مارينا تسفيتايفا

الشعر والموت

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري

[email protected]

أفي 31 أغسطس استعادت الحركة الأدبية الروسية ذكرى ذلك اليوم الذي دخلت فيه الشاعرة الروسية لكبيرة مارينا تسفيتايفا إلي حجرة منعزلة وأنهت حياتها بأنشوطة وهي في التاسعة والأربعين ، زوجة ، وأم لطفلين ، وشاعرة ملء السمع والبصر أشرقت في مطلع القرن العشرين مع " آنا أخموتوفا " لتصبحا شمسين منيرتين من قصائد لاهبة ومصير فاجع . ولدت مارينا في 8 أكتوبر 1892 بموسكو ، وكان والدها أستاذا جامعيا ، ووالدتها عازفة بيان ، وتبدت موهبة الشاعرة في محاولات ساذجة مبكرة وهي في السادسة من عمرها ، وعام 1910 نشرت أول ديوان " دفتر مسائي"

وبعد عامين خرج ديوانها الثاني " عامود النور السحري " ، وتوالت دواوينها حتى بلغت سبعة عشر ديوانا ،غير المسرحيات والمقالات النقدية والمذكرات ، ولم تقع خلال رحلتها الأدبية الثرية في فخ " الأدب النسوي" . عاشت تسفيتايفا عهد القياصرة، ثم عاصفة ثورة 1905 ، ثم ثورة 1917 ، والحرب الأهلية ، ثم استقرار كل شيء في قبضة البطش ( ستالين ) . ورأت أمام عينيها كيف يحترق الشعراء والأدباء  من أبناء جيلها مثل آخماتوفا ، التي أعدم زوجها الشاعر جوميلوف عام 1921 ، واعتقل ابنها، ونكل بها، وعاصرت انتحار أو قتل الشاعرين العظيمين سيرجي يسينين في ديسمبر 1925 ومن بعده ما يكوفسكي في أبريل 130 ، وموت الشاعر ماندلشتام 1938 مريضا في معسكر اعتقال ، ثم محاكمة المخرج المسرحي العظيم ماير هولد وإعدامه ضربا بالرصاص عام 1940 . وكان عليها وسط الحريق أن تكتب نفسها ، والحقيقة ، وهي في روسيا ، وهي خارج روسيا حين رحلت عنها إلي باريس سنة 1922 ، وهناك بعد ستة أعوام صدر آخر أهم ديوان لها المسمى " بعد روسيا " . وتصف الشاعرة حياتها في الغربة قائلة : " سوء حظي في الغربة أنني لست مغتربة ، أنني بكل نفسي ، بكياني كله ، وامتداد روحي ، هناك ، إلي هناك ، ومن هناك " !أما عن ظروف تلك الحياة فقد كتبت عنها مارينا في مذكراتها تقول : " لا أحد يستطيع أن يتخيل الفقر الذي نحيا فيه . إن دخلي الوحيد يأتيني عن طريق الكتابة . أما زوجي فهو مريض وليس في مقدوره العمل . وابنتي تكسب قروشا زهيدة بما تحوكه من قبعات . ولدي ابني المعتل ، ونحن جميعا نعيش على تلك القروش ، وبعبارة أخرى فإننا نموت من الجوع ببطء " . وفي عام 1939 تقرر الشاعرة الكبيرة العودة إلي روسيا ، وتشهد مرة أخرى عنفوان البطش الستاليني ، وفظاظته ، وتحاول أن تتشبث بالأمل في أن شعبها القوي سيتحمل وطأة الواقع ويتجاوزه إلي عالم آخر ، فتكتب في إحدى قصائدها تقول :   

ستحيا يا شعبي مهما كان ..

يحرسك الله ماحييت

من وهبك قلبا حلوا كالرمان

ومنحك صدرا كالجرانيت .

فلتزدهر أيها الإنسان

الذي قد من الصخور

بقلبك الحار كالرمان

النقي مثل البللور

الشاعرة التي امتلأت بالثقة في أن شعبها قادر على تحمل الصعاب ، لم تستطع هي ذاتها أن تتحمل وطأة الثورة التي ابتلعت عواصفها خيرة كتابها ، فأنهت حياتها منتحرة في 31 أغسطس 1941 بأنشوطة كما فعل يسينين . وتركت مارينا ثلاث رسائل واحدة للشاعر " نيكولاي أوسييف " ، وأخرى لمن سيتولى دفنها ، وثالثة لإبنها جريجوري تقول له فيها : " عزيزي ، اغفر لي ، لكن الوضع كان سيصبح أسوأ لو استمرت هذه الحال ، إنني مريضة بشدة ، حتى أنني لم أعد أنا . اعلم أنني أحبك بقوة ، وافهم أنه لم يكن بوسعي أن أعيش أكثر من ذلك . انقل لبابا و ل " آليي " إذا رأيتها أنني أحبهما حتى آخر رمق ، ووضح لهما أنني بلغت طريقا مسدودا " . هكذا رحلت الشاعرة ، أما الطريق المسدود ، فلم يكن مأزقها الخاص ، لكنه مأزق تاريخي تكثف كقطرات الماء على جدران روحها العظيمة . وفي عام 1990 ، تقدم عدد من الكتاب والشعراء برسالة إلي البطريرك الروسي ألكسي الثاني ، ليغفر للشاعرة انتحارها ، ففعل .

خلال إقامة مارينا تسفيتايفا في باريس كانت تراسل الشاعر النمساوي المعروف راينر ماريا ريلكة ، فكتب لها ذات مرة " نحن الأعماق العائدة إلي السماء يا مارينا " . ومن هناك تطل الشاعرة كل عام على روسيا ، وتنشر من جديد رائحة الحريق القديم .