الشهيد محمد زهدي عبد الكريم
أشعة من عبير:
أرأيت حين تحتدم المعركة، ويشتد اليأس، وتَحمرّ الحدق كيف تظهر معادن الرجل؟ وعندما تصطك الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، وتهتز القيم وتنداح أمواج الظنون سيلاً عرماً، كيف تبدو مواقف المؤمنين الصابرين، وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. فولجوا بهو العزة كأشعة من عبير..
وحين يعظم الخطب، وتدلهم الظلمات، كيف تبدو قيمة النور، وهو يمخر عباب الظلام فتتهاوى أمامه براقع الوهم وأشباح العتمة؟
هكذا تلألأ نور الحق وهاجاً، على جبهة البطل أبي النور، وجباه إخوانه يوم معركة (أريحا) و(جبل الزاوية)، في العقد الأول من رجب الفرد 1400هـ، وأواخر أيار1980.
خلق.. وخلق:
أبيض البشرة، خفيف شعر اللحية، لا تفارق البسمة شفتيه حباً بمن يلقاه وأنساً بمن يراه، من إخوانه ومحبيه. قوي الجسم، يتدفق حماسة ونشاطاً. يؤثر الصمت – فهو طبعه- فإذا احتاج الموقف إلى رأي، كان قوله الحكم المنبثق عن الشرع والمستند إليه، لا يحيد عنه. ملأت السماحة جوانب صدره، فما تركت فيه مكاناً لغلّ وأخذ الورع بمجامع قلبه، فما فيه بقية لعبث، حتى لكأن وجدانه أُشربَ قول الشاعر:
وغير فؤادي للغواني رَمِيَّة وغير بناني للزجاج ركاب
وحتى كأن ذكر الله والأوراد وتلاوة القرآن والمأثورات، أنفاس من أنفاسه، لا يفتر عنها، ولا تخبو في صدره. أما البكاء، ومحاسبة النفس، والشوق إلى الجهاد والشهادة، والغيرة على الدعوة.. فكثيراً ما كانت تشغله عن النوم. حريص على الدقة في التزام الأمر وتنفيذه، سواء كان موجهاً من قيادته إليه، أو منه إلى إخوته الذين عهد إليه بتربيتهم وتوجيههم. يعطف على إخوانه، ويتفانى في خدمتهم، ولو كلفه ذلك الجهد والوقت..
حركة.. وعلم:
لم يشغله علم عن علم، ولا ثقافة عن ثقافة، فكلها روافد صغيرة، تصب في نهر كبير، نهر الدعوة العذب الدفاق.. ولا أولية لعلم أو فن أو ثقافة، إلا لما تقدمه الدعوة وظروفها ومراحل جهادها، والمصلحة العليا للمسلمين..
وهكذا كان الأخ الشهيد ينهل من كل جدول نضير، ويرتشف من كل نبع صاف.. من فقه وأصول، وأخلاق وسيرة، وتفسير وتجويد.. إضافة إلى هندسة الكهرباء التي كان يدرسها في الجامعة. وقد كان لهذه العلوم كلها، إضافة إلى الأحاديث النبوية الكثيرة التي كان يحفظها بأسانيدها، مع أجزاء كثيرة من كتاب الله.. كان لهذا أثر واضح في قدرات الأخ التوجيهية والحركية.. إذ تتضلع منها القلوب والعقول، وتحفظها الدفاتر بين طياتها، ذخراً لأجيال الغد.
لم يكن يتحرك في فراغ، بل كانت حركته تجسيداً حياً لعلمه وتقواه، وكانت معارج من الوعي والإخلاص، يرفع بها إخوانه، وينمي فيهم روح العمل الجماعي والالتزام الدعوي.. كل هذا مع حب للنظام، ودقة في الموعد، وحرص على الوقت.. وحسبك أن تدخل بيته، لترى مظاهر الإسلام وآدابه، والالتزام بالسنة في كل شؤون الحياة.
ملامح.. ومواقف:
ثمة ملامح تميز الأخ الشهيد من أقرانه، وثمة مواقف تعكس بعض شمائله وصفاته، وإذا كان التسامي عن الصغائر والهنات ملمحاً بارزاً لديه، فإن هناك ملمحاً آخر أشد بروزاً، هو الفراسة في معرفة النفوس، وتجاوز نقاط الضعف فيها.. حتى لقد قال بعض عارفيه: (لله در أبي النور، ما أعرفه بمعادن الرجال.) كما أن حرصه على الشهادة مما يلفت النظر، فقد كان يستبطئ الإذن بدخول المعركة، وكثيراً ما كان يشاهد في جوف الليل باكياً، يتحرق شوقاً إلى لقاء ربه. أما جلده العظيم، واحتماله المشاق في سبيل دعوته، مع لين الجانب، ودماثة الخلق، فهذا كله مما بلغ فيه شأواً بعيداً، حتى عرف به، وصار سمة دالة عليه.
ومن مواقفه التي تجلو معدنه المؤمن الأصيل، أن مرتزقة الأسد لاحقوا أخاه بتهمة مساعدة المجاهدين، فوصل إليه الخبر، ولكن بطريقة مشوهة معكوسة، فصار يبيت الليالي قلقاً مضطرباً، لا يقر له قرار، تحتدم في صدره مشاعر قاسية، يخشى فيها على أخيه من أن تكون إغراءات الزبانية قد نالت من قلبه. حتى إذا بلغه الأمر على حقيقته تهللت أسارير وجهه، وغمرته سعادة أضاءت كيانه، وقال: "الحمد لله الذي لم يجعل للطاغوت نصيباً من أهلي".
كما أن له مواقف محمودة مشهودة، في جامعة حلب، مقر دراسته.. منها: أن مجموعة من الإخوان أحست بالمرارة إزاء حفلة وقحة، أقامها بعض السفهاء، وسموها (كرنفال)، تنال من القيم الإسلامية.. فما كان من الأخ المغوار، إلا أن قدم نفسه، ليكون لسان الجماعة المؤمنة، أمام رئيس الجامعة وأساتذتها. وحين سئل: "وإذا لم يستجيبوا؟" قال: "إنه سيكون أول المجموعة الضاربة، وسيعلم المجرمون كيف يكفون عن إيذاء الإسلام ومشاعر المسلمين".
مقارعة الباطل:
بعد أن وقعت المحنة، ومارس (ضباع) الأقبية مواهبهم في البطش والتنكيل، بادر الأخ إلى العمل – من خلال ما تقتضيه طبيعة المرحلة- وبدأت السلطة بملاحقته، في أريحا وحلب، واعتقلوا والده وأخاه رهينتين، ثم تركوهما.. وكان والده حريصاً على أن يتم دراسته الجامعية، لنيل الشهادة.. إلا أن الشهادة التي يفهمها أبو النور، تختلف عن تلك التي يريدها والده. وتوارى الأخ عن أهله قرابة عشرة شهور، دون أن يعلموا عنه شيئاً.. وكانت شعلة الجهاد تضطرم في صدره، فتحرق بوميضها اللماح كل شهادات الدنيا الزائلة. وما إن اشتعلت الشرارة في أريحا، حتى كان من أوائل الركب، وفي طليعة العارجين إلى جنات الخلد.
الملحمة:
تسرب إلى الفاسقين نبأ، ساقه فاسقٌ منهم، حول وجود بعض الإخوة في مكان ما، في أريحا.. فتقدمت دورية إلى المكان المذكور، فأبادها المجاهدون الأبطال. ثم تقدمت دورية أخرى من دوريات القنافذ المذعورة، فلم ينج من دوابها أحد.. فتوالت النجدات عندئذ، طائرات مع عدد من الدبابات.. وطوقت المدينة الساحرة الباسلة (أريحا)، ويبدأ القصف من الأرض ومن الجو.. وتواثبت الأرواح الجذلى من وكناتها، تحلق في عوالم الأبدية، صاعدة في رحاب الملكوت، إلى حيث سدرة المنتهى..
ثلة مؤمنة، تعد على الأصابع، تتصدى لدوريات البغي، فتبيدها، وتصمد للقصف المجنون، وتقصفه، وترسل إلى سجين ما شاء الله من أرواح السوائم الذليلة.. إنها لملحمة.. إنها لملحمة..
هوية البطل:
ليس للبطولة في الإسلام هوية، إن مجالها رحب، ومداها فسيح، يبدأ من كلمة التوحيد، وينتهي في الفردوس الأعلى.. وهي (البطولة) سابحة أبداً، بين هذي وذاك.. إلا أن وشائج اللحم والدم، وأواصر الحنين والذكرى وعلائق الزمان والمكان.. هذه وسواها لابد لها من أطر بشرية ولا بد لها من حدود وقيود. ومن هنا كان لزاماً علينا أن نُعِّرفَ بالأخ الباسل، وهو الحريص ألا يُعَرفَ أو يُعَّرفَ به..
إنه أبو النور محمد زهدي عبد الكريم، من مواليد أريحا /1954/ نشأ نشأة طيبة في أسرة متدينة، وشب فيها على تقوى الله – سبحانه وتعالى. دخل صفوف الإخوان المسلمين بعد حصوله على الشهادة الثانوية 1972م وسجل في جامعة حلب – كلية الهندسة: كهرباء، وبدأ عمله لدعوة الإسلام منذ ذلك التاريخ حتى عرجت روحه إلى بارئها مسربلة بحلل من الطهر والنور والإيمان.
رحم الله أبا النور.. لقد أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، ووفد ضيفاً على الكريم، فأكرمه، وأحسن وفادته.
"إن المتقين في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (صدق الله العظيم)
وسوم: العدد 674