجميع الحِجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لجاج".
وقد قسَّم المؤلِّف كتابه إلى ثلاثة أقسام، فجعل القسم الأول في إثبات أنَّ للشَّريعة مقاصدَ من التشريع، عالج فيه القواعد المعرِّفة لهذا العلم، وجعل القسمَ الثاني في مقاصد التشريع العامَّة، أي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، والقسم الثالث في مقاصد التشريع الخاصَّة بأنواع المعاملات، فبحث في توجُّه الأحكام إلى مرتبتين: مقاصد ووسائل، وبيَّن أن مقصد الشَّريعة في المعاملات تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقِّيها. وقد طُبع الكتاب مراراً، آخرها بتحقيق الدكتور محمد الحبيب بلخوجة صدر عن دار القلم بدمشق.
التعريف بكتاب (أليس الصُّبح بقريب؟ التَّعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخيَّة وآراء إصلاحيَّة):
يعدُّ هذا الكتاب من أهم الكتب التي كُتبت في عصر ابن عاشور، اعتنى به مؤلِّفه بنقد التعليم ومناهج التأليف السائدة؛ فتكلَّم عن أوضاع التعليم وأسباب ضعفه، وأحوال البيئة الزيتونية ومبادرات إصلاح التعليم فيه، قال في مقدمته: "قد كان حَدا بي حادي الآمال وأملى عليَّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاث مئة وألف، للتَّفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربيِّ والإسلاميِّ، الذي أشعرَتني مدةُ مزاولته، متعلِّماً ومعلِّماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النِّطاق، فعقدت العزمَ على تحرير كتاب في الدَّعوة إلى ذلك وبيان أسبابه".
بحث المؤلِّف في كتابه أسباب تأخُّر التَّعليم، وعزاه إلى انعدام خُطَّة تربويَّة متطوِّرة، وإهمال الضَّبط للدروس والمقرَّرات، والبعد عن التَّربية الأصيلة.
ونقَد كذلك مستويات التَّعليم، الابتدائيِّ والثانويِّ والعالي، وبيَّن عيوبَها، ثم تكلَّم على العلوم وأحوالها و إصلاحها وأسباب تأخُّرها.
وكان الشيخ جريئاً في نقده، مجدِّداً، بصيراً بعيوب العلوم التي عرضَها، يطغى على نقده الطَّابع التَّربوي، إذ كان يُظهر هنَات العلوم، وينبِّه على مواطن الخلل فيها، لاسيَّما ما يعسُر فهمه على الطَّالب، ونبَّه في جرأة أثارت حفيظةَ خصومه على العراقيل المصطنعة التي أثارها أعداء التطوُّر الواقفين في وجه كل إصلاح علميٍّ تربوي.
يقول: "غير أني لم أدَع فرصةً إلا سعيت إلى إصلاح التعليم فيها بما ينطبِق على كثير مما تضمَّنه هذا الكتاب، فاستتبَّ العمل بكثير من ذلك، وبقي كثير، بحسب ما سمحَت به الظُّروف، وما تيسَّر من مقاومة صانعِ منكَرٍ ومانعِ معروف".
لقد كان المؤلِّف في كتابه هذا مؤرِّخاً للعلوم وطرق تدريسها منذ انتشار العلم في بلاد الإسلام وامتداده إلى الأندلس، فبحث في أطوار التعليم العربيِّ عند ظهور الإسلام، ونقل العلوم الفارسية والهندية واليونانية، ووَصَف التعليم الإسلاميَّ وأساليبه ومناهجه، كما بحث في صفة الدُّروس والطَّريقة في معرفة أهليَّة المتصدِّي للتعليم، ومواضع التعليم، وظهور الكتاتيب وتعليم المرأة، وانبعاث العلوم الإسلاميَّة في الأقطار، ثم تكلَّم على مواضع التعليم في إفريقيَّة والمغرب، وأسلوب التعليم فيها، ثم خصَّ التعليم في تونس، فتحدَّث عن مواضع التعليم فيها وأسباب تأخُّره، ونظره في إصلاحها وترقية أفكار التَّلامذة. وأرَّخ بعد ذلك للتأليف وأسبابه، وبحث في كل علمٍ يدرسه طالب العلم، وطرق إصلاح تعليمه.
وقد طُبع الكتاب مرَّتين.
محنة التجنيس..
لم يكن الطاهر بن عاشور بعيداً عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3 عقود عرفت بمحنة التجنيس، وملخصها أن الاستعمار الفرنسي أصدر قانوناً في (شوال 1328 هـ = 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ مما أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.
وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352 هـ = 1933م) رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية فأفتى المجلس صراحة بأنه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب.
وللمترجَم غير الكتب التي ذُكرت نحوٌ من أربعين كتاباً تأليفاً وتحقيقاً، شطرها لم يُطبع بعد، منها:
1 - تعليقات وتحقيق على حديث أمِّ زرع – مخطوط.
2 - النظر الفَسيح عند مَضيق الأنظار في الجامع الصَّحيح – مطبوع.
3 - كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطَّا – مطبوع.
4 - آراءٌ اجتهادية – مخطوط.
5 - الأمالي على مختصر خليل – مخطوط.
6 - حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب (التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول) – مطبوع.
7 - قضايا وأحكام شرعيَّة – مخطوط.
8 - الوقف وآثاره في الإسلام – مطبوع.
9 - أصول التقدُّم في الإسلام – مخطوط.
10 - أصول النِّظام الاجتماعي في الإسلام – مطبوع.
11 - تحقيقات وأنظار في الكتاب والسُّنَّة. – مطبوع.
12 - نقدٌ علميٌّ لكتاب الإسلام وأصول الحكام لعلي عبد الرزَّاق – مطبوع.
13 - أصول الإنشاء والخطابة – مطبوع.
14 - الأمالي على دلائل الإعجاز للجرجاني – مخطوط.
15 - تحقيق لشرح القرشي على ديوان المتنبي – مخطوط.
16 - ديوان بشار بن برد – مطبوع.
17 - ديوان النابغة الذبياني – مخطوط.
18 - شرح ديوان الحماسة – مخطوط.
19 - شرح معلَّقة امرئ القيس – مخطوط.
20 - سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن بسَّام النحوي– مطبوع.
21 - شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام – نُشرت مقالات في مجلة مجمع اللُّغة العربية بدمشق.
22 - قصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلَّق – مطبوع.
23 - الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصبهاني – مطبوع.
24 - قصَّة المولد النَّبوي الشَّريف – مطبوع.
25 - قلائد العقيان ومحاسن الأعيان لأبي نصر الفتح ابن خاقان – مخطوط.
شخصية الإمام محمد الطاهر بن عاشور في الشعر الإسلامي المعاصر
وكتب الشاعر التونسي محمود قبادو يرثي الإمام الطاهر بن عاشور، وهي من البحر البسيط، وتقع في 83 بيتاً، يصور في مستهلها هول المصيبة التي وقعت برحيل الإمام :
خَطبٌ له الدّينُ أرنى لحظَ مذعورِ وَالناسُ ما بينَ مَبهوتٍ ومبهورِ
أَصمّ أقذى أجرّ اللسنَ فتّ بأعـ ضاءِ البريّةِ أشجى كلّ حنجورِ
بذّ القُوى وَالنهى فُجأً بِغاشيةٍ فَلا تأسٍّ ولا صبر بمقدورِ
ويستخدم الشاعر الألفاظ الإسلامية في رثائه لهذا العالم الرباني، مثل قوله : نفخة الصور، قضاء، كتاب الله، ناقور، وليس هذا بمستغرب على الشاعر المسلم محمود قبادو، فهو متشبع بالثقافة الإسلامية، ولغة القرآن، فلنستمع إليه، وهو يقول :
تَرى وجوهَ وجومٍ لا حراكَ بهم كأنّما صُعِقوا مِن نفخةِ الصورِ
أَفدِح بهِ مِن قضاءٍ لا مردّ له مقدّرٍ في كتابِ اللّه مسطورِ
أَذكى على كلّ قلبٍ لوعةً وَحَشا في كلِّ سامِعةٍ زلزالَ ناقورِ
ثم راح يعدد صفات الإمام محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله – فهو بحر في العلم، وشمس هدى، واندثرت العلوم برحيله :
خِضمُّ علمٍ غَدا غوراً فَفاضَ بهِ خضمُّ دَمع بنارِ الحزن مسجورِ
وَشمسُ هديٍ توارَت وهيَ مُضحيةٌ فَاِلتفَّ ديجورُ إفزاعٍ بديجورِ
تَصامَمتهُ وعاةٌ ثمّ لجّ به تبّاعُ نعيِ نعاةٍ ذي زماجيرِ
وَيحَ العلومِ خبَت شُهبانها وغدا يبيخ مِنها العُرى نسج الأعاصيرِ
ما أَنصَفَتنا الليالي في تمرّسها بِكلّ عضبٍ مقيمِ الميلِ شمّيرِ
لَقَد تقصّت مقالاتٍ وَما كَذَبت إن أنشَبت ظفراً في خيرِ مظفورِ
في فاجعِ الفقدِ مرهوبٌ ومنتجعٌ مغيّبُ الحينِ معروفٌ بمنكورِ
قُل لِلمَنايا أَبعدَ الآن معتقبٌ لا رزء مِن بعدِ رزءٍ باِبن عاشورِ
إن الليالي لم تنصف الأمة حين أنشبت أظفار المنية فقبضت روح الإمام الطاهر، لقد جمع بين الدين والدنيا، وكان واسطة العقد بين العلماء، وبموته تناثر عقدهم المنظوم :
أَردى فَتى الدين وَالدنيا الّذي سَبَرا مِنهُ بِأبعدِ شأوٍ خير مظفورِ
فَأَصبحَ اليوم قد رقّت جوانبهُ كَآبةً وتغشّى ثوبَ مذعورِ
وَأَمستِ الشهبُ في الخضراءِ حائرةً لا تَعتدي وجهَ تشويفٍ وتغويرِ
يا دهرُ وَيلك أَصميتَ الكرامَ به فَهُم كعقدٍ هَوَت وسطاهُ منثورِ
ناشدتكَ اللّه هَل تَدري بتونسَ من جيبٍ عَلى مثل فضلٍ فيه مزرورِ
لقد شقّ الناس جيوبهم حزناً على فقد الإمام، الذي لا تنتهي خصاله، ولا تعدّ شمائله، وقف كالطود الشامخ في وجه أعداء الإسلام، وقلّم أظافر الوحوش الهمجية التي أرادت السوء بهذا الدين وأهله :
ردّد شمائلهُ إِن كنتَ مُمترئاً وَاِنظر أَيَحظى فتى منها بقمطيرِ
كَم صائلٍ يَستخفّ الشرع صيّرهُ مُفلّلَ النابِ مقلومَ الأظافيرِ
وَخاملٍ قَد عَطا مِن حبلهِ سبباً سَما بلحظٍ من الإقبالِ مشهورِ
وَمُستمدّ فيوضٍ مِن عوارفهِ أَمدّه بعطاءٍ غير معبورِ
يُجيب سائلهُ عرفاً ومعرفةً بِما يفيدُ الغنا مِن غير تكديرِ
مُستنزراً كثرةً للمنتمينَ له مُستكثراً مِنهم متّاً بمنزورِ
وَنسخةٌ مِن كمالٍ لَم تَكن نظَرت عَين الزمانِ له منذ الدهاريرِ
لقد نهل العلماء ودعاة الإسلام من عوارفه، وعلومه الصافية، وكان مثالاً للطف والنبل مع السائلين يترفق بهم ويشجعهم، لقد بلغ من الكمال بحيث قلما يجود الزمان بمثله، ويتحسر الشاعر على فقده، فهو خسارة لا تعوض، فيقول :
يا حَسرَتا هضبةٌ لِلعلمِ غيّبها قَبرٌ وَطودُ وقارٍ ذو شماخيرِ
أَستغفرُ اللّه لَم يقبر سوى جسدٍ كانَ الكمالُ بِه بَدراً بساهورِ
شَريعةُ كلّ مَن في الأرضِ واردُها وَغايَة ما فتىً عَنها بمقصورِ
قَد كانَ خافضَ عيشٍ في ذرى مَرفوعةٍ نَصبَ ذيلٍ منه مجرورِ
سَهلُ الخلائقِ فَضفاضُ الردا حولٌ بِالأمرِ عيٌّ بِجمهورٍ فجمهورِ
وَما تزيّل إلّا وهو في شرفٍ مُستشرفٍ لعيونِ الفضل منظورِ
وأعظم ما يميّز الإمام هو علمه ووقاره وكماله، وسهولة أخلاقة، ويصور الشاعر محمود قبادو عواطف الناس يوم رحيله، فيقول :
تُشيّعهُ أممٌ تهمي عوارفهُ مِنهم ذوارفُ موقوذٍ وموتورِ
كلٌّ يقولُ وَأنفاسٌ مصعّدةٌ في جارهِ وَدموعٌ ذات تحديرُ
تغمّدَ اللّه بِالرضوانِ مضجعَ ذي علمٍ أماليه إملاءُ الطواميرِ
تغمّد اللّه بالرضوانِ مضجع ذي فصاحةٍ لقفت إفكَ التساحيرِ
تغمّد اللّه بالرضوانِ مضجع ذي حلمٍ يلقّن إلقاءَ المعاذيرِ
تغمّد اللّه بالرضوان مضجع ذي بشرٍ يترجمُ عَن حسن المخابيرِ
لقد كان موكب جنازته مهيباً شيعته الأمة، بدموع ٍ غزيرة، وقلوب كليمة، ونفوس حزينة، إن أماليه كثيرة، وفصاحته مشهودة، وبلاغته هي السحر الحلال، وكان الإمام ابن عاشور حليماً، خبيراً بسياسة العصر، بشوش الوجه، سمحاً، طيب القلب، يألف، ويؤلف :
يا طاهرَ القلبِ مِن غلٍّ ومن حسدٍ ومكرم النفسِ عن ثوبٍ من الزورِ
وَعاليَ الهمِّ عَن تيهٍ وعن بطرٍ وَعَن تكلّفِ خلقٍ غير مفطورِ
وَصادقَ الذبّ ممقورَ الحَفيظة مع سولَ الفكاهةِ بادي البشرِ والخيرِ
وَدارياً بِسياساتِ الزمانِ وما يَملأُ المحاضرَ مِن علمٍ وتذكيرِ
وَذا البيانِ الّذي يُفضي البنانُ به مِن مقولٍ جهوريّ اللفظِ مجهورِ
ويتأوّه الشاعر على ذلك العهد الذي انصرم، لقد مات حلال المشاكل، فقضية ولا أبا حسنٍ لها:
واهاً لعهدكَ ما أوهى تصرّمه تصرُّمَ الحلمِ عن روعٍ لمسرورِ
لَهفاً عَلى معضلاتٍ لا أبا حسنٍ لَها سواكَ بحلٍّ للصحاريرِ
لَهفاً على مجلسِ الشرعِ الرفيع وقد أَضحى مكانكَ منه غير معمورِ
لَهفاً فَلا عبقريٌّ حينَ تبصرهُ يَفري برأيكَ في أمرٍ ومأمورِ
عزيز علينا أيها الإمام أن يحلّ بك الردى، وأن نخسر رأيك الحصيف، وعقلك الراجح، وعبقريتك الفذّة :
أَعزز عَلينا بأن تُدعى مبهّمةٌ وَعضبُ رأيك فيها غيرُ مشهورِ
أَعزِز علينا بِأن تَجلو الدجى سرجٌ وَما لصبحِ حجاكَ من تباشيرِ
أَعزِز عَلينا بأن يَقوى ذُراك فلا كفٌّ لعادٍ ولا إِعداد مفقورِ
لقد ترك الإمام وراءه ذكراً عطراً، وسمعة طيبة، وعلماً نافعاً، ويداً بيضاء طوّقت الرقابَ، عرفت الأمة فضله حين فقدته :
إِن تخلُ منكَ مقاماتٌ فَقد أرِجت أَرجاؤُها بثناءٍ فيك معطورِ
أَبان فضلكَ فينا فقدهُ وكذا كَ النفسُ زاهدةٌ في كلّ ميسورِ
لَم يقض حقّك مَن في أصغريه يرى مَأوىً بِذكرك يوماً غير معمورِ
وليس هناك عذر لنفس لم تحزن عليك، وليس هناك عذر لعين لم تفض منها الدموع غزيرة على خير الدعاة، وسيد العلماء :
يا نائماً لا يُجيب اليوم داعيهُ أَسهرتَ مَن لم يذُق طعماً لساهورِ
ما أَنصَفتك نفوسٌ لم تَفض لهفاً وَأعينٌ غيّضت مِن بعد تفجيرِ
لَم يَتركنّا الأسى إن كان متّركاً نعياً ولكن لِتجديدِ المحاذيرِ
مَهما عدا أعدلُ الصنوينِ تبعثهُ فَلا تَخل أنّ صِنواً غير مهصورِ
ويصور محمود قبادو مشاعره نحو الإمام ووقع المصيبة على نفسه، وتشوقه لرؤية الشيخ ابن عاشور، الذي روعه صوت النعيّ، وآلمه رحيل الإمام، فهو وفيّ لذكراه العطرة :
اللّه يَعلمُ أنّ الخطبَ جرّعنا خَطباً لكأسٍ بصابِ اليأس منقورِ
اللّه يَعلمُ أنّ البعدَ أَوحشنا فَلا نَرى بعدُ شيئاً غير منفورِ
اللّه يعلمُ أنّ الفقدَ أزعجنا فَلا قرارٌ وَلا أمنٌ بمحذورِ
اللّه يَعلم أن قَد راعَنا نبأٌ نُبيؤهُ كلّ سمعٍ منه موقورِ
أسىً إِذا حاوَلَت فيهِ القلوب أسى شبّت عَليها التعازي لَفح تنّورِ
تُسلى وَيأتي على ذكراكَ أزمنةٌ إن كانَ ما عنكَ يُسلي غير محظورِ
لا يبعدُ النأيَ مَن لم يقلُ صحبتهُ طول التعاشرِ في يسرٍ ومعسورِ
وَكيفَ يُقلى اِمرؤٌ كانت سياسته تَستنزلُ العصمَ من نيقٍ لتيهورِ
كانَت صدورُ النوادي منهُ حاليةً وَمقولُ الشرعِ طلقاً غير مقصورِ
وَاليومَ لا خُطّةٌ عن حطّةٍ سلِمت وَلا حشاشةُ صدرٍ غير مصدورِ
إنّ الّذي كانَ يندى في جَوانحنا مِن بردِ ذِكرك أضحى فيح تسعيرِ
سَيعرفُ الناسُ منكَ اليومَ ما نكروا وَيأبَهونَ لِسعيٍ منكَ مشكورُ
وَيَذكرونكَ في بدءٍ وعاقبةٍ مِن مستفزّينَ مرجوٍّ ومحذورِ
مَن كانَ رزؤك أجراً في صحيفتهِ فَقَد حَوى الفوزَ أخذاً بالحذافيرِ
فَلَيسَ يعدمُ منكَ النفع ذو مقةٍ حيّاً وَميتاً لِمنقودٍ ومذخورِ
وتهدأ عاطفة الشاعر، فيلجأ إلى تلمس العزاء، فهذه الدنيا ليست بدار قرار، فالموت يعتبر مكرمة لأهل الفضل ، ...
إِن أَقصَدتك المنايا فهيَ مرصدةٌ لكلّ مدّرعٍ بِالفضل مذكورِ
وَإِن عَدتك عنِ الدنيا مُعاجلةً فَلَم تكن لكريمٍ دار تعميرِ
إنّ المَنايا لأهلِ الفضلِ تكرمةٌ تَربو بِهم عن قراراتِ التكاديرِ
لقد سمت روح ابن عاشور عندما تطهّرت، وزكت، وترفعت عن الدنيا، وتنزهت عن العيوب والنقائص، فارتفعت إلى العالم الأسمى حيث المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام ، فالتقى الفرع بالأصول :
سَمت بك الروحُ لمّا طُهّرت وَزَكت عَن مركزٍ لمحيطٍ غير محصورِ
وَأَوفَــــــــــــــــدتك إلى دارٍ تكــــــــــــون بها مَــــــــــعَ الأحبّة مـــــــــــبرورٍ فمبــــرورِ
دارٌ بِها جـــــــــدّك الأســــــــــــمى وشيعتهُ صلّى عَليه الّذي أنشــــاه من نورِ
فَاِهنَأ إذاً بِلقا الربّ الكريم وبال جدّ الشفيعِ وجرّر ذيل بختيرِ
وَأَعظمَ اللّه أجــــــــــرَ العالمين فَقد دَهـــــــــاهمُ فيك رزءٌ غير محسورِ
طَووا بِلحدكَ نشرَ المكرُمات كما يُطوى السجلُّ ليومِ النفخِ في الصورِ
واروا علوماً يُنادي مَن يؤرّخُها وَدائع العلمِ في قبرِ اِبن عاشورِ
وَغرّةً جلّلت نوراً مؤرّخةً ألا عَلى الطاهرِ المفتي حلى النورِ
لقد وارى الناس في ذلك القبر الشريف النبل والمكرمات والعلم، والفقه، والشجاعة، والسخّاء والكرم ...
محمد الخضر حسين وابن عاشور:
كان من أعزِّ أقران الشيخ إليه الشيخ الإمام محمد الخضر حسين الذي زامله في الزيتونة دراسة، وتوجُّهاً فكرياً، إذ انعقدت بينهما صداقةٌ بدأت سنة 1317هـ، بلغت في صفائها ومتانتها -على حدِّ قول الإمام- الغايةَ التي ليس بعدها غاية.
وكان في محطَّات حياة الشيخين كثيرٌ من التَّشابه، فالشيخ محمد الطاهر تولى مشيخة الجامع الزيتوني، في حين تولى الشيخ محمد الخضر حسين مشيخة الجامع الأزهر، وكان كلاهما من المعتنين بالأدب إلى جانب العلوم الشَّرعية، وتولى الاثنان الردَّ على الشيخ علي عبد الرزَّاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).
وهذه العلاقة جسَّدها الرجلان بقصائدَ ومراسلات، منها: أنه لمَّا تولى الشيخ محمد الطَّاهر التَّدريس بجامع الزيتونة، هنَّأه الشيخ محمد الخضر بقصيدة مطلعها:
مَساعي الوَرى شَتَّى وكلٌّ لهُ مَرمى ومَسعى ابنِ عاشُورٍ لهُ الأَمَدُ الأَسْمى
فَتًى آنَسَ الآدابَ أَوَّلَ نَشئِهِ فكانَت لهُ رُوحاً وكان لها جِسْما
وبعد هجرة الشيخ محمد الخضر حسين إلى دمشق، بعث صديقُه قاضي القضاة بتونس وقتئذ الشيخ محمد الطاَّهر رسالةً مصدَّرةً بأبيات منها:
بَعُدتَ ونفسي في لِقاكَ تَصيدُ فلم يُغنِ عنها في الحنانِ قَصيدُ
وخَلَّفتَ ما بينَ الجوانحِ غصَّةً لها بينَ أحـــــشاءِ الضُّلوعِ وَقودُ
فأجابه الشيخ محمد الخضر حسين بقصيدة مطلعها:
أَيَنعَمُ لي بالٌ وأنتَ بعيدُ وأَسلو بطَيفٍ والمنامُ شَريدُ؟
إذا أَجَّجَت ذِكراكَ شَوقيَ أَخضَلَت لَعَمري -بدَمعِ المُقلَتَينِ- خُدودُ
بَعُدتُ بجُثماني ورُوحي رَهينةٌ لدَيكَ ولِلوُدِّ الصَّميمِ قُيودُ
فالشاعر يشكو من ألم الفراق، ويشتاق لرؤية صديقه الطاهر بن عاشور، ويرسل الدموع على الخدود غزيرة حين تذكره ، فهو بعيد بجسده عن خليله ، ولكن روحه رهينة عنده هناك .
علم يعزُّ نظيره :
وقال فيه الشَّاعر التُّونُسي محمد الحليوي مصوراً علمه الواسع الذي يقلُّ نظيره في هذه الأيام :
علم ٌيَعِزُّ نَظيرُه في دَهرِهِ هَيهاتَ ، ليسَ نَظيرُه بمُتاحِ
عَلَمٌ تجمَّع عِلمُهُ في شَخـــــــــصِهِ كتَجَمُّع الأَضواءِ في المِصباحِ
ما ضَرَّ مَن أضحى يَعيشُ بعَصـــــــــــرِهِ إنْ لم يُشاهِد (مالكاً) في السَّاحِ
ويذهب الشاعر بعيداً، فيشبه محمد الطاهر بن عاشور بالإمام مالك – رحمه الله – الذي كان إمام دار الهجرة ، وفقيه المدينة بلا منازع، فرؤية ابن عاشور تغنيك عن رؤية الإمام مالك .
وبعد :
فضيلة المفتي محمد الطاهر بن عاشور ضرب المثل بصدقه وإخلاصه وقول الحق دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، وما زال صدى صوته تردده الأفاق حين جهر في مواجهة بورقيبة الذي طلب منه الإفتاء بأن العمال لا صوم عليهم ، والحجة زيادة الدخل الوطني ، فقرأ الآية : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . صدق الله العظيم ، وكذب بورقيبة .
وبأمثال ابن عاشور عزّ الإسلام، وانتشر، وساد ، أما علماء السلطان فلا يحسنون سوى لغة النفاق والمجاملة والمداهنة .
لقد كان الطاهر بن عاشور رائداً من رواد الإصلاح الإسلامي في تونس، ويكفيه فخراً أنه تخرج على يديه فطاحل العلماء والمصلحين أمثال الإمام عبد الحميد بن باديس ..وغيره .
مصادر الدراسة :
1-كتاب (محمد الطَّاهر ابن عاشُور، علَّامة الفِقه وأُصوله والتَّفسير وعُلومه)، تأليف: إياد خالد الطَّباع، وهو الكتاب رقم (26) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1426هـ - 2005م.
2-محمد الطاهر بن عاشور - تفسير التحرير والتنوير - الشركة التونسية للتوزيع - تونس 1974.
3-محمد الطاهر بن عاشور - مقاصد الشريعة الإسلامية - تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي - دار النفائس بيروت الطبعة الأولى 1999.
4-بلقاسم الغالي - محمد الطاهر بن عاشور.. حياته وآثاره - دار ابن حزم - بيروت الطبعة الأولى 1996.
5-محمد محفوظ - تراجم المؤلفين التونسيين - دار الغرب الإسلامي - 1985.
6-موسوعة الشعر العربي – ص1 – إنتاج مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم بدبي .