رفيق محمود خليل العظم

clip_image001_04fcc.jpg

من رواد مدرسة الإصلاح الإسلامي في بلاد الشام 

(1282  - 1343 هـ)

الولادة والنشأة :

هو المؤرخ والسياسي ، والعالم البحّاث, و أحد رجال النّهضة الفكريّة في سوريّة رفيق بن محمود بن خليل بن أحمد بن عبد الله العظم، ولد عام 1282 ه/ الموافق عام 1867م في مدينة دمشق، وفي مجلة المجمع العلمي العربي: ولد في حدود 1280 هـ.

ونشأ في أسرة عريقة رفيعة المكانة واسعة الجاه مترفة.

طلبه للعلم :

والده الأديب الشاعر محمود العظم لم يصرفه إلى الدراسة في المدارس الحكومية العثمانية، وإنما دفعه إلى شيوخ العصر يتردد إليهم ويأخذ عنهم، فتعلق بكتب الأدب ودواوين الشعر وهو مازال صغيراً، ثم انصرف إلى كتب النحو والصرف والمعاني والبيان، لازم العلماء والأدباء وبعض المتصوفة،  وأقبل على الأساتذة فكان من شيوخه :

1-الشيخ سليم البخاري .

2-الشيخ المجدد طاهر الجزائري رائد مدرسة الإصلاح والتعليم في سورية:

كان الأستاذ رفيق العظم من العلماء والقادة الذين يجتمعون بالشيخ طاهر الجزائري, ويعقدون حلقات العلم والمدارسة, وانضم إليهم فيما بعد عدد كبير من شباب العرب النابهين نذكر منهم:

-منهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر : وقد ولد في دمشق عام 1879م, ودرس في الكليّة السّوريّة الإنجيليّة في بيروت, وتخرّج من كليّة الطّب عام 1906م, كان من الخطباء المفوّهين, ومن رجال الوطنيّة والقوميّة, هرب من جمال باشا عام 1915م, وعاد إلى دمشق مع دخول قوات فيصل, شارك كوزير للخارجيّة في الحكومة الفيصليّة, وحكم عليه بالإعدام, وقد اغتيل عام 1940م, من "كتبه القضايا الاجتماعيّة الكبرى .

-ومنهم كذلك, عبد الحميد الزهراوي, من زعماء النّهضة السّياسيّة في سوريا, وأحد شهداء العرب في عاليه, ولد في حمص, وأصدر صحيفة المنير, كتب في المقطّم. ورئس المؤتمر العربيّ الأوّل في باريس فحُكم عليه بالإعدام. له رسالة "الفقه والتّصوف", وكتاب "خديجة أمّ المؤمنين" وغيرها

-وكان منهم سليم الجزائري, القائد العسكري، العارف باللغات العربية والتركية والفارسية الفرنسية والانكليزية. ولد بدمشق عام 1296/ 1879, وتعلم في المدرسة العسكرية، ومدرسة الهندسة البرية بالقسطنطينية وبلغ رتبة قائم مقام أركان حرب في الجيش العثماني، وحكم عليه بالموت بعاليه في لبنان فأعدم سنة 1334/ 1916. من آثاره: كتاب في المنطق سماه "ميزان الحق .

وكانت هذه الحلقة تجتمع في كل أسبوع من بعد صلاة الجمعة في منزل رفيق العظم. وكان مجلس هذه الحلقة يستعرض كل ما يهم المفكرين استعراضه عن الحركة العلمية والفكرية والسياسية خلال الأسبوع, وكان الشيخ طاهر هو الذي يوجههم, ويصحح لهم, ويوقظهم لما خفي عليهم من أسباب الإصابة بالرأي

سميت هذه الحلقة بحلقة دمشق الكبرى, وقد راح الشيخ طاهر ورجال حلقته ينددون بالحكام واستبدادهم, وينتقدون سوء الإدارة, ويدعون إلى الحرية والعدل والنظام, فاتهموا بالخيانة الوطنية, والعمل على فصل سوريا عن بقية السلطنة العثمانية. وبالمقابل فقد قامت الحكومة بإلغاء منصب الشيخ طاهر الحكومي, وعرقلت أعمال الجمعية, ولاحقت أعضاءها, الذين وجدوا تضييقاً كبيراً, وقامت السلطات بتفتيش منازلهم, فاضطر بعضهم للهرب، وكان على رأسهم الشيخ طاهر.

وعندما غادر الشّيخ طاهر دمشق متوجّهاً إلى مصر للإقامة فيها, خلّف وراءه "ثورة فكريّة تسري تحت الرّماد, وسرعان ما وجدت هذه الثّورة متنفّساً لها في الانقلاب العثمّاني, سنة 1908م

3-ومن شيوخ الأستاذ رفيق العظم الذين تلقى العلم على أيديهم الشيخ توفيق الأيوبي .

 ونزع كما ينزعون إلى البحث في الاجتماع والتاريخ والأدب، وتعلق بالإصلاح، وكتب فيه لما وجد من أحوال العصر الإدارية والسياسية.

جهاده ودعوته :

اجتمع رفيق العظم إلى أحرار العثمانيين، وتعلم اللغة التركية، وتقرب من الجمعيات السياسية السرية، ووقف على العنف والاستبداد والاستعمار، فأخذ ينتقد ويقبح في جرأة وصراحة لفتت الأنظار إليه.

زار رفيق العظم مصر سنة 1892ومنها انتقل إلى الأستانة، ثم عاد إلى دمشق، ليغادرها عام 1894 إلى مصر هرباً من مضايقة السلطات لأحرار البلاد، وفي القاهرة تعرف العظم على أعلام البلاد، واتصل بحلقة الإمام محمد عبده، وفي هذه الحلقة كبار الكتاب والمفكرين أمثال:

- قاسم أمين، وفتحي زغلول، وحسن عاصم.

فأفاد من مجالسهم، وكذلك اتصل بالشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد، وعرف المجاهد مصطفى كامل، ومحمد فريد من زعماء الإصلاح في مصر، فاختمرت في نفسه فكرة الإصلاح السياسي والاجتماعي.

كما انصرف العظم إلى الكتابة والتصنيف، وأخذ ينشر المقالات والدراسات في التاريخ والأدب والاجتماع والإصلاح في كبريات الجرائد: الأهرام، والمقطم، واللواء وفي أشهر المجلات: المقتطف الهلال، والمنار، والموسوعات فوثقت صلاته بعلماء وكتاب وسياسي مصر.

كما انصرف العظم إلى تأسيس الجمعيات السياسية، فأنشأ مع صحبه (جمعية الشورى العثمانية) الحرة، وفيها كبار الشخصيات من عرب وأتراك وجركس وأرمن، وكانت لها صحيفتها يحرر القسم العربي فيها. وكانت هذه الجمعية قبل ذلك تطبع المنشورات وتذيع البيانات في الوطن العربي وفي غيره. وتنبهت الجمعية (الاتحاد والترقي) إلى خطر هذه الجمعية وأثرها، فسعت إلى التقرب منها والاعتماد عليها في مقاومة الظلم والطغيان ولكن الشعار كان يختلف في كل منهما، والأهداف تباعد بينهما... فجماعة الاتحاد والترقي كانوا يعتمدون على العنصرية التركية في رفع الجنس الطوراني، أما جماعة الشورى فكانوا يريدون الحرية للشعوب.

لذا سعى رفيق العظم مع صديقه الشيخ رشيد رضا في تكوين جمعية عربية سرية، هدفها التأليف بين أمراء الجزيرة العربية، والسعي في جمع شمل العرب لحفظ حقوق العرب في الدولة العثمانية، والعمل لمستقبل يعيد إليهم أمجادهم وتاريخهم. وقد ساق إلى تأليف هذه الجمعية ما ظهر من ضعف الدولة العثمانية بعد انكسارها في حرب البلقان، وبدا خطر وقوعها في براثن الغربيين، فنهض العظم مع زملائه من الساسة في تأسيس حزب اللامركزية العثماني في القاهرة عام 1913، برئاسة رفيق العظم، وكان السيد محب الدين الخطيب عضو مجلس الإدارة وكاتم السر الثاني فيها.

لئلا يصيب الأقطار العربية خطر الانهيار الذي يقع على العاصمة، وليصبح كل قطر في منجى من السقوط فريسة للأوربيين.

وظل رفيق العظم يعمل في الأحزاب وفي السياسة لخير قومه وأمته وبلاده حتى ساءت صحته، فلما قامت الثورة العربية وتسلمت الحكومة الفيصلية مقاليد البلاد، عاد العظم إلى دمشق زائراً فاستقبلته البلاد خير استقبال، وعرضت عليه أن يتقلد بعض الرئاسات الكبرى، فاعتذر لسوء صحته، ولزهده في المناصب، وعاد إلى القاهرة ولازم داره.

وقد أُعجب المجمع العلمي العربي في دمشق بكتابات العظم وروعة أسلوبه وجميل خدماته للعربية، فانتخبه عضواً مراسلاً إكباراً لأياديه، ولكنه لم يتح له أن يشارك في أعماله، وإنما أوصى بمكتبته كلها هدية إلى المجمع العلمي العربي، وهي في نحو ألف مجلد، كلها من أنفس الكتب.

وفاته :

توفي في القاهرة سنة 1925.

وكتب عنه صديقه الشيخ محمد رشيد رضا : محمد رشيد رضا: مجموعة آثار رفيق العظم .

ونعاه الإمام الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار تحت عنوان (رفيق العظم :وفاته وترجمته ) فقال :

((في يوم عرفة (9 ذي الحجة سنة 1343 الموافق 30 حزيران يونيو)

سنة 1925 فجعت البلاد المصرية والسورية، بل الأمة العربية، برجل كان من

أعلى رجالها قدرًا، وأنبههم فيها ذكرًا، وأعظمهم لديها زخرًا، رجل الحسب

الشامخ، والأدب العالي، والفكر المنير، والوطنية الصادقة، العالم المؤرخ،

الكاتب الاجتماعي، العامل السياسي، صديقي الوفي (رفيق بك العظم) ابن

محمود بك خليل العظم من أسرة آل العظم السورية العريقة في المجد، ففقدت الأمة

بفقده زعيمًا كبيرًا، ونابغًا حكيمًا، وكاتبًا قديرًا، في زمن هي أحوج فيه إلى

الرجال المحنكين، والزعماء المخلصين منها إلى العافية للأبدان، والطمأنينة

للحيران، فرحمه الله تعالى.

***

نشأته الأولى

ولد الفقيد في دمشق سنة 1282هـ، ونشأ كما كان ينشأ أمثاله من أبناء

الوجهاء المترفين في ذلك العهد، فلم يُعن والده بتعليمه في مدارس العلم العربية؛

لأنها خاصة برجال الدين، ولا في مدارس الحكومة العثمانية الإعدادية والعالية؛

لعدم شعوره بالحاجة إلى تخريجه فيها، أو عدم رغبته بجعله من عمالها وموظفيها،

الذين لا تكنهم دار ولا يقر لهم بين أهلهم قرار، أو لمحض الإهمال، على أنه

هو لم يتعلم تعلمًا منظمًا وإنما أخذ بعض المبادئ عن بعض شيوخ عصره، وكان

يعاشر العلماء والأدباء والمتصوفة، ويطالع الكتب ودواوين الشعر لأجل التسلية،

فكان بذلك شاعرًا ومؤلفًا في الأدب والتصوف، وجاء فقيدنا وارثًا له في ذكائه

ونشأته؛ ولكنه فاقه في الجد والعلم النافع والعمل .

 أخذ التعليم الابتدائي في كتاب أهلي، ثم أخذ شيئًا من مبادئ اللغة العربية عن الأستاذ الفاضل الشيخ توفيق أفندي الأيوبي الشهير، وكان كل ما حصله بعد ذلك بمطالعاته الشخصية، فهل كان يدور في خلد أحد أن مؤلف كتاب أشهر مشاهير الإسلام وغيره من الكتب والرسائل والمقالات الكثيرة في كبرى الجرائد والمجلات المصرية لم يقرأ كتابًا حافلاً من كتب النحو والصرف ولا من كتب المعاني والبيان، ولم يتلقَّ علمًا ولا فنًّا قديمًا ولا حديثًا عن أستاذ ؟ فما هذا الذكاء النادر الذي وضعه في مصاف العلماء المصنفين، والكتاب المجيدين؟ وما تلك الهمة العالية التي رفعته إلى مقام الزعماء السياسيين، ورجال الانقلاب المدبرين؟

كان رفيق ذكي الفؤاد ميالاً بفطرته إلى العلم والجد ومعالي الأمور، عزوفًا

عن سفاسفها وصغائرها، نبت به هذه الفطرة الزكية عن صرف أوقات صباه في

اللهو واللعب مع أمثاله من أبناء الموسرين، وجذبته إلى معاشرة أهل العلم والأدب

والأفكار في الأمور العامة:

 كالأستاذ المرحوم الشيخ طاهر الجزائري والأستاذ الشيخ سليم البخاري والأستاذ الشيخ توفيق الأيوبي من كهول مشيخة الشام، والأستاذ الشيخ محمد علي مسلم ومحمد أفندي كرد علي من الأتراب .

وحُبب إليه البحث ومطالعة كتب الأدب والتاريخ، وكانت نزعته العلمية وكذا الاجتماعية إسلامية، حتى إن علماء الأقطار البعيدة الذين وصلت إليهم كتبه ورسائله بعد ذلك كانوا يظنون أنه من علماء الدين.

***

اشتغاله بالسياسة وهجرته إلى مصر :

ثم إنه كان يعاشر أحرار رجال الحكومة العثمانية من الترك وغيرهم أيضًا،

وتعلم اللغة التركية باجتهاده حتى صار يقرأ كتبها وجرائدها، وإذ كان ميالاً بطبعه

إلى السياسة والأمور العامة استماله بعضهم إلى الاشتغال معهم في جمعياتهم السرية،

فدخل أولاً في جمعية الدستور التي أسسها في الشام أسعد بك مدير البوليس فيها،

ثم في جمعية الاتحاد والترقي.

ولما اشتد السلطان عبد الحميد في مطاردة السياسيين العثمانيين طلاب

الدستور، وطفق ينكل بمن يتعذر استمالته منهم بالوظائف أو الرتب والنياشين؛

أزمع الفقيد الهجرة إلى مصر، ويقول شقيقه الكبير عثمان بك: إن ذلك كان سنة

1894م.

وبعد استقراره في مصر واتخاذها دار هجرة ومقامة، طفق ينشر المقالات

السياسية والاجتماعية في أشهر جرائدها اليومية: الأهرام، فالمقطم، فالمؤيد،

فاللواء، وفي أشهر مجلاتها: كالمقتطف، والهلال، والمنار، والموسوعات،

وكان يختلف إلى مجالس الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ولا سيما بعد تلاقينا

وتوادنا، وكان له بالشيخ على يوسف صاحب المؤيد صلة ود وثيقة، ثم كان من

أصدقاء الزعيمين السياسيين مصطفى كامل باشا ومحمد فريد بك منذ نشأتهما

السياسية الأولى، وظهورها في ميدان السياسة إلى آخر عمرهما حتى إنه رثى

محمد بك فريد حين علم بموته - طريد وطنيته - في أوربة بأبيات من الشعر

وجدهما شقيقه عثمان بك في أوراقه، وقد رثى قبله الأستاذ الشيخ طاهرًا، ولعل

هذين الرثائين آخر ما نظم، وليسا كل ما نظم، فقد كان - رحمه الله - ينظم

الشعر بما يجده من الداعية في نفسه لإرضاء نفسه، ولكنه لم يكن يحب أن ينشر

شيئًا من شعره في الجرائد ولا أن يظهره للناس، إما لأنه لم يكن يراه بالمنزلة

اللائقة بشهرته، أو لأنه لم يكن يحب أن يسمى شاعرًا، وإذ كان الشعر عنده أمرًا

ثانويًّا ذكرناه في ترجمته استطرادًا.

***

تلاقينا وتعاوننا على خدمة الأمة

في منتصف سنة 1315 (الموافق لخريف سنة 1897م) هاجر كاتب هذه

الترجمة إلى مصر، وفي الربع الأخير منها أنشأ (المنار) فكان سببًا للتعارف

والتآلف بينه وبين الفقيد، فالتعاون على الإصلاح السياسي والاجتماعي فالاشتراك

في الأحزاب والجمعيات السرية والجهرية.

وكانت أول جمعية سياسية أسسناها بمصر (جمعية الشورى العثمانية) وقد

اشترك في تأليفها معنا رجال من سائر الشعوب العثمانية الكبرى وفي مقدمتهم الترك

والجركس والأرمن، وكان من أعضائها المؤسسين الضابط صائب بك الذي كان

حاجبًا لصاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي، ومندوبًا لجمعية الاتحاد والترقي

بمصر، ثم ترك خدمة المندوب العثماني السامي؛ إيثارًا للسياسة التي تغضب

السلطان عليها، ومنهم الدكتور عبد الله جودت بك المشهور أحد مؤسسي جمعية

الاتحاد والترقي أول مرة، وكان هو (السكرتير التركي) لها، وكان الفقيد أمين

صندوقها وابن خاله حقي بك (سكرتيرها العربي) وكاتب هذه السطور رئيس

مجلس إدارتها.

كان تأسيس هذه الجمعية موافقًا لرأي صاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي

المندوب العثماني السامي بمصر، وأنا الذي استشرته في ذلك وطلبت منه أن

يمنحها رعايته، ويأذن لنجله محمود باشا بأن يكون الرئيس العام أو رئيس شرف

لها فيمدها بمساعدته، فقال: إن الإصلاح لا يأتي من الأعلى ومن رجال الدولة،

إنما يأتي من وسط الأمة ومن الطبقات الدنيا فيها، وأخبرني أن السلطان علم

بوجود الجمعية وهو أنه يرسل البرقيات إليه تترى في السؤال عنها وعن مؤسسيها،

ويسميها جمعية إفسادية، وأنه تجاهل في جوابه أولاً، ثم كتب إليه بأن لا إفساد

ولا ضرر منها، فإنها مؤلفة من بعض أهل العلم وأبناء الأسر الوجيهة المخلصة

للدولة.

ثم علمنا من شأن اهتمام السلطان بها ما هو فوق ذلك، فقد روى لنا حقي بك

عن خاله المرحوم صادق باشا المؤيد عن السلطان نفسه أن نبأ هذه الجمعية أقض

مضجعه؛ فبقي ثلاث ليالٍ لا تذوق عيناه النوم إلا غرارًا، ولم يقر له قرار حتى

عرف مؤسسيها من بعض جواسيسه بمصر (وهو رجل اسمه كامل بك) دخل

الجمعية بعد تأسيسها، وأظهر من الإخلاص لها والعناية بخدمتها ما كان محل

إعجاب جميع الأعضاء.

ولا غرو، فقد كان عمل الجمعية عظيمًا: تأسس لها فروع في الأقطار

المختلفة، وكانت تطبع المنشورات بالعربية وبالتركية وترسلها إلى فروعها في

البرد الأجنبية؛ فيوزعونها في الولايات التي يقيمون فيها وفيما جاورها، بل كان

يرسل بعض هذه المنشورات في البواخر الروسية مع بعض المسافرين

والمستخدمين فيها إلى ثغور البحر الأسود؛ فيأخذها هنالك منهم من يتولون إرسالها

إلى جميع بلاد الأناضول.

ثم أصدرت الجمعية (في فبراير سنة 907) جريدة باسمها (الشورى

العثمانية) استغنينا بها عن المنشورات، وكان الفقيد يحرر القسم العربي منها،

وحقي بك يحرر القسم التركي إما إنشاء وإما ترجمة لما يكتبه الفقيد أو غيره منها

بالعربية، وقلما كنا نساعدهما على ذلك، وكان ينشر فيها بعض المقالات باللغة

الفرنسية أيضًا.

وبلغ من عناية جمعية الاتحاد والترقي بالجمعية فوق ما كان من التعاون

والمراسلة بينهما من أوربة ومن المركز العام في سلانيك أن أحمد رضا بك الشهير

جاء من باريس إلى مصر لأجل السعي لتوحيد الجمعيتين، وقد قصد الفقيد أولاً

وكلمه في ذلك، فجاء به إليّ، فلما كلمني قلت له: إن جمعيتكم تركية وجمعيتنا

عثمانية عامة، فنحن لا نتفق معكم إلا في مقاومة الاستبداد والظلم والسعي لجعل

الحكم بالشورى النيابية، قال: ونحن جمعيتنا عثمانية لا يميز قانونها التركي على

غيره، قلت: هي عثمانية بالقانون تركية بالفعل، فليس في زعمائها أحد من غير

الترك، فقانونها كقوانين السلطان عبد الحميد ولو كان السلطان عبد الحميد ينفذ

قوانين الدولة على علاتها لما أبحت لنفسي ولا لغيري أن يسعى لتغيير شكل

الحكومة أو يقاوم نفوذه فيها.. . ثم اتفقنا على أن تعمل الجمعيتان بالتعاون مع بقاء

كل جمعية على حالها.

ثم إن جمعية الاتحاد والترقي عادت بعد إعلان الدستور، فكتبت إلى جمعيتنا

من المركز العام تدعوها إلى الحلول فيها والاتحاد بها، فاشترطنا في ذلك شروطًا لم

تقبلها، ولكن الفقيد وحقي بك دخلا في جمعيتهم عند زيارتهما للآستانة بعد الدستور،

وتفرق سائر الأعضاء الذين لم يجمعهم في مصر إلا الاضطهاد، فلم يبق لجمعية

الشورى عمل.

أطلت بعض الإطالة في ذكر هذه الجمعية؛ لأن عمل الفقيد فيها كان عظيمًا،

وقد أنفق من ماله في سبيلها ما لم ينفقه غيره، ولولا اغتراره بجمعية الاتحاد

والترقي لرضي بما ارتأيته من إبقاء فروع الجمعية وتكثيرها في البلاد العربية؛

لتكون قوة للعرب أمام تعصب الاتحاديين للترك، ولكنه قال لي بعد عودته من

الآستانة : إني عدت إلى جمعيتي الأصلية، وأن بقاء جمعيتنا تفريق غير جائز،

على أنه عاد من الآستانة غير راضٍ عن سير الاتحاديين رضاء تامًّا، ثم صار

يشاهد آنًا بعد آن من تعصبهم على العرب وهضمهم لحقوقهم ما حاول إن يتلافاه

بطرق الإقناع، فألف في ذلك رسالة طويلة يئس من فائدتها قبل أن يتمها، فلم

ينشرها وسيأتي الكلام عليها عند ذكر مؤلفاته وآثاره.

وكان آخر الجمعيات السرية التي اشتركنا في تأسيسها جمعية عربية أسست

للتأليف بين أمراء جزيرة العرب وللتعاون والاتفاق بين الجمعيات السياسية التي

أنشئت في الولايات العربية وفي الآستانة؛ لمقاومة تعصب الاتحاديين وضغطهم

على العرب، ولحفظ حقوق العرب في الدولة والعمل لمستقبلهم.

كان تأسيس هذه الجمعية ضروريًّا؛ لأن آفة العرب المفسدة لجميع مواهبهم

الفطرية هي التفرق والاختلاف، وكان الملجئ إليها انكسار الدولة العثمانية في

حرب البلقان، والخوف على البلاد العربية أن تتخطفها الدول المستعمرة، فرأى

المؤسسون أن قوة العرب في جزيرتهم، وأنها لا يمكن الانتفاع بها، إلا بتأسيس

اتحاد حلفي يجمع بين أمرائها، وكان قد سبق لهذا تمهيد من بعض المؤسسين، ثم

وضع له النظام الذي يرجى تنفيذه، وأما الجمعيات العربية فكانت مختلفة المقاصد،

وليس بينها من التعارف والاستعداد للاتحاد عند الحاجة ما يؤمن معه سوء المغبة،

ويرجى به حسن العاقبة، فوضعت الجمعية نظامًا لذلك، ولم يقنع المترجم

بضرورة هذه الجمعية إلا بعد أن رأى من انكسار الدولة في حرب البلقان ما أقنعه

بأنه ليس لها من القوة الذاتية ما يضمن بقاءها، وأنها عرضة للزوال فجأةً إذا

صدمتها صدمة أخرى.

***

الأحزاب الجهرية

وأما التي اشتركنا فيها فهي حزب اللامركزية، وكان الفقيد رئيسًا له،

وحزب الاتحاد السوري وأمرهما معروف للجمهور، فلا حاجة إلى شرح خدمة

المترجم لوطنه فيهما، وإنما أقول: إن حزب اللامركزية كان يراد به خدمة الدولة

والبلاد العربية معًا، وكان سبب تأسيسه ما ذكر آنفًا من سبب تأليف الجمعية

العربية، وهو ما أنذرت الحرب البلقانية العثمانية من توقع زوال الدولة، وقد كنا

نعتقد أن الدولة لا يمكن أن تعيش طويلاً إذا أصرت على شكل حكومتها المركزي

وتحكيم الترك في جميع شعوب الدولة، وكان المترجم - رحمه الله تعالى -

حريصًا على بقاء الدولة، وكان على هدى وبصيرة في ذلك، وكنا متفقين معًا على

هذا الرأي، وعلى أن العرب يحتاجون إلى زمن طويل؛ لترقية أنفسهم وجمع

كلمتهم واستغنائهم عن الدولة إن زالت أو بقيت، وكنا نرى أن الخروج على الدولة

ضار وخطره على العرب أشد من خطره على الترك، ولا أقول: إن كل أعضاء

الحزب كانوا على رأينا، وإنما كانوا متفقين على أن شكل الحكم اللامركزي خير

لبلادنا ولغيرها، وكان لبعضهم أهواء أخرى وشذوذ في الفكر وفي العمل، ولكن

الحزب نفسه لم ينحرف عن قانونه المستقيم.

وأما حزب الاتحاد السوري فأمره أظهر، لأن العهد به أقرب، وكان الفقيد

من المؤسسين له، ولكنه تركه منذ سنين واعتزل السياسة وغيرها من الأعمال،

لأن صحته ساءت، واشتد عليه مرض الربو، وضاعفه تصلب الشرايين فضعف

القلب، حتى أودى ذلك كله بحياته فجأة.

هذا وإننا لم نختلف في كل هذه المدة في مقصد من المقاصد، ولا في مهمات

الوسائل أيضًا، إلا ما كان في أيام حرب المدنية الكبرى، فقد اختلفنا في مسائل

مهمة لا يحسن في هذه الترجمة ذكرها، ونحمد الله تعالى أن كان اختلافنا محصورًا

في مناقشات جرت بيننا، لم تتجاوزنا إلى غيرنا.

***

آثاره القلمية

(1) إن أجل تآليفه وأعظم آثاره العلمية هو تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام)

الذي طار به صيته في الأقطار، وإنما أتم منه أربعة أجزاء، طبعت مرارًا

ونفدت نسخها.

(2) وكتاب (السوانح الفكرية في المباحث العلمية) وهو كتاب اجتماعي أدبي جعله أربعة أقسام:

(القسم الأول المدنية ودواعيها، وأسباب تقدمها أو تلاشيها) ، وفيه 3 أبحاث . (القسم الثاني التربية والأخلاق) وفيه 4 أبحاث،

(القسم الثالث الأدبيات) وفيها 4 أبحاث

 (القسم الرابع مباحث علمية مختلفة) وفيه 5 أبحاث .

 خامسها (التفرنج) وقد أطال في ذمه، ووصف ضرره وشره.

وهذا الكتاب مبيض بخطه في زهاء مائة صفحة من القطع الوسط، وإنما

صده عن طبعه -كما نظن- أنه أثنى في فاتحته على السلطان عبد الحميد، فأطراه

إطراء لم يلبث أن ظهر له أنه مخطئ فيه، بعد أن انخدع كغيره بما كانت تنشره

جميع الجرائد العربية والتركية من مدائحه المنثورة والمنظومة.

ويحسن بي أن أذكر عبارته في ذلك؛ لما فيها من الدلالة اللفظية والمعنوية،

على حال فقيدنا العزيز الفكرية والأدبية، قال:

(وإنني لما رأيت أبناء وطني قد تفتحت منهم الأذهان، وتنبهت بعد الرقدة

والفكر، وسرى سر الحمية في أمثالي من شبان هذا العصر، فأخذوا يتتبعون

أشتات العلوم والمعارف، ويتفيئون تحت ظلها الوارف، بوجود من لا تكلُّ عن

الثناء عليه ألسنة رعيته، وقد اتحدت القلوب تحت راية عدله وشوكته، السلطان

ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد، المحفوف من الله بالعز والتأييد، فقد

أحببت إتحافهم بكتاب يروق في عين كل لبيب، ويحتاج إليه كل أديب أريب،

وشحت بفرائد الفوائد طروسه، وأبرزت في دست الكمال عروسه، ليكون بهجة

للناظرين، ولذة للسامعين) .

وإنني لم أر له - رحمه الله - أسجاعًا كهذه في غير هذا الكتاب الذي كان من

أول ما كتب، وأول ما ألف على ما أعلم، بيد أنه لم يلتزم السجع إلا في خطبته

فقط، وهو لا يخلو من لحن فيما هو من ضروريات علم النحو، وهاك أسماء بقية

آثاره القلمية التامة:

(3) (كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية) :

 وكفاه تقريظًا له أن الأستاذ الإمام محمد عبده قرر تدريسه في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية.

(4) رسالة تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام.

(5) (كيفية انتشار الأديان) .

(6) (الجامعة الإسلامية وأوربة) .

7-نقد كتاب "حديث الأربعاء" - بقلم رفيق العظم .

وله خطب علمية ألفاها في بعض المحافل العلمية والمدارس العالية، نشر

بعضها في المنار وبعضها في مجلة دار العلوم، وهذه يسهل جمعها وطبعها كمقالاته

في المجلات، وأما مقالاته في الجرائد فهي كثيرة، وجمعها متعذر أو متعسر.

وأما الكتب التي شرع فيها ولم يتمها فهي اثنان:

(أحدهما) كتاب في (تاريخ السياسة الإسلامية) رسم له ثلاثة أقسام:

عصر الترقي الإسلامي، وعصر الوقوف، وعصر الانحطاط، وبدأ القسم الأول

بخلاصة السيرة النبوية، والخلافة والوزارة، والقضاء والولاية، وإمارة الجيش،

وكتابة الجيش والديوان والعطاء، والكتابة العامة والسفارة إلخ.

وكتب منه بعض الأبواب ثم وقف قلمه دون إتمامه وإتمام أشهر مشاهير

الإسلام وغيرهما، ولو أتمه على المنهج الذي وضعه له لكان أجل من تاريخ أشهر

مشاهير الإسلام، بل من أهم الكتب التي يحتاج إليها المسلمون على الإطلاق.

(ثانيهما) الرسالة التي سبقت الإشارة إليها في الخلاف بين الترك والعرب.

وقد كتبت منها 67 صفحة كبيرة، انتهى فيها إلى البحث فيما سماه (أرجوفة

الخلافة العربية) فبدأ به ولم يتمه، وهذه الرسالة حجة بينة على شدة إخلاصه

للدولة العثمانية وكراهته الشديدة للرابطة الجنسية وتنفيره عنها، وكان رجال

جمعيته الاتحادية يتهمونه مع ذلك بعداوتها، ويتمنون لو تصل إليه أيديهم؛ ليقتلوه

شر قتله، وهو لشدة إخلاصه في خدمته للدولة بحزب اللامركزية العثمانية الذي

كان رئيسًا له صدق الاتحاديين فيما ادعوه من الرغبة في الاتفاق مع العرب

وإعطائهم حقوقهم عقب مؤتمر أريس العربي، الذي عقد هنالك باسم حزب

اللامركزية، وانخدع كما انخدع رئيس ذلك المؤتمر أخونا الشهيد السعيد السيد عبد

الحميد الزهراوي - قدس الله روحه - الذي كان من اغتراره بخلابتهم أن دعاني

ودعا الفقيد إلى الذهاب إلى الآستانة؛ للاشتراك في توثيق روابط الإخاء والوحدة

بين العرب والترك، فأما الفقيد فقد انخدع، وزاد في اطمئنانه كتابة بعض أصدقائه

من رجال الترك الاتحاديين كجلال الدين بك عارف وأخيه نجم الدين بك، فأرسل

برقية إلى الآستانة، وعد فيها بإجابة الطلب والعزم على السفر، وذكر لي ذلك بعد

إرسالها فوقفت لإقناعه بالبقاء هنا، وقلت له: إنهم يريدون أن يجمعوا الزعماء

العاملين هنالك؛ لينتقموا منهم كلهم، ولئن أجبناهم ليحيطن بنا فلا ينجو منا أحد،

وإني لخائف على أخينا السيد عبد الحميد، ولكني أرجح أنهم لا يصيبونه بأذى

مادمنا في مصر؛ لأنهم يريدون أن يصيدونا به.

ثم كافأني الفقيد - أحسن الله إليه - على هذا إخلاصًا في المودة والنصح لا

بقصد المكافأة لما علم أنني سأعود من الهند إلى مصر عن طريق العراق (سنة

1330-1912) ، فأرسل إليّ برقية بأن أعود في البحر؛ خوفًا علىّ من فتك أحمد

جمال باشا السفاك، إذ كان وقتئذ والي بغداد والقائد العام لجيش العراق، ولكن

الله سلم، على أن الفقيد لم ييأس من الدولة كل اليأس إلا في أثناء الحرب العامة

وما كان من جمال باشا فيها.

فهذه جملة سيرة فقيدنا السياسية، ولولا بعض آثاره العلمية لما كان له شيء

يؤثر عنه من وراء السياسة إلا أخلاقه العالية وآدابه السامية.

***

أخلاقه وآدابه :

قد أوتي الفقيد حظًّا عظيمًا من الآداب الاجتماعية والفضائل النفسية والفواضل

العملية، كان نزيه اللسان طاهر القلب، منزهًا عن الحسد والحقد، وفيًّا لأصدقائه،

برًّا بأهله وصولاً لرحمه، متواضعًا في عزة نفس، ذا مروءة صادقة، ونفس

سخية، ويد مبسوطة، حسن الضيافة، كثير الصدقات والمساعدات للجمعيات

الخيرية، قليل التبجح والدعوى، ما عاشره أحد من قومه ولا من غيرهم من

الشعوب إلا وأحبه واحترمه، ومن آدابه التي يجب أن تذكر بالنص في هذه

الترجمة الوجيزة أنه تزوج ولم يرزق ولدًا، ولا كان مغتبطًا، ولم أسمع منه ولا

عنه منذ عقدت له عقد زواجه إلى أن توفاه الله تعالى كلمة تؤذن بحسرته على

الحرمان من الولد أو الميل إلى التزوج بامرأة أخرى مع زوجه أو بعد تطليقها،

فهذا من أعجب الوفاء، والصبر والقناعة آداب يقل نظيرها في هذا العصر وفي كل

عصر.

وكان معتدلاً في أمور معيشته، يقتصر على اللائق به من اللباس وجيد

الطعام، من غير اهتمام بالتطرز، ولا جنوح إلى التورن، ولا إنفاق في التنعم،

ولكنه كان شديد الولوع بدخان التبغ، وكثير الاختلاف إلى بعض المقاهي العامة

على قلة عنايته بالملاهي، وإنما كثر ذلك منه بعد أن ضعف جسمه، وصار يتعب

من الكتابة والمطالعة.

وجملة القول أننا قد فقدنا بفقد هذا الصديق الوفي المهذب، وأن الأمة

العربية قد فقدت بفقد الابن البار العامل رجلاً لا عزاء عنه إلا أنه قد انتهى إلى حال

من الضعف والأمراض، لا هناء له في الحياة معه، ولا رجاء في الانتفاع بشيء

من مواهبه وتجاربه، فرحمه الله تعالى، وعفا عنا وعنه، وأدخلنا وإياه برحمته

في عباده الصالحين.

المراجع:

1ـ د. سامي الدهان (قدماء ومعاصرون، دار المعارف، مصر، 1961، ص(166ـ 172).

2ـ يوسف أسعد داغر (مصادر الدراسة الأدبية، بيروت، مكتبة لبنان، الطبعة الأولى 2000، ص(471، 472).

3ـ عبد الوهاب الكيالي (موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1981، ص(826،827).

4ـ جميل عويدات (أعلام نهضة العرب في القرن العشرين، الطبعة الأولى 1994 ص(100).

      ترجمة: رفيق العظم ،مركز الشرق العربي

      ترجمة: سيرته الذاتية الكاتب: السيد الشامي ،موقع موسوعة ببيلو نت

      ترجمة: رفيق العظم ،موقع: المعرفة

      مؤلفات: من مؤلفات رفيق العظم شبكة الالولة

      مؤلفات: مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة - رفيق العظم موقع :4shared

من أقواله ومقالاته :

1-انحطاط الأخلاق :

من البديهي أن للخلق عملاً كبيراً في الحياة الإنسانية يظهر أثره على كل فرد من أفراد النوع والحكم في هذا ثابت بالاستقراء مؤيد بالبداهة لا حاجة بنا إلى الفلسفة فيه وإقامة الدليل عليه. وإنما نريد أن نذكر من أثره في مجموع الأمة ما أصيب به أهل المشرق من الانحطاط الناشئ عن ضعف الأخلاق وفساد ملكات العلم بوسائل الحياة الطيبة التي يتمتع بها أمم غيرهم.

لا خلاف بين الباحثين في طبائع الأمم المشتغلين بتقصي أحوال الاجتماع في أن المدينة وإن كانت أثراً جميلاً من آثار ترقي الشعوب وتخلص العقل من قيود التقليد وتخلصه من أسر البداوة إلا أنها مرتع خصيب لجراثيم الأدواء المفضية إلى انحطاط الأمم التي تنو بنمو الحضارة وتتربى في أحضان المدنية. ومن ثم كانت المدنية أشبه بمرتفع ذي سلمين للصاعد والهابط لا ينتهي صاعده في الصعود حتى يبدأ بالنزول ذلك لأن الاستغراق في المدنية مدعاة للاستغراق في الملاذ بما يتوفر فيها من أسباب الراحة ودواعي الرفاهية وهما مجلبة الفساد الذي يتخلل أعضاء المجتمع فإما أن يتمكن منه فيرديه وإما أن يطاوله فيؤذيه.

وأكثر ما يظهر ذلك الفساد في الأمم العريقة في الحضارة البعيدة العهد بسلامة الفطرة حيث يتناهى بها الضعف الناشئ عن طول عهدها بالملاذ ويتولاها العجز عن مقاومة الفساد المتمكن في النفوس والأخلاق فتصير إلى حالة من الانحطاط تشبه حالة المريض بمرض معد كل من خالطه سرت إليه عدواه.

هذا شأن أمم الشرق التي توغلت في عصور المدنية منذ ابتدأ تاريخ الاجتماع البشري فكانت أقدم الشعوب عهداً بالتمدن لذا صارت إلى ما صارت إليه من الانحطاط وإهمال القيام على التربية الصحيحة التي تقاوم أعراض الضعف المتأتي عن الانغماس في المدنية والإمعان في سبيل الرفاهية وصار الغرب مع ما توفر فيه من أسباب الترف والحضارة أرسخ قدماً في المدنية وأبعد عن مكان الضعف لجدة مدنيته وقيامها على أصول التربية الصحيحة بما تسنى لأهلها من وجود بعض المخترعات النافعة كالمطابع التي أفادت الغربيين في تعميم العلم وتعليمه فوائد لا تحصى مع أن الطبع وجد قبل ذلك عند الصينيين من أهل المشرق ولم يستفيدوا منه ما استفاده الغربيون في رفع بنيان مدنيتهم على دعائم العلم الصحيح. ذلك لما قلناه من أن أمم المشرق الموغلة في الحضارة قد تولاها الضعف

عن النهوض بما أفسد طول أيام حضارتها من أخلاقها منذ عصور بعيدة أو آلاف من السنين حتى صارت من ذلك إلى حال تشبه حال المريض الذي يعدي السليم. وليس فساد الأخلاق في المشرق بقريب عهد بل هو يغلغل فيه من عهد طويل بدليل ما نقل في التاريخ عن أحد قناصل رومية أنه قال إنا وإن غلبنا الشرقيين وهزمناهم ودوخنا ممالكهم إلا أنهم ثأروا منا بأن تركوا لنا مع هذه الممالك أخلاقهم المنحطة.

وفي الحقيقة أن الرومانيين وإن بلغوا من عزة الملك والسلطان باستيلائهم على المشرق ما بلغوه إلا أنهم منذ وطئوا بأقدامهم أرض المشرق خطوا الخطوة الأولى إلى الانحطاط بما تسنى لهم فيه من وسائل الترف التي كانت متوفرة يومئذ عند الشرقيين فغلبت على نفوسهم الشهوات وحب الراحة والتنعم بنعيم أهل المشرق ففسدت فطرتهم البدوية التي مهدت لهم بسلامتها من شائبة الحضارة سبيل الغلبة على القرطاجيين والرفس وغيرهم والتسلط على الغرب والشرق حتى إذا خالطوا أمم المشرق التي كان لها حظ من الحضارة ولم يحتاطوا لأنفسهم من آفات المدنية الشرقية التي تسممت بفساد الأخلاق سقطوا من حالق مجدهم ذلك السقوط المريع وغشيهم بعد ذلك من الضعف والذل ما ذهب بدولتهم. ومحا من عالم الاجتماع اسمهم. وحسبك أن تعلم مبلغ انحطاط الأخلاق في دولة الرومانيين في المشرق من تعاليم عيسى عليه الصلاة والسلام التي ترمي إلى الزهادة في نعيم الدنيا لتقف بالقوم عن الإمعان في مذاهب الشهوات والاستسلام لمطالب النفوس الهائمة بحب الانطلاق عن كل قيد. وهذا شأن المشرق أيضاً مع من سبق من الرسل أصحاب الشرائع التي جاءت كلها لتقويم أود النفوس وإنما تنزل هذه الشرائع عند الحاجة كما هو معلوم بالضرورة فكان المشرق لاستحكام الحضارة في أهله وتأصل فساد الأخلاق فيه لم تنقطع حاجته إلى رسول أو شريعة تقوم منآد ساكنيه.

وما أصاب الرومان من مخالطة الأمم المتحضرة من سكان المشرق أصاب العرب أيضاً فهم وإن كانوا من أهل المشرق غير أنهم من شعوبه البدوية التي تسيجت من تطرق الحضارة إليها بسياج واق من الصحاري الشاسعة التي تحيط بجزيرتهم حتى إذا بعث الله نبياً منهم بشريعة تدعو إلى الخير وترمي إلى تهذيب أخلاق الأمم ونهضوا لنشر هذه الدعوة وتقدموا للفتح كان لهم من سلامة الفطرة وطهارة الأخلاق ممهد عظيم لبسط جناح

السلطة على الممالك القديمة وفي جملتها بقايا مملكة الرومان الشرقية. ولما تمكن لهم السلطان في الأرض واختلطوا بأهل الحضارة والترف من أمم المشرق غلبوا على أخلاقهم وأسرعت عدوى الفساد إليهم فلم يلبثوا إلا جيلاً أو بعض جيل حتى أخلدوا إلى الراحة ونسوا حظاً مما ذكروا به وحملوه من دعوة الخير والإرشاد إلى الأمم فانحطت أخلاقهم وزالت سطوتهم، وذهبت مع الذاهبين دولتهم.

يظن بعضهم أن ما منيت به مدينة الغرب لهذا العهد من فشو الفاحشة والتهتك بين أهلها هو نتيجة الإيغال في الحضارة والنزوع إلى الشهوات وأن فساد الأخلاق المؤذن بتلاشي الأمم إنما هو محصور بمثل هذه الرذائل الفاضحة وليس الأمر كذلك إذ أن هذه الرذائل وإن كانت من نتائج الحضارة ولها أثر قبيح في المجتمعات المدنية فهي بعض من كل ما ندعوه فساد الأخلاق ونراه مظنة انحطاط المشرق وأهله. إذ من المعلوم أن الأخلاق الفاضلة وأضدادها كثيرة جداً كالكرم والبخل، والعفة والشره، والشجاعة والجبن، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة إلى غير ذلك من الملكات التي منها ما يكون بالفطرة ومنها ما يكتسب بالتربية وتولده في النفوس البيئة أو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان. وضرر الكذب مثلاً إذا تفشى بين قوم أشد خطراً على حياتهم الاجتماعية من التهتك. لأن الكذب آلة كبيرة من آلات الفساد تهدم ركناً عظيماً من أركان المدنية وهو الثقة التي هي روح التجارة والصناعة في كل عصر ومصر. وكذلك الجبن مثلاً فإنه إذا استحوذ على النفوس أضعفها وانتزع ملكة الإقدام على جلائل الأعمال وحرم أربابها ثمرة الاعتماد على النفس والمجاهدة في سبيل الحياة. وهكذا يقال في كل خلق من الأخلاق الفاسدة كمال يقال بالعكس في الأخلاق الفاضلة. ومن أطلق على الشر نظر المتأمل ورأى ما تفشى بين أقوامه من ضعف النفوس، ووهن العزائم، وفقد الثقة والأمانة، والنميمة، والرياء، والكبرياء الباطلة، والعيشة الخاملة، والرضا بالقديم، ومعاداة العلم وغير ذلك من الأخلاق السافلة التي قضت بالشقاء على المشرق وأهله علم أن ما أصاب مدنية المغرب من الاستهتار وشيوع الفاحشة ليس بشيء في جانب ما يرى ثمة من الثقة المتبادلة، والأمانة في المعاملة، والاعتماد على النفس في معترك الحياة، والنزوع إلى المزيد من القوة والعلم والثروة، وحب الحرية، والصدق في العمل والقول، والبعد عن المداهنة والرياء، خصوصاً للقادة والزعماء، وغير

ذلك من الأخلاق العالية التي أصبحت سياجاً للمدنية الغربية يقيها سرعة السقوط فيما سقطت فيه المدنية الشرقية من الضعف والفساد.

ورب قائل يقول إن من المحال إذن تخلص الشرقيين من حبائل الانحطاط في الأخلاق واستئصالهم لمرض الضعف الذي نما فيهم بمرور الأجيال، نمو المرض القتال. والجواب عن هذا أن المحال، في الممكنات محال. وإذا نهض أهل المشرق لملافاة ما فات، والنظر فيما هو آت، وانتهجوا سبيل الأناة والتعقل، وكان لهم من القادة ما كان لإخوانهم اليابانيين فليس من المحال حصولهم على مدنية فاضلة تضاهي مدنية المغرب لهذا العهد. ولنا بهذا الصدد كلام آخر نرجئه لفرصة أخرى إن شاء الله.

2-انحطاط المشرق بانحطاط الأخلاق :

بسطنا الكلام في فصل سابق عن انحطاط المشرق وأبنا ثمة أن سببه انحطاط الأخلاق وعراقة الشرقيين في الحضارة وبلوغهم منها غاية قضت بتمكن الضعف منهم منذ زمان مديد ووعدنا بالعود إلى هذا البحث وإتمام الكلام عليه ووفاءً بالوعد نقول:

أشرنا في ذلك الفصل إلى أن الأخلاق السافلة التي تقضي بانحطاط الأمم وضعفها كثيرة وأن ما نراه منها مظنة انحطاط المشرق وأهله لا ينحصر بالملاذ البدنية بل هو أعم من ذلك وأن عامة الأخلاق الفاضلة في المشرق قد تطرق إليها الضعف فأضعف قوى الشرقيين ونفوسهم عن النهوض مع الناهضين والتسابق مع السابقين من أمم المغرب والخطر من هذا على المشرق عظيم يتهدد أهله بناموس الانتخاب الطبيعي القاضي ببقاء الأنسب. وحسبك دليلاً على ذلك هذا السكون المطلق الذي يخيم بسحبه المظلمة على آفاق المشرق بينا المغرب في حركة مستمرة يخترق صداها حجب الفضاء وتهتز لها جوانب الغبراء. فلو هبط الآن على الأرض هابط من عالم النجوم لخيل له أن المشرق وأهله عالم آخر لا اتصال له بالمغرب لما بينهما من التباين الذي يكاد يكون مستحيلاً في نظر العقل في عصر وصلت فيه الكهربائية والبخار بين جوانب الأرض وأصبح فيه العلم مشاعاً بين الأمم لا يقصر عنه نظر المتطاول. ولا يد المتناول. وما هذا التباين إلا أثر من آثار الأخلاق في رقيها وتدليها والإنسان إنما دعي إنساناً مميزاً بنفسه لا بجثمانه فالنفس هي التي تعلو بهذا الإنسان الضعيف حتى تبلغ به عنان السماء وتهبط به إلى الحضيض حتى يلتصق خده بأديم الأرض.

فكل ما في المشرق من وهن في العزائم. وفتور في الهمم. وإخلاد إلى السكون. وعجز عن النهوض. وتخاذل يفرق المجتمعات. ويأكل القوميات. ونفور من العمل. واسترسال في الجهل والخمول. ورضا بالضيم واستسلام للفاتحين والمستعبدين من الغربيين.

إنما هو نتيجة ضعف في النفوس تأصل فيها بضعف الأخلاق ويوشك أن يرجع بهذه النفوس البشرية إلى الجبلة البهيمية لو لم يقابله حكم هو أقرب لسنن الوجود وأشد أنحاءً على الشرقيين ألا وهو: فناء الضعيف في وجود القوي. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا.

إذن فداء المشرق كما تبين لك عضال ومرضه خطر قتال. وهو فساد الأخلاق وضعف

ملكات العلم بلوازم الحياة. ولابد لتقويم الأخلاق من حسن المعالجة بمزاولة التربية الصحيحة وإحياء موات النفوس بالفضائل التي يرشد إليها العلم. والوصول إلى ذلك إنما يكون بأحد أمرين: إما بالشعوب أو بالحكومات: وفي كلا الحالتين فإن نهوض المشرق وقصد أهله هذا القصد يتوقف على وجود قادة في أممه وشعوبه يحسنون بهم السير ويأخذون بهم إلى سبيل الرشاد. على أنا نرى أن وجود القادة من زعماء الإصلاح الاجتماعي في المشرق لا يوصل إلى منتهى الغرض إلا إذا وجد أولئك القادة عضداً من الحكومات وناصراً من زعماء الرياسة والسياسة الذين أصبح في أيديهم قياد الأمم الشرقية. ذلك لما ثبت لنا من تناهي ضعف النفوس في المشرق وفقدها الشعور بالحاجة إلى الإصلاح النفسي والتربية العقلية.

ولنضرب لك مثلاً على ذلك بمن قاموا من قادة الأفكار في المشرق في عصر واحد وهو عصرنا هذا فقد سعى المركيز ايتو الياباني لإنهاض قومه في أقصى الشرق فأنجح سعيه ونهض باليابانيين إلى أفق السعادة لما أخذ بيده إمبراطور اليابان كما هو معروف. وسعى غيره كثيرون في أدنى الشرق فأخفق سعيهم لما لم يجدوا من زعماء الرياسة على الشعوب من يأخذ بأيديهم ويعضد سعيهم. ذلك لأن شعوب المشرق كما قدمنا قد مرنوا على الخمول لما تأصل فيهم من مرض الضعف وفساد الأخلاق الفاضلة التي تنهض بالنفوس إلى ذرى الاستقلال الذاتي فأصبحوا اتكاليين لا يسعون إلى عمل نافع إلا إذا سيقوا إليه سوقاً. واقتدوا برؤسائهم إذا كانوا لهم عوناً يضاف إلى هذا غرور الشرقيين ببقايا مدنيتهم الدارسة غروراً يقعد بالهمم عن تطلب غايات الكمال على أن إخفاق المخفقين إنما كان في الحصول على الثمرة العاجلة التي جناها ايتو اليابان وأما الآجلة فلم يكونوا يائسين من نيلها إذا ثابر الخلف من محبي خير الشعوب ومصلحي النفوس والمخلصين في النية والعمل لأقوامهم على إرشاد أمم الشرق إلى سبيل النجاة واستنهاض همم ذوي المروآت من زعماء الحكومات الشرقية إلى بسط جناح الرحمة على الرعية ومعونتها في القيام على أصول العلم النافع وتلمس وجوه الخلاص من براثن الفناء الذي يتهدد أمم المشرق في كل آن ولا يعدم المشرق أفذاذاً من المصلحين في كل عصر توافق دعوتهم من بعض الزعماء آذاناً واعية وقلوباً رقيقة ونفوساً سامية نقية من شوائب الفساد تنطبع عليها صورة الخير وتنزع

إلى النهوض بالشعوب الشرقية من وهدة الذل والخمود.

ورب معترض يقول أن نهوض زعماء الحكومات بالأمم أمر غير متوقع الحصول لاسيما في المشرق ومادام الشرقيون قد بلغوا من الضعف ذلك المبلغ فأحر بزعمائهم أن يكونوا كذلك فالأولى أن تحث الأمم على النهوض بنفسها وترك الاعتماد على حكوماتها فالجواب عن هذا أن ذاك الاعتراض وجيه لا يقبل النقض بل هو القاعدة الأساسية في حياة الأمم لكن ذلك يجوز على أهل المغرب وأما أهل المشرق فقد أقعدهم عن العمل بهذه القاعدة طول عهدهم بالجمود والخمول الناشئين عن الإغراق في الحضارة كما قدمنا وتماديهم أجيالاً كثيرة في الاعتقاد بألوهية زعمائهم وما يتبعها من تسليم النفوس إليهم والتعويل في كل الشؤون عليهم وهي عقيدة وإن محتها الشرائع الإلهية من أكثر أرجاء المشرق إلا أن إدمان الأمم عليها غادر في نفوس الشرقيين من آثارها القبيحة اعتماد الشرقيين على حكوماتهم في كل شأن من شؤونهم العامة.

وهل تظن أيها القارئ أن الأمة اليابانية كانت تتجول عن مثل هذا الاعتقاد بميكادها (إمبراطورها) لو لم يتنازل هو نفسه عن ألوهيته بمحض إرادته وحب الخير لأمته ويفهم شعبه أنه بشر مثلهم لا قوة له ولا حول إلا بهم ولاحظ لهم سعادة الحياة ومسابقة الأمم إلا بجدهم وهل تظن الصينيين يبلغون من الرقي مبلغ اليابانيين إذا لم يفهمهم إمبراطورهم ابن السماء أنه ابن الأرض ويهدم مختاراً ذلك السور الهائل القائم بينه وبين أمته فيقودهم إلى الطريقة التي سلكها ميكادو اليابان بقومه ورفع لهم فيها بنيان الفضيلة والعلم بإخلاصه وعلو نفسه. وبالإجمال فالشرق يحتاج في نهوضه إلى حكوماته إذا أريد التعجيل في الحصول على الثمرة المبتغاة من دعوة المصلحين في كل قبيل منه وعند تعذر الحصول على هذه الثمرة يعدل فيه إلى الرأي الآخر ولابد في هذه الحال من قيام طائفة من كل قوم على تربية النفوس وبيان الفضائل التي تسمو بها النفس إلى أفقها الأعلى حق البيان والله بحسن العاقبة كفيل.

3-اقتراح على السادة العلماء في تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء :

ما أصيب الإسلام بآفة كآفة الخطباء، وما أضر بالمسلمين كوعاظهم الجهلاء

الذين كانوا ولم يزالوا - سببًا لحيرة العقول في أدواء هذه الأمة، وهم مصدر البلاء

وسبب الشقاء بما يتلونه على مسامع العامة من السجعات المقلوبة والأحاديث

المكذوبة الداعية إلى استدراج العامة في الشرور اعتمادًا منهم على ما يسمعونه من

أولئك الوعاظ والخطباء من الأكاذيب المضلة كقولهم: من قرأ كذا فله من الثواب

كذا وكذا، ومن صام اليوم الفلاني مثلاً فله من الحسنات كذا، ومن فعل كذا غفر

الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، فانتزعوا بهذا (الإطلاق المجمل) وأشباهه باعث

الرهبة من أعماق القلوب ونزعوا وازع الضمير من نفوس العامة، فبات أحدهم يقدم

على جريرة الكذب والتزوير أو السرقة أو الفحش ونحو هذا في الظهر ثقة بما

سيناله من الثواب والغفران بتلاوة بعض كلمات في العصر، فينام ليله مطمئن القلب

إلى الثواب غير مرتاع الفؤاد من سوء المآب، وهذا ما أوصل الأمة إلى ما نراها

فيه من فساد الأخلاق والضمائر، واجتراح الآثام والجرائر حتى كادت تكون أحط

الأمم في الأخلاق وأبعدها عن مراعاة حاكم الضمير , بما فشا في كثير من طبقاتها

من القول الزور والكذب وعدم المبالاة بأكبر الكبائر بعد أن كانت أعلى الأمم

وأعرقها في طيب الأخلاق، وأدناها من الانقياد لحكم الضمير ومراقبة الله العزيز

القدير في سائر الأعمال وكل الأحوال، ولعمري لو قيل للناس: إن القانون

السلطاني يرتب على السارق جزاء كذا وكذا مدة في الحبس، لكن من تقرب إلى

السلطان بهدية لطيفة أو تزلف إليه بدعاء بسيط يدعو به له بين يديه يعفو عنه

ويغتفر له جريمته - لأصبح الناس الناس كلهم لصوصًا.

فحتامَ يترك هذا الحبل على الغارب، ومتى نستيقظ لما فعلته في النفوس سموم

الخطباء والوعاظ وأوضاع الوضّاع وفتن المبتدعين، فقد - والله - تكاد تنفطر من

عقلاء هذه الأمة القلوب وتتصاعد أرواحهم مع الأنفاس؛ لما يرونه من آثار هذه

البدع التي عَفَتْ دونها آثار الإسلام، وتلاشت قوى الصادعين بالحق.

ولم يكفِ أولئك الأغرار المضلين هذا الوهن الذي يدخلونه بأمثال تلك المواعظ

والخطب على النفوس حتى زادوا في طين البلاء بلة بما يبدأون به العامة عند كل

دعاء لهم ويتلونه عليهم في رأس كل خطبة من الحث على الزهد وترك الاهتمام

بأمر الدنيا بجمل مسجعة لا تفيد معنى الزهد الحقيقي المنصوص عليه في الشريعة

الغرّاء , بل تفيد التحاق الإنسان بالبهيمة العجماء، وقد فات أولئك الأغرار أن الله

سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان وميزه بالعقل والإرادة على سائر الحيوان وجعله

خليفة في الأرض بما منحه من حق السلطان المطلق على هذا الوجود الحسي، فقال

تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ

لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 12-13) لم يكن يريد به ما يريده له أولئك

الوضَّاع والخطباء وأصدقاء الإسلام الجهلاء من التجرد عن كل عمل دنيوي والقعود

عن السعي والانقطاع للعبادة للالتحاق بعالم الملائكة الأبرار، ولو أراد الله به هذا

لخلقه معهم وكفاه مؤنة جهاد الطبيعة والعمل لحفظ الحياة فلا يلبس ولا يأكل ولا

يشرب ولا يشقى ولا يتعب، ولكن قضت إرادة الله في خلق هذه العوالم وترتيبها

على نمطها البديع أن يكون كل عالم منها ذا حياة خاصة وحيز مخصوص وعمل

محدود ووظائف خاصة، فللملائكة من هذه الخصوصيات غير ما للإنسان،

وللإنسان غير ما للحيوان، ولهذا غير ما للجماد وهكذا سائر العوالم، وإذا تتبعنا

نصوص الكتاب الكريم واستقرينا أحوال المخلوقات نجد أن الله سبحانه وتعالى ميز

الإنسان عن سائر مخلوقاته بما وهبه من المواهب التي لم يهبها لسواه، فقال تعالى:

{خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: 3-4) وقال تعالى: {عَلَّمَ

الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) ? وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ

تَقْوِيمٍ} (التين: 4) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) وقال

تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) فإذا كان الله سبحانه وتعالى

وهب الإنسان كل هذه المواهب الدالة على تكليفه بالعمل بما يقتضيه وجودها فيه،

ثم جعله خليفة في الأرض، وأشار إلى أنه أوجده فيها ليعمرها فقال تعالى:

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) وذلك لتكون مناط الأمل في الاعتياش بالعمل

فيها والضرب في أكنافها كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ

النُّشُورُ} (الملك: 15) وكما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ

الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الجاثية: 12) وكما قال

تعالى: {ألَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) فهل في

طاقة البشر الانسلاخ عن هذه المواهب والصفات الإنسانية والتخلف عن تلك السنن

الإلهية زهدًا في الدنيا وتعطيلاً لوظائف الحياة البشرية؟ وإذا كان في طاقتهم تعطيل

هذه الوظائف وعطلوها، أفلا يكون ذلك كفرًا منهم بنعم الخالق تعالى التي أنعم

عليهم بها وخصهم بمواهبها؟ بلى وأبيك ذلك هو الكفران المبين، ولكن أكثرهم لا

يعلمون.

نعم قد ذم الله تعالى الغرور بالدنيا والطمع فيها والإكثار من المال أو التكاثر به ,

وما جاء من النصوص في الكتاب والسنة من هذا القبيل إنما جاء لا لأجل تزهيد

المسلمين في الدنيا وتركهم الاهتمام بشؤون الرزق والسعي في مناكب الأرض، بل

جاء لأمرين: الأول تنبيه المسلمين إلى أن العمل في الدنيا لا ينبغي أن يشغل

المؤمن عن طاعة الله وأداء ما أوجبه من العبادة عليه، والأمر الثاني تنبيه فئة

مخصوصة من الناس وهي فئة الأغنياء وذوي السلطة إلى أن متاع الدنيا أحقر

وأدنى مما أُعد للمؤمنين الصالحين في الآخرة، وأن الأمر الأول يزول ويفنى،

والثاني يدوم ويبقى ترغيبًا لهم في إنفاق المال في وجوه البر ومواساة مَن دونهم من

الناس حتى لا يكثروا من المال ويجعلوه دُولة بينهم يتكاثرون به ويتداولونه دون

الفقراء، فتقف حركة الأعمال بوقوف حركة المال، وفقده من أيدي الكثير من الناس،

فحكمة الشارع في هذا أجلّ وأعظم مما يذهب إليه فريق الوضّاع والكذابين في أمر

الزهد، وما يخاطبون به العامة ويبثونه في عقولهم من فاسد الاعتقاد المثبط للهمم

القاتل لقوة النشاط والعمل الجالب للبلادة والكسل، لهذا كان من الظلم الفاحش

والجهل العظيم مخاطبة أولئك الخطباء عامة الناس بالزهد في الدنيا والتزهيد بالعمل

الذي هو وسيلة الكسب ومناط الارتزاق، وإنما يجوز مخاطبة العلية من الناس

والأغنياء منهم بهذا - أولاً - لما فيه من الترغيب بمواساة الفقراء، والتحذير من

عاقبة الانهماك بالمال والاشتغال به عن أداء الطاعة، وثانيًا لأن الزهد إنما يكون

بشيء موجود لا بشيء مفقود، فالغني إذا زهد فإنما يزهد بدنيا مقبلة عليه فيواسي

بماله مَن هُم في دنيا مدبرة عنهم؛ فينال الثواب ويأمن من العقاب، وأما الفقير

فزهده ليس فيه شيء من ذلك بل فيه مضرة عليه فيحرم عليه قطعًا؛ لأن الفقير المعدم

زاهد بالضرورة لقلة ما بين يديه، فإذا زهّد بلسان الشرع ازداد يقينًا بفضل

الزهد والراحة من عناء الكد بالانقطاع إلى العبادة (اللهم إذا كان يعرف شيئًا منها)

فتنعدم منه الرغبة بالعمل، وينطبع على البلادة والكسل، فينقلب الزهد والعبادة وبالاً

عليه وظلمًا لم يعول من الأهل والولد عليه، وهو لا يعلم أن السعي في إعالة من

يعول ولو نفسه وحده هو أفضل عند الله ورسوله من الانقطاع للعبادة باتفاق

النصوص وإجماع هداة الأمة من علمائها الأعلام.

الزهد من شعار الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومع ما كان معروفًا به

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا بحذافيرها، فقد كان من صحابته

الكرام الغني ذو الثروة والجاه كطلحة والزبير والتاجر المشتغل كعثمان رضي الله

تعالى عنهم أجمعين، فلم يأمرهم بترك الدنيا والانقطاع للآخرة، بل أمرهم بالرفق

في الطلب وإلا لكان الصحابة كلهم عبادًا بالجوامع والصوامع، ومعاذ الله أن يكونوا

كذلك، والإسلام دين العمل للدنيا والآخرة، ودين الجد والنشاط لا دين الرهبانية

والزهد، وإنما تبع قدم الرسول في أمر الزهد أفراد منهم مثل عمر بن الخطاب

رضي الله تعالى عنه، ومع هذا فقد كان يقول: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق

ويقول: اللهم ارزقني , فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فإذا كان مثل

عمر بن الخطاب على ورعه وزهده يخاطب الناس بمثل هذا الخطاب وهو في

عصر النبوة وأدرى بمن يخاطب ولماذا يخاطب، فليت شعري كيف يجرؤ خطباء

السوء في هذا العصر على مخاطبة العامة بالزهد والتزهيد في الكسب ونحن في

عصر أصبح فيه السابقون هم الفائزون، وفي زمن من نام فيه فقد مات.

أفلم يأنِ لعلماء المسلمين الأعلام وفضلائهم الكرام ذوي العقول والأفهام الاقتداء

بمثل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حث الناس على العمل والسعي،

ونهي خطباء السوء عن التشدق على المنابر بما لا يزيد المسلمين في هذا العصر إلا

خبالاً، نعم قد آن والله أوان نهوض العلماء إلى تلافي خطب الخطباء ونزع وظيفة

الخطابة والوعظ من الجهلاء ووضعها في أناس جمعوا بين المنقول الصحيح

والمعقول الصريح، وعرفوا حاجات الزمان، ووقفوا على أدواء الأمة , وإن لم يتيسر

هذا فتنقيح كتب الوعظ ودواوين الخطب المحشوة بالكذب على الله والرسول

الموضوعة على نمط روعي فيه السجع أكثر من مراعاة الشرع، وامتزج بالخيالات

والأوهام أكثر مما أبان من مقاصد الإسلام.

يحسدنا الأمم والشعوب على مشروعية الخطابة في الإسلام، ويعجبون من أمة

تتلى على منابرها في كل جمعة آلاف من الخطب في سائر أنحاء الديار الإسلامية،

وهي لا تنتفع بها فتخطو خطوة إلى الأمام، وإذا تيسر لفرد من أفراد أي أمة من

تلك الأمم والشعوب أن ينتهز في العمر فرصة يخطب فيها خطبة على جمهور من

الناس في محفل من المحافل يرن صداها في الآفاق، وربما أحدثت في الأفكار ما لا

تحدثه الجيوش الفاتحة في الأمصار , ويتساءلون: هل علت مشروعية الخطابة في

الإسلام عن أفهام المسلمين؟ أم هم تدنوا عن مقامها العلي المتين؟ وحقهم أن

تساءلوا فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ

4-هذا أوان العبر.. فهل نحن أحياء فنعتبر :

إن كل ما يحيط بنا من أحوال الأمم، وأعمال البشر وآثار العقول، وثمار

العلم والعدل، ونتائج الجهل، وفضائح الظلم آيات للعبر، وبينات لا تحتاج في

الحكم إلى كثير نظر، يلمسها الأعمى بيده، ويراها البصير حتى في نفسه وبيته

وبلده وجواره، فالمرء في هذا العصر حيثما كان وأنَّى التفت وأينما اتجه؛ يرى

من آثار العبر ما يتعظ به العاقل، ويتنبه الغافل، أفليس من العجب أن يكون

المسلمون فاقدي الشعور بهذا المحيط غافلين عن تلك العبر يتعسفون في أخريات

الأمم، تعسف الخابط في ظلام الجهالة مع وضوح الطريق ووفور أسباب السلامة

والاهتداء.

ربما كان يقوم لهم العذر يوم؛ إذ كانت الأرض متنائية الأطراف متباعدة

الأقطار، تنشأ في قطر منها دولة وتدول أخرى، فلا يسمع أهل قطر آخر بما كان

فيه وما صار إليه إلا بما ينقله السفار بعد سنين عاريًا عن الحقيقة بعيدًا عن وجوه

العبر، فما عذرهم في هذا العصر؟ وقد تضامت أطراف الأرض بقوة البخار،

واتصلت أقطارها بعضها ببعض، بأسلاك البرق، وارتبط سكانها بروابط التعاون

والاتجار؛ فاختلطوا اختلاط الأمة الواحدة على بسيط واحد، وتعرف أهل كل قطر

أحوال القطر الآخر تعرف الجار بأمور جاره، فصار ما يحدث في أقصى الشرق في

الصباح يعلمه أهل المغرب في المساء، فَغَدَا المسلمون يلمسون آثار الأمم الأخرى

لمسًا، ويسمعون أخبارها يومًا فيومًا، وتساق إليهم العِبَر كل يوم سوقًا، ويرى كل

فرد منهم نتائج ترقي الأمم بعينه، ويشاهد آثارها حتى في مَلْبسه ومَأْكله ومَسْكنه،

ومع هذا فكأنما هم في واد والعالم في واد , يرتقي غيرهم وينزلون، ويصعد سواهم

ويتدلون، فما علة هذا الخمود الشامل وإلى أية غاية هم صائرون.

أخذت الأمم أسباب العلم النافع، وشيدت صروح المدنية الحاضرة؛ فعظم

شأنُها، وتضاعفت قوتها، فانكفأت دولها على أرجاء الأرض تدوخ الممالك،

وتستأثر بالسيادة على الأرض إلا هذا الفريق العظيم من البشر وهم المسلمون فإنهم

أصبحوا طُعْمَة كل جائع، ومطمع كل طامع، تمزق ممالكهم الدول المسيحية،

وتستعبدهم الأمم الغربية، فلا تأخذهم نعرة الوطن ولا الدين ولا الجنس، ولا تنهض

بدولهم الغَيْرَة ولو على سيادتهم المطلقة في استعباد المسلمين، فالحاكم منهم والمحكوم

شقي مهضوم، والأمة كالفرد موجود في حكم المعدوم.

كل من أطلق عنان النظر على سكان الأرض يرى أن تنازع البقاء بين الأمم

قائمة حربه الآن بين أقسامهم الثلاثة الكبرى الذين إليهم ينتهي السلطان على أرجاء

الأرض وهم: المسلمون والمسيحيون والوثنيون - أتباع كونفوشيوس وبوذه -،

وقد كانت الدول المسيحية منذ تسلحت بسلاح العلم الجديد، وآنست من نفسها القدرة

على مكافحة دول الأرض، واندفعت للفتح والاستعمار لا ترى لها خصمًا قويًّا جبارًا

ينازعها الملك في أفريقيا وآسيا منازعة القرن للقرن، إلا المسلمين ولم تكن تحفل

بذلك القسم الآخر من الاثنين بل كانت تظنّ أن زلزال الساعة العظيم إنما يكون يوم

تخوض جيوشها عُبَاب الممالك الإسلامية، وتخطو أول خطوة لمناوأة دول الإسلام

فيصدها الإحجام تارة، ويسوقها الإقدام أخرى، حتى إذا مزقت حجاب الرهبة،

ومضت في وجهتها الاستعمارية بالخُدْعة تارة، والحرب أخرى انكشف لها من حال

المسلمين وضعف دولهم ما أزال ارتيابها من جهة ذلك الخصم الموهوم، ووطدت

عزيمتها على إتمام الرغبة، وإنجاح الطلبة، فبثت جنود العلم والقوة في أنحاء آسيا

وأفريقيا , ورفعتا أعلام الفتح على أكثر ممالك الإسلام.

وصرفت تلك الدول عن الأذهان ذلك الوهم الذي كان سائدًا على ساستها من

جهة قوة المسلمين الذين نازعتهم الملك في كل بقعة من آسيا وأفريقيا فغلبتهم عليه ,

وإنما منعهن عن الإجهاز على البقية الباقية منهم تنازعهن على كيفية اقتسامها. ولم

يخطر لساسة تلك الدول يوم كانت ترهب جانب المسلمين أن الفريق الثالث الذي

ينتهي إليه السلطان أيضًا على قسم عظيم من الأرض، وهم أتباع كونفوشيوس وبوذه

أعظم خطرًا على الدول المسيحية من المسلمين وأشد لَدَادَة وخِصَامًا في موقف

النضال عن الحوزة والتنازع على الملك والسلطان، حتى قامت في هذه الآونة دولة

اليابان تناهض أعظم الدول المسيحية قوة وأضخمهن ملكًا وسطوة , وتدافعها عن

حوزة الملك الموروث للجنس الأصفر منذ دحا الله الأرض، وجعل الصين على

رأي البوذيين منبت الإنسان ومهبط آدم أبي البشر، فأدهش تلك الدول ما أدهشها

من قوة العلم والمدنية التي تذرعت بها دولة اليابان لمزاحمة الدول المسيحية،

وصد غاراتها المتوالية على الممالك الشرقية على حداثة عهدها في قبول المدنية

الجديدة بجميع فنونها النافعة.

إذا تقرر هذا؛ عَلِمْنَا أن المسلمين أصبحوا في معمعان هذا التنازع العام

مغلوبين على أمرهم دون غيرهم , وأن الأمم المسيحية والوثنية كادت تنفرد بالسيادة

على الأرض؛ لأن المدنية الحاضرة أصبحت بعلومها ومخترعاتها ملاك قوة الأمم،

ومادة حياة الدول، وليس للمسلمين حظ منها، ولا لأمرائهم نزوع إلى الأخذ بأسبابها،

ولا لدولهم رغبة ما في مجاراة أربابها. وحسبك شاهدًا لا يماري فيه العقل، ولا

يكذبه الحس ما صارت إليه الممالك الإسلامية المحكومة بدول إسلامية من التقهقر في

العمران، والتدلي في العلم والصناعة , والضعف في القوة، والجبن في السياسة.

5-الانقلاب الميمون وأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور

وكتب الأستاذ رفيق العظم (استدراك على المنار) بدأه بقوله :

(( صديقي الأستاذ الحكيم :

نشرتم في العدد الماضي رسالة الفاضل مولوي إنشاء الله ورسالة جريدة

أبزرور الهندية في الانقلاب العثماني، وفيها ما يدل على أن نبأ خلع السلطان عبد

الحميد أثر تأثيرًا سيئًا في الأقطار النائية الإسلامية، وأنهم يرون أنه قد افْتِيتَ عليه

بالخلع؛ لما له من المآثر الكثيرة في الدولة، وقد عدد الكاتب تلك المآثر الموهومة

وعقبتم عليها برأيكم في الخلع، وتفنيدكم لأقوال الكاتب، وبسطتم الكلام بسطًا وافيًا؛

إلا أنه يمكن أن يستدرك عليكم في الأدلة على بيان خطأ الكاتب في الدعاوى التي

استخلصتموها من مقاله، ورددتم عليها، فرأيت أن أكون متممًا لمقالكم مع زيادة في

الإيضاح؛ إقناعًا لإخواننا مسلمي الهند ومن حذا حذوهم في الاعتقاد الحسن

بالسلطان عبد الحميد، فأقول:

إن النقط الست الأولى التي تتعلق بسيرة عبد الحميد بعد الدستور، لا أريد أن

أكتب على كل نقطة منها بمفردها زيادة عما كتبه المنار الأغر، بل أقول فيها كلها

كلمة إجمالية، وأكتب على النقط الأخرى التي تتعلق بحياته بعد الدستور، كل نقطة

بمفردها.

أما كلمتي الإجمالية: فهي أن السلطان عبد الحميد لم يكن يومًا قط مخلصًا

للدستور، والدليل على ذلك أنه أعطاه مكرها، كما ذكر ذلك المنار الأغر، ومن

طالع كتاب خواطر نيازي يتضح له ذلك، وأنه لم يأل وحواشيه جهدًا في غضون

الحركة الأولى في استنباط الوسائل التي تفت في عضد الأحرار في سلانيك؛ لما

طالبوه بإعادة القانون الأساسي وهددوه بسوق الجيش إلى الآستانة، فأصر على

رفض طلبهم ومقاتلتهم بقوة جنود الأناضول، وفعلاً استدعى عدة توابير من رديف

أزمير وأمر بسفرهم إلى سلانيك، وقبل أن تتحرك هذه الجنود من أزمير، اطلعت

على كتاب ورد لبعضهم من صديق له ثمة يقول له فيه: إني أسافر متطوعًا مع

جنود أزمير إلى سلانيك لا لقتال الجيش المطالب بالحرية بل للانضمام إليه مع

جنود أزمير والتوجه إلى الآستانة؛ لإكراه ذلك الجبارعلى رد حرية الأمة التي

سلبها إياها، والضباط هنا في منتهى التحمس للوصول إلى هذه الغاية، فليطمئن

بال الأحرار في مصر، فاستودعكم الله، ولا أدري هل أراكم بعد اليوم أم لا.

ولما وطئت أقدام الجنود أرض سلانيك، أعلن الضباط في الحال انضمامهم

بجنودهم إلى جيش الحرية، وانعكس هذا الخبر بالسلك البرقي إلى الآستانة، فسقط

في يد السلطان وأعوانه، وكانوا طلبوا جنودًا أخرى من جهات الأناضول، فأوقف

سفرها ناظر الحربية، وأقنع السلطان بلزوم العدول عن هذا الرأي؛ لما فيه من

الخطر، فلم يسعه بعد ذلك إلا التسليم بمطالب جيش الحرية؛ ليتسع له الوقت في

التفكير والتدبير خصوصًا في تفريق وحدة الجيش المتواطئ على نصرة الدستور.

أخذ بعد ذلك في تدبير المكايد، فبث جواسيسه وأتباعه بين الجنود المعسكرة

في الآستانة، يغرونهم بالمال، وألف بواسطة درويش وحدتي جمعية الاتحاد

المحمدي، وأعطاها هو وأعوانه هذا الاسم الشريف؛ ليكون آلة للتمويه على

البسطاء والتغرير بهم باسم الدين؛ اذ ليس في الأمة فرد واحد ينتقد على الحكومة

الدستورية مادامت قائمة باسم العدالة والمساواة، فلا يستطيع السلطان وأعوانه

تحريض الجنود على الأحرار الدستورين، لمطلق أنهم أعوان الدستور؛ لذلك

جاءوهم من جهة الوتر الحساس فيهم، فجسوه باسم الدين وحرضوهم على المطالبة

بأحكام الشرع، والشرع في عرف العامة هو السلطان، والسلطان هو الشرع؛ لأنه

الآمر المطلق المطاع، فالنتيجة بالضرورة هي محو الدستور، ومحو كل من يقول

به في تركيا، وإعادة السلطة الاستبدادية إلى السلطان.

ثبت ذلك بالبينات القاطعة والأدلة المحسوسة، وهي النقود الكثيرة التي

وجدت مع الجنود الثائرة، ثم التقارير السرية التي وجدت في يلدز من جواسيس

السلطان وأعوانه، وفيها بيان عن نجاح الخطة الموضوعة لإثارة خواطر الجنود؛

كتقارير علي كمال بك وطيار بك وغيرهما التي نشرتها جرائد الآستانة بالحرف

ونشرت مجلة (ثروت فتون) ، بعضها مصورة بالفوتوغراف إثباتًا للحقيقة وقطعًا

للشبه، ثم ثبت ذلك بإقرار كثير من أعوان السلطان وحواشيه المقبوض عليهم؛

كجوهر أغا وحقي بك ويوسف سكه زان باشا الذي قبض عليه وهو يحمل نقودًا

تبلغ الأربعين ألف جنيه، فأقر أنه كان يريد أن يغري بها جنود الفيلق الثالث،

وغير هؤلاء كثيرون ممن أقروا بتدبير هذه المكيدة، أو ثبت عليهم الاشتراك فيها

بالأوراق التي وجدت معهم، وأهم من ذلك إقرار درويش وحدتي صاحب جريدة

(وولقان) ومؤسس جمعية الاتحاد المحمدي، فإنه أقر لمخبر جريدة (اعتدال)

الأزميرية لما قبض عليه هناك من عهد قريب؛ إذ قال له: إن السلطان هو الذي

دبر هذه المكايد، وإن لديه أسرارًا كثيرة سيذكرها في المجلس العسكري.

وزد على هذا ما ظهر من اتساع نطاق هذه المؤامرة بواسطة أشياع السلطان

وأتباع صاحب جريدة (وولقان) بحيث كان المراد بها تحريض المسلمين في كل

الولايات على فتك بعضهم ببعض؛ ليستوجب ذلك تداخل أوروبا، واقتناعها بعدم

استعداد الأمة العثمانية للحكم الدستوري. بدأت هذه الحركة المشؤومة في ولاية أدنة

وأطراف ولاية حلب، ثم ظهرت في أرضروم بين الجنود، وظهرت في ديار بكر

فأطفئت في الحال، ولم يقف دون شبوب هذه النار في كل الولايات العثمانية إلا

سرعة حركة جيش الحرية ودخوله الآستانة، ثم مبادرته إلى خلع السلطان عبد

الحميد. ولو نجحت هذه المؤامرة الخبيثة، لما بقي في تركيا حجر قائم على حجر،

ولدمرها السلطان كما دمرت مدينة أدنة التي أصبحت أطلالاً بالية، ولو أردنا أن

نأتي على تفصيل هذه الحوادث لاحتجنا إلى مجلد من المنار، فهل يقال بعد هذا:

إن السلطان عبد الحميد كان مخلصًا للدستور، وإنه أعطاه برضاه؟ وهل وجد في

تاريخ العالم ملك تنزع من صدره الرحمة، وينزل بالنفس الأمارة بالسوء إلى هذا

الحد من حب الانتقام لنفسه، ولو بتخريب المملكة التي تأسست على دماء مئات

الألوف من المسلمين، ثم يلصق مثل هذه الجناية بالإسلام وشرائعه الطاهرة؛ إذ

يثير مثل هذه الفتنة باسم الدين الإسلامي، وتحت ستار الشريعة؟

إنا نعتقد أن إخواننا المسلمين في الهند وغيرها أرفع عقولاً، وأبعد عن

التصديق بكل ما كان يقال في جرائد المنافقين عن مزايا السلطان التي تكاد تماثل

مزايا آلهة اليونان الواردة في أساطير القوم، وأنه كان من أنصار الدستور، مع أنه

هو الذي قتل واضعي الدستور مدحت باشا وإخوانه، وعطل القانون الأساسي مدة

ثلاث وثلاثين سنة، قتل في غضونها ألوفًا من شبان الأمة المائلين إلى الحرية،

منهم من ماتوا في السجون، ومنهم من ماتوا في المنفى؛ لكثرة ما عانوه من شظف

العيش، ومنهم من ماتوا إغراقًا في البحار، وآخر من كادوا يموتون تعذيبًا في

السجن من أولئك الأحرار صديقنا الحر الغيور حسين بك طوسون، وطائفة من أهل

أرضروم وفيهم مفتيها الذي مات في السجن شهيد الحرية والإنسانية. وجريمتهم أن

حسين بك طوسون الذي قضى أكثر أيام حياته بعيدًا عن وطنه مجاهدًا في سبيل

الحرية، ذهب بصفة خفية إلى أرضروم، وبث في طائفة من أفاضل أهلها فكرة

المطالبة بالقانون الأساسي والتخلص من الاستبداد، فأجابوا نداء الضمير والحقيقة،

وقاموا بالحركة الدستورية التي كانت في أرضروم منذ سنتين، فقضي عليهم جميعًا

وجيء بهم إلى الآستانة فزج بهم في سجونها، ولولا قيام جيش الحرية في

سلانيك، وإعلان الدستور، لماتوا في التعذيب عن آخرهم، كما مات من قبلهم.

وكذلك كان مع الشاب المهذب المرحوم محمود فائز أفندي الذي كان

يحرر جريدتنا (الشورى العثمانية) ، وسافر إلى أزمير قبل إعلان الدستور بستة

أشهر مضحيًا حياته في سبيل الحرية، فقبض عليه وعلى عدد غير قليل من أفاضل

أهل أزمير، وزج بهم في السجون، ولاقوا من أنواع العذاب ما لا يوصف، وبعد

هؤلاء الخمسة والعشرون الضباط الذين جيء بهم من سلانيك وسجنوا في الآستانة

قبل إعلان القانون الأساسي ببضعة عشر يومًا.

كل هؤلاء كانوا عرضة للموت في السجون كما مات من قبلهم، لولا أن

تداركهم الله بقيام الجمعية في سلانيك، وظهور قوتها المتحدة بقوة الجيش،

وإرغامها السلطان عبد الحميد على إعلان القانون الأساسي، وخروج هؤلاء

المظلومين من غيابة السجن وأسر التعذيب. هذا ما أردت إضافته على ما كتبه

المنار الأغر؛ ردًّا على القسم الأول من كلام الكاتبين.

(1) وأما القسم الثاني والدعاوى الست التي لخصها المنار الأغر: فالأولى

منها المالية؛ ويكفي أن نضرب له مثلاً أو مثلين على مبلغ خللها وضعفها في عهد

السلطان الماضي؛ إذ وجوه الضعف والخلل مما لا يمكن إحصاؤه في هذه العجالة،

فالمثل الأول أن الحكومة الدستورية وجدت فيما وجدت من الخلل في المالية عدة

ملايين من الجنيهات دينًا على الدولة لجهات متعددة، لم يجدوا لها قيودًا رسميةً

فسموها الديون السائرة، واضطروا أن يعلنوا في الجرائد عنها، وكلفوا كل من في

يده مستند من أصحابها أن يراجع الحكومة في غضون مدة محدودة، وعلى هذا

فقس كل أحوال المالية , وما سبب هذا الخلل فيها إلا استئثار السلطان بواردات

الدولة، مما لا تستطيع حصره نظارة المالية؛ لتناوله لتلك الواردات مباشرةً بغير

واسطتها؛ ولأجل هذه الغاية كان ألّف منذ بضع سنين لجنة في يلدز من حواشيه

سماها اللجنة المالية؛ لمراقبة مالية الدولة في الظاهر وسلبها في الباطن، فكان أول

قاعدة وضعتها تلك اللجنة أن لا يُنفق قرش واحد من خزائن الولايات إلا بعد

استئذانها، حتى مرتبات المأمورين ونفقات الجنود التي هي طبيعية في كل ولاية

داخلة في ميزانيتها الخصوصية، وكان من ذلك أن صارت هذه اللجنة كلما اجتمع

مبلغ من المال في ولاية، تطلب إرساله إليها في الحال، وهذه تضعه تحت أمر

السلطان ينفق ما شاء منه على جواسيسه ومقربيه ومصالح الدولة، ويستأثر لنفسه

بما شاء، حتى تعطلت أمور الولايات الإدارية، وفشت الرشوة في المأمورين؛

لكي يعتاشوا بما يحصل لهم منها من النقود، وحتى صارت الفيالق العسكرية إلى

حالة من الفقر والضعف وفقد الحاجيات العسكرية، لا يمكن أن يصورها كاتب بقلم

ولا يصدقها إلا من شاهدها بعينه من العثمانيين، وإليك مثالاً منها.

لما حدثت مسألة العقبة، وتصدى الإنكليز في مصر إلى التداخل فيها، ورأت

الحكومة العثمانية وجوب إرسال الجنود إلى العقبة، وأوعزت إلى الفيلق الخامس

الذي مركزه دمشق، بإرسال تابورين من المشاة وبطارية مدافع إلى العقبة، لم

يوجد في الفيلق كله عشرون حصانًا لأجل المدافع؛ لأن خيل السواري والطوبجية

الخاصة بالفيلق الخامس انقرضت عن آخرها، ولم يشتر غيرها، فاحتيج للإتيان

بها من الآستانة، وترتب على ذلك تأخير الحملة العسكرية، وعزل والي سورية

ناظم باشا يؤمئذ؛ لأن قائد الفيلق ألقى عليه تبعة الإبطاء؛ لعدم تعجيله بدفع نقود

تكفي لتجهيز خيول هذه الحملة ولوازمها الأخرى، مع أن خزينة الولاية كانت

خالية من النقود.

هذا مثال من الأمثلة المحسوسة التي يحتاج استقصاؤها إلى كتاب ضخم،

يبين ماذا أصاب الدولة من الضنك المالي والاضطراب الإداري في عصر السلطان

الماضي، مع تنوع الضرائب والجبايات وتوالي طلب الإعانات المستحدثة، ومنها

التجهيزات العسكرية التي استمرت تجنى من الأمة عشر سنين أو أزيد، وتحشر

نقودها إلى المابين، ولما أعلن الدستور لم يجدوا لها حسابًا مضبوطًا، ولم يعرفوا

وجوه الإنفاق التي ذهبت فيها تلك الملايين من النقود التي جبيت باسم الجندية،

والجندية كانت في أحط دركات العوز والنقص في المعدات الحربية، كما أثبت ذلك

العيان الذي ليس بعده بيان.

(2) كونه درب الجند على قواعد الحرب الحديثة. فأنا أضيف على ما

كتبه المنار ردًّا على هذا الزعم: أن كل ما صرفه السلطان عبد الحميد من العناية

بأمر الجندية، كان طلاء ظاهره حسن وباطنه قبيح، فقد كان يرسل إلى ألمانيا

بعض الضباط؛ لأجل إتمام تعلم الفنون العسكرية، وقلما ضم إلى الآليات ضابطًا

من هؤلاء عند عودته؛ ليستفيد الجنود من معارفه الجديدة، بل أكثرهم كان يضم

إلى المابين والدوائر العسكرية الأخرى؛ ليكونوا مغلولي الأيدي عن العمل. وكذلك

أتي بضباط ألمانيين كهوبه باشا وغولس باشا وغيرهم؛ لأجل تنظيم الجيش

وتدريبه؛ ولكنه غل أيديهم كما غل أيدي الضباط العثمانيين المتعلمين في ألمانيا،

فمنعهم من كل عمل يترتب عليه حياة الجيش ونظامه الحربي، كما منع عنهم كل

مادة من مواد الترقي؛ من ذلك أنه حظر على الجيش إجراء المناورات الحربية منذ

عشرين سنة، والمناورات الحربية أس النظام العملي في جيوش الأمم، بل زاد في

النكاية فمنع حتى ما يسمونه (ألاي تعليمي) حتى لا يجتمع أربعة توابير في

مكان واحد تحت السلاح ولو كانوا في أقصى المملكة، وحتى أصبح التعليم العملي

مفقودًا ألبتة في الفيالق، وكما منع الجيش من التمرن على الفنون العملية منع عنه

كل المستحدثات الحربية الحديثة: كالتلفون والأتومبيل الحربي والبالون؛ كل هذا

توهمًا منه أن جيشه عدو له، حتى كان الجيش أشبه بآلة معطلة ، وحتى انسل

منه الضباط الألمانيون راجعين إلى بلادهم؛ لما لم يروا ما يمكنهم من ترقية هذا

الجيش المحروم من كل وسائل الترقي الأدبية والمادية.

وأكبر دليل على ذلك، ما بلغه رجال الدولة من الخوف والاضطراب عقب

إعلان الدستور، وقيام النمسا والبلغار على الدولة: الأولى لأجل البوسنة والهرسك،

والثانية لأجل الاستقلال حتى اضطرهم ذلك إلى التعجيل بحل هاتين المشكلتين؛

تفاديًا من الوقوع في الحرب التي كانت خطرًا مؤكدًا على الدولة؛ لضعف الجيش

حتى لقد رأيت كتابًا من أحد المشيرين الكبار، بعث به لصديق له في مصر لأول

عهد الدستور، يقول فيه: نسأل الله أن يمنع عنا غائلة الحرب مع البلغاريين في

هذين الشهرين ريثما نلم شعثنا، وإلا فنحن في خطر كبير إذا وقعت الحرب الآن،

وأخبرني ضابط كبير برتبة لواء في الفليق الثاني (فيلق أدرنة) مع ناظم باشا لما

تعين قائدها للفيلق المذكور عقب الدستور وفي أثناء المفاوضات مع البلغار، فقال:

إن القائد المومأ إليه مع ما بذل من الجهد في تنظيم الجيش وتدريبه، ولم شعثه

وتجهيزه بالمعدات اللازمة، كان يقول بعد مرور شهر عليه في قيادة هذا الفيلق:

الآن يمكننا أن نقف أسبوعًا واحدًا في وجه البلغاريين، وبعد شهر آخر يمكننا أن

نقف شهرًا واحدًا، وبعد أربعة شهور يمكننا أن نزحف على عاصمة البلغار.

فانظر إلى ما كان عليه الجيش من الضعف يومئذ، وكيف كان أكبر

مشيري الدولة وقوادها يتشاءمون من وقوع الحرب مع البلغار، حتى بات كل قواد

الجيش وضباطه في هم ناصب، ودأب على العمل ليل نهار في الستة الشهور

الأولى؛ لأجل استرداد ما سلبه السلطان عبد الحميد من قوة الجيش المعنوية

والمادية في العشرين السنة الأخيرة لحكمة المشؤوم.

(3) أما التعليم فيكفي أن نقول فيه:

إن المتعلمين في تركيا أقل نسبة من المتعلمين في بلغاريا  التي انفصلت عن الدولة في عهد السلطان عبد الحميد فسبقتها أشواطًا كبيرة في مضمار المعارف والعلوم، ولو أطلق السلطان عبد الحميد حرية التعليم في الثلاث والثلاثين سنة التي حكمها، لما وجد إلى اليوم أمي في تركيا، مع إن الأميين فيها الآن ربما زاد عددهم عن خمسة وثمانين في المئة، والمدارس الموجودة في تركيا قد صارت إلى حالة من الخلل خصوصًا في الخمسة

عشرة سنة الأخيرة من ملك عبد الحميد؛ لا يستطيع وصفها قلم، وحسبك أن دار

الفنون في الآستانة لما أريد تنظيمها بعد الدستور، لم يجدوا في فرع الطبيعات منها

ولا آلة واحدة من آلات العلوم الطبيعية التي يطبق فيها العلم على العمل، كما أنه

لا يوجد كتاب رسمي يدرس في مدارس الآستانة في أي فن من الفنون، بل إن

المعلمين يملون دروسهم إملاء، وناهيك بمعلم يدرس وهو يحاسب نفسه على

الكلمات، ويخشى من هفوات اللسان بألفاظ علمية حرمتها نظارة المعارف بأمر

السلطان.

أما مصادرة العلماء وتشتيت الفضلاء وقتل النابغين أو إبعادهم، وإحراق

كتب العلم، فهذا مما لا يحتاج إلى دليل، وقد عثروا على تقارير رسمية من دائرة

التفتيش في نظارة المعارف مرسلة إلى المابين في كيفية إحراق الكتب المصادرة،

ينبئ بأن ألوفًا من الكتب أحرقت مرة واحدة في موقد حمام شنبر لي طاش على

أيام متوالية؛ تفاديًا من إحراقها في نفس النظارة، بعد أن ظن الناس أن حريقًا وقع

فيها لأول يوم بدئ بإحراق الكتب فيها، وقد نشرت جرائد الآستانة في الأسبوع

الماضي هذه التقارير؛ لتبرهن على ما نال العلم وأهله في عصر السلطان عبد

الحميد.

وهذه قليل من كثير مما أصاب العلم وأهله من المصادرة والاضطهاد في

عصره، وفيه كفاية للمقتنعين.

(4) أما أنه أسعد المملكة بكده مدة حكمه :

 فهذا أمر تفنيده يطول خصوصًا لمن ليس هو من هذه المملكة وبعيد عنها، ويكفي أن يقال: إنه ليس في تركيا شركة وطنية من الشركات العامة الصناعية أو التجارية؛ لأن السلطان كان يمنع تأليف هذه الشركات إلا إذا كانت أجنبية وأعطيت اسم العثمانية. وكانت الرشوة متفشية في دوائر الحكومة إلى حد سلبت معه الأمنية على الأموال والأرواح وأصبحت السيطرة لأهل البغي والفساد وأرباب النفوذ. وكان المأمورون

مضطرين لمماشاة هؤلاء ومحاباتهم؛ لقلة رواتبهم وعدم أخذهم لها واحتياجهم إلى

المال من غير طرقه المشروعة، فليس ثمة عدالة ولا قانون إلا هوى الأنفس وإرادة

الحكام، فكيف تكون حالة مملكة هذا شأنها، وأية سعادة ترجى لأمة تلك حكومتها؟

نترك الجواب على هذا للكاتبين الفاضلين فإنهما على ما نعتقد من المنصفين.

(5) أما كونه عَمَّر الطرق وأنشأ السكك الحديدية والترع :

 فهذا لا شيء منه في تركيا؛ فإن فيها ضريبة تسمى ضريبة العملة المكلفة، وهي تلزم كل مقتدر على العمل أن يعمل في إصلاح الطرق بنفسه، أو يدفع أجرة عامل للحكومة، وهي ريال فأكثر في السنة. وقد قال لي مرة بعض الناقدين: إن هذه الضريبة لو أنفقت في سبيلها منذ وضعها إلى اليوم؛ لأمكن للدولة أن تمد بها خطوطًا بدل

الخطوط الحديدية من الفضة، على أنه لم يعمل بها طريق مرصوص بالحجر

صالح لمرور الجنود والمركبات إلى اليوم. أما السكك الحديدية فالحقيقة أنها كثرت

في زمانه؛ إلا أنها كلها كما قال المنار الأغر: في يد شركات أجنبية وفي مصلحتها

دون مصلحة الرعية والدولة، ولا يوجد في العالم شركة سكة حديد تتمتع بامتيازات

تضر بالرعية والدولة كما يوجد في بلادنا، ولنضرب لهم مثلاً سكة حديد بغداد التي

أخذتها شركة ألمانية، فقد أعطيت هذه الشركة الحق بالبحث عن المعادن، وتملكها

على مسافة عشرين كيلو مترًا من جانبي الخط أي: من ساحل البحر الأبيض في

الآستانة إلى مصب دجلة والفرات من البحر: المحيط الهندي، وفوق هذا قد

تحملت الدولة الضمانة الكيلو مترية لهذه الشركة ثلاثة عشر ألف فرنك عن كل كيلو

متر، وذلك في نظير مبالغ زهيدة أعطيت للمقربين ورجال الدور الماضي،

وبعض أسهم استأثر بها السلطان ونفر من أعوانه. فهل توجد أمة في العالم تباع

مرافقها، وتوهب أراضيها على هذه الصورة، ويكون أشد العاملين على جر هذه

المضار عليها سلطانها وحكومتها؟

إن الأمثلة على مثل هذا كثيرة، وإن صفحات المنار لتضيق عن جزء منها

فأنا أكتفي من البيان بما تقدم، كما أكتفي بما قالة المنارعن النقطة السادسة؛ لأن

النفس ضاقت من الاسترسال في هذا الموضوع، والفؤاد اضطرب من إمعان الفكر

في تلك الظلمة التي كشفها الله عنا بفضل منه، فلم يبق في استطاعة القلم تجاوز

هذا الحد من البيان؛ لما ساورني من الآلام النفسية التي كانت ملازمة لي ولكل

الأحرار العثمانيين مدة ذلك الدور المشؤوم، وقد خففها الله عنا بانقضاء ذلك الدور

الماضي، وظهور شعلة من نور الرجاء في المستقبل، كنا نأمل أن تنسينا ما فات؛

لو لم يسئنا تلقي إخواننا المسلمين لهذا الانقلاب المجيد بغير ما تلقاه به العثمانيون؛

لخلو أذهانهم عن أمثال ما ذكرناه من سيرة عبد الحميد، فيدعو ذلك إلى الرجوع

لتلك الذكرى المنغصة؛ بما أردنا به رد الشبهة وجلاء الحقيقة لإخواننا المسلمين في

البلاد النائية. على أنا لا ننسى لهم هذا التأثر بأحوال المملكة العثمانية وأخبار دولة

الخلافة، وإن كان تأثرًا بضد الواقع، فإنه محمول منهم على حسن النية وعدم

الوقوف على دخائل الأمور في الدولة العلية، ولا ريب عندنا في أن اهتمامهم بهذا

الانقلاب وخلع السلطان عبد الحميد يدل على اهتمامهم بشؤون إخوانهم المسلمين

العثمانيين، ورغبتهم الخالصة في سعادة الدولة العلية ومجدها وقوتها، وإنا لنرجو

أن تتحقق هذه الرغبة لهم، ولنا في دور مولانا السلطان محمد الخامس بعد أن ثبت

عدم تحققها في عصر السلطان المخلوع؛ إذ كان ما رؤي من خليفتنا الجديد إلى

اليوم يدل على محبة خالصة للأمة، وميل عظيم للإصلاح، وتمسك بمبادئ

الشورى والعدل، جعله الله مبدأ حياة جديدة للدولة وعدًّا مؤكدًا للمسلمين.

وحسب إخواننا في الأقطار النائية دليلاً موجبًا لسرورهم؛ مؤكدًا لآمالهم في

مستقبل دولة الخلافة هذا الانقلاب العظيم الذي قام به إخوانهم المسلمون في البلاد

العثمانية، ودعمه الجيش بقوته العظيمة. وأي دليل على أن هناك حياة عالية،

ونفوسًا نزاعة إلى الرقي ستنهض بالدولة إلى منزلة تسر لها - إن شاء الله -

قلوب الأمة الإسلامية أعظم من هذا الدليل، لا سيما وأن القائمين بهذا الانقلاب إنما

جددوا حكومة الشورى الإسلامية التي طوى صحيفتها الأمراء الجبارون منذ آخر

عهد الخلفاء الراشدين، ولم تستطع أمة من المسلمين استرداد هذا الحق المسلوب

منها إلى اليوم، فاستطاع ذلك العثمانيون والله مع المصلحين.

وفي الختام نقول :

رحم الله الأستاذ الرائد المصلح رفيق العظم فقد نصح لأمته جهد الاستطاعة، ثم رحل عن هذه الدنيا، وقد ترك بصمة في تاريخ سورية المعاصر .

ونرجو من مثقفي أمتنا الاعتناء بحياة العظماء ورواد الإصلاح الإسلامي، ولاسيما في بلاد الشام أمثال : الإمام جمال الدين القاسمي ، والشيخ طاهر الجزائري ، والثائر عبد الرحمن الكواكبي ، والسيد محب الدين الخطيب ، والأستاذ رفيق العظم، وأديب العربية الكبير علي الطنطاوي ، والعالم القائد المجاهد مصطفى السباعي ، رحمهم الله جميعاً...

ويجب علينا دراسة فكرهم والاستفادة من علمهم وكتبهم ونيل الرسائل الجامعية في معرفة سيرتهم ومنهجهم في الدعوة والاصلاح ....

وهذا هو أقل القليل الذي يمكن أن نفعله رداً للجميل فهل نحن فاعلون ...ألا هل بلغت،  اللهم فاشهد .

وسوم: العدد 651