مالك بن نبي، نجم "الفكر المسلم الحرّ"

الحديث عن "مالك بن نبي" ليس كالحديث عن الرجال الذين رضعوا الإسلام مع حليب أمهاتهم، ولا تكاد تجد في ثقافتهم أثراً لفكر وافد... وليس كالحديث عن مسلمين عاشوا شطراً من حياتهم في بلاد الغرب فانبهروا بأضوائها، وانمسخت شخصياتهم أمام بروق المدنية التي غطّت آفاقها.

مالك بن نبي أنموذج للمسلم الذي امتزجت في نفسه قيم الإسلام التي تلقّاها من أهله وعشيرته... مع قيم الغرب الذي عاش فيه جُلَّ عمره، لكن قيم الإسلام هي التي كان لها السيادة في تكوينه الفكري، وفي اتجاهه وعاطفته.

ولد مالك بن نبي عام 1905م في قسنطينة، مدينة معروفة في الجزائر، في أسرة مسلمة محافظة متدينة، لكنه عاش شبابه كله في باريس، فصارت اللغة الفرنسية كاللغة الأصلية له، يفكّر بها، ويكتب بها، حتى إن كثيراً من مؤلفاته كتبها بالفرنسية، ثم قيض الله له المفكر المصري الأستاذ عبد الصبور شاهين فترجمها له إلى العربية. ثم إنه، في كهولته وجّه اهتمامه لتعلم العربية وإتقانها، فبدأ يحاضِر ويكتب ويؤلف بها.

ولقد حظيتُ بسماع محاضرتين له عام 1965م، على ما أذكر، إحداهما عقب صلاة الجمعة في مسجد الثانوية الشرعية بحلب، والأخرى مساء ذلك اليوم نفسه، على مسرح دار الكتب الوطنية. وكان يتكلم العربية بمستوى مقبول، ويطعِّم كلامه بين الحين والآخر بكلمات فرنسية.

وقد اشتهر مالك بن نبي بأنه "مفكر" أو "فيلسوف"، لكن اختصاصه الدراسي كان في الهندسة الكهربائية. وليس غريباً أن يصبح المهندس أو الطبيب شاعراً أو قصّاصاً أو مفكراً سياسياً...

ومن أبرز الأفكار التي عُرف بها مالك بن نبي حديثُه عن الثقافة وعن الحضارة. وهو يؤكد أن الثقافة محصلة العقائد والتصورات والقيم والمفاهيم والآداب والفنون التي تسود مجتمعاً ما، وليست مجرد ما يتلقاه الفرد في المدرسة والمجتمع. وهذا الفهم يكاد يتفق عليه معظم المفكرين.

لكن مالكاً يركز على المفهوم الاجتماعي للثقافة، فالمجتمع المتجانس، أو المجتمع الأصيل، تكون له ثقافة واحدة جامعة، يتمثلها الطبيب كما يتمثلها راعي الغنم، بمعنى أن تسود أفرادَ المجتمع كافة، وتحكم علاقاته وأعرافه وتقاليده. أما المجتمع الذي يكون لكل فرد فيه أو مجموعة، قيمٌ تخصّهم، وتضْؤُل القيم المشتركة بين أبناء المجتمع جميعاً، فهو مجتمع فاقد للهوية، يعيش في ملتقى تيارات ثقافية متضاربة!.

أما "الحضارة" عند مالك فتشمل الثقافة والتطور المادي معاً. وهو يعبِّر عنها بهذه المعادلة:

فالإنسان الواعي الذي يُحسن استغلال الثروات الطبيعية (التراب)، ويستثمر الوقت استثماراً فعّالاً، ينشئ حضارة!.

وعليه فإن الاهتمام ببناء الإنسان، يجب أن يتقدم على بناء "الآلة"، والذين يهتمون بالآلة قبل الاهتمام بالإنسان الحر المفكر الواعي... إنما يضعون العربة أمام الحصان!.

ومجتمعات العالم الثالث (عند مالك) لم تحقق سوى "الحضارة الشيئية" أي إنها لم تتمثل القيم العليا التي تؤدي إلى النهوض والتطور (كقيم التحرر والعمل وتنظيم الوقت والبحث العلمي...)، بل استعارت من العالم المتطور بعض منتجاته من سيارات وغسالات وثلاجات ومكيّفات... وراحت تكدّس هذه المنتجات لتتزيّن بها، من غير أن يرافقها تطور في القيم والمفاهيم. وإن لكل مجتمع قيمه التي ينهض بها. وإن المجتمعات الإسلامية التي نهضت، أول ما نهضت، على الدين، لا يمكن أن تنهض ثانيةً إلا عليه. كما أن لكل مجتمع دورة حضارية تبدأ بمرحلة الروح حيث تكون العقيدة دافعاً للانطلاق بأريحية وتضحية وعاطفة جياشة، وقيام بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق، ومرحلة العقل التي تتسم بالتوسع والانتشار وتوطيد الاستقرار وازدهار العلوم والعمران، ثم مرحلة الأفول التي تتسم بسيطرة الغريزة وما يتبعها من تنافس على الحطام، وتقاتل على العصبيات القبلية والبلدية والشخصية، وسيطرة المؤسسة العسكرية والزعيم الأوحد، وصراع بين العقل والضمير، وفقدان الفاعلية... ما يعني: القابلية للاستعمار.

فمن الأفكار التي اشتُهر بها مالك فكرة "القابلية للاستعمار" ويعني بها أن المجتمع الذي يضعف وعيُه، ويضعُف إحساسه بالكرامة، وتنخفض عنده الدافعية لتحقيق الذات، بما يتطلبه ذلك من جهد وجهاد وتضحيات... هذا المجتمع يكون مهيّأً للخضوع والذل، وكأنه، بلسان حاله، يقول للدول القوية: تعالي فاستعمريني فأنا أملك كل مقومات القابلية للاستعمار!. ويرى أن المجتمعات الإسلامية قد تحقق فيها كل سمات مرحلة الأفول:

اللفظية: وتعني التمسك بألفاظ مصوغة، وشعارات براقة، مع تفريغها من معانيها، من قبيل نسمع جعجعةً ولا نرى طِحناً.

الفخر بأمجاد التاريخ تعويضاً عن الإنجاز.

التسويغ: ويعني اختلاق الأعذار عن التخلف القائم.

الشيئية: وهي التعلق بالأشياء عوضاً عن الأفكار والقيم.

الذَّرّيّة: وتعني النظرة إلى الأجزاء الصغيرة بعيداً عن النظرة الكلية التي تربط بين الأمور والظواهر.

الاضطراب بين الاستسهال واليأس فإما أن تستسهل الأمور، وإما أن تيأس من إمكان التغيير، وكلا النقيضين يؤدي إلى القعود والخمول والتهرّب من مواجهة الواقع. ويعبّر عن ذلك بمثال: سأل رجل عن طريق الحق فلما رآه من بعيد طريقاً مفروشاً بالأعشاب والزهور استسهله وزهد به، فلما دنا منه فإذا ما ظنه أعشاباً وزهوراً هو رؤوس حراب، عندئذ قال: لا بد أن للحق طريقاً آخر.

ويرى مالك أن الثقافة الصالحة للتغيير وإعادة البناء يجب أن تعتمد على العناصر الآتية:

1- التوجيه الأخلاقي فيجب أن تكون الأخلاق ذات أفضلية في سلوك مجتمع ينشئ حضارة. ومن الأخلاق المهمة: الإخلاص والصدق والأمانة والشجاعة والتجرد والتضحية.

2- الجمال فهو السمة التي خلق الله عليها الكون، وهو السمة للنفس السوية، وقد كتب الله الإحسان على كل شيء.

3- التفكير السويّ الذي يقدّر الأمور قدرها ويسهم في الإنجاز الفعّال.

4- الاهتمام بالعلم وتطبيقاته في شؤون الحياة من صناعة وزراعة وطب...

* * *

ويحكي "مالك" في كتابه "مذكرات شاهد القرن – الطالب" عن الكيد الصليبي والتآمر على الإسلام.

ويؤكد أهمية تغيير ثقافة المجتمع، بمعنى تصحيحها وتعميقها حتى يتحقق للمجتمع التطور.

من أهم كتبه: الظاهرة القرآنية، مذكرات شاهد القرن، مشكلة الثقافة، الصراع الفكري في البلاد المستَعْمَرة، شروط النهضة.

توفي مالك بن نبي، رحمه الله، في 21/7/1973م.

وسوم: العدد 629