الشهيد الشيخ أحمد الفيصل

من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقضوا نحبهم موفين بالعهد، الشيخ أحمد فيصل الشهابي. رجل آمن بالإسلام عقيدة، ودعا إليه منهجاً، وجاهد في سبيله الطغاة والبغاة والظالمين من أنصار الحزب الحقير، حتى توفاه الله شهيداً..

ولد رحمه الله في بلدة (الباب) قرب حلب لوالده فيصل الرحمو الشهابي الذي يعتبر من رجالات عشيرته (الشهابية). والتفت إلى الإسلام منذ طفولته، ثم كان داعية نشطاً في شبابه. ولما أحست السلطة المجرمة بخطر دعوته الإسلامية المستنيرة، حالت بينه وبين التعليم.. ذاك الميدان الخصب لنشر الدعوة.

ثقافته واطلاعه:

درس – رحمه الله- الشريعة الإسلامية على علماء أكفياء، وأساتذة أعلام من علماء مدينة حلب فلازم حلقاتهم، وواظب على دروسهم حتى أتاه الله فقهاً في الدين، وعلماً بأحكام الشريعة مع تقوى وورع عز أمثالهما في هذه الأيام.

ولم يكتف – رحمه الله- بمجالسة الرجال وإنما جالس الكتب أيضاً ينهل منها كل خير وبر. كان إعجابه بكتاب: (في ظلال القرآن) للشهيد العظيم سيد قطب كبيراً حتى تفرغ لقراءته مع نفر من إخوانه فكاد ينهيه. وأكب على (معالم في الطريق) يقرؤه حتى استظهره. كما اطلع على كثير من كتب الثقافة الإسلامية المعاصرة.

نشاطه الدعوي:

كان – رحمه الله- قد حاز شهادة الدراسة الثانوية، فاكتفى بها، وحبب إليه تعليم الصغار فتفرغ له، فكان يمسح عن قلوبهم البريئة ركام الأسرة والحي، ويجلو الفطرة النقية فيها وكم شكا آباء وأمهات من هذا الأستاذ الذي حبب إلى أطفالهم الصلاة حتى إنهم يداومون على الوضوء لصلاة الصبح في البرد القارص غير عابئين بشيء. وكم جاء آباء وأمهات إلى المدرسة يشكرون هذا (المعلم) الذي يحنو على أطفالهم ويهذبهم ويعلمهم كل خلق كريم، ويدربهم على السلوك الجميل فكأنهم بين أقرانهم زهرات !!! ولكن صوت البغي كان أقوى، ويد الظلم كانت أطول، فامتدت إلى المعلم المسلم لتنتزعه من المدرسة ولتحول بينه وبين أداء مهمته. رأيته يومها يحكي ويبتسم.. سألوني فأجبتهم، فكتبوا في تقريرهم.. (في عقله شيء)!!!

سألوه عن الإسلام.. عن معنى الدين.. عن المرأة بشكل خاص، وكانت فيهم امرأة سافرة مستهترة تعاطيهم فنجان القهوة، ومضغ الأحاديث...

فأجاب جواب المسلم الواثق.. لا تلعثم ولا تردد ولا مواربة، ولا خوف على الرزق والوظيفة فقالوا ما قال أجدادهم من قبل.. (معلم مجنون..).

عاد – رحمه الله- إلى منجرة والده ليعمل وليأكل من كد يمينه وعرق جبينه، وما كانت النجارة لتمنعه من الدعوة، وما كان العمل اليدوي ليحول بينه وبين العلم والتعليم، وما أكمل العالم يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده، فواظب على الدعوة والتبليغ والجهاد إلى أن اختاره الله إلى جواره شهيداً.

كان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجمع الأطفال واليافعين حوله، سواء كانوا من طلابه أو من أهل حيه، ويخرج بهم في نزهات تدريبية دعوية، وبعيداً عن أعين الرقباء كان يغرس في قلوبهم العقيدة، ويربيهم على (خلق المسلم).

وفي كل يوم جمعة يخرج إلى إحدى القرى فيدعو أهلها إلى الله، ويبلغهم مبادئ الإسلام ويعلمهم القرآن الكريم.

وفي كل موسم من مواسم الصيف، كان يعطل عمله بعد أن أصبح نجاراً، ليكون معلماً ومرشداً في مساجد حلب. يعلم الطلاب التجويد وتلاوة القرآن، ويفقههم في أمر دينهم ويبث فيهم روح الجهاد والدعوة إلى الله.

وفي كل المناسبات الإسلامية كان الشهيد يقيم الاحتفالات ويلقي الكلمات داعياً إلى الله حاثاً على التعاون في سبيل نصرة الإسلام. ويهيب بالمسلمين أن ينهضوا بمسؤولياتهم تجاه دينهم، وأن يحملوا بصدق وعزم رسالة الإسلام وأمانة الجهاد.

جهاده من أجل إعلاء كلمة الله:

كان – رحمه الله- متألماً لأوضاع المسلمين الحاضرة.. الطواغيت يتحكمون في الشعوب المسلمة، وبلاد الإسلام تحكم بغير ما أنزل الله، وموجة الانحلال والميوعة والإباحية تكتسح المجتمعات الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، وكان كثيراً ما يحدث من يهمه أمر المسلمين بهذه المآسي والمظالم، وهاتيك المفاسد والمفاتن، وهذا الكفر والإلحاد، وهذه النظم التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يكن لهذا كله من حل إلا أن يهب المسلمون هبة رجل واحد فيحاربوا الطغيان، ويقمعوا الفساد، ويزلزلوا عروش الطواغيت، ويعلنوا حكم الله سبحانه في الأرض.

انطلاقاً من هذا المفهوم الإسلامي في التغيير انضم رحمه الله إلى إخوانه المجاهدين يعمل معهم، ويقدم المعونة لهم، منتظماً في كتائبهم، بعزم صادق وإرادة متينة، وتضحية غالية حتى رزق الشهادة.

استشهاده:

خرج من بيته في يوم من أيام رمضان المبارك، يريد بعض المجاهدين من إخوانه، ثم ليعرج بعدها إلى زيارة عمته في حي الأنصاري في مدينة حلب. وكانت الدار التي يقطنها المجاهدون محتلة من قبل المخابرات، وما إن طرق الباب حتى أحاطوا به داخلاً وخارجاً، وأخذوه فوراً إلى أقبيتهم المظلمة حيث التعذيب الوحشي، والتصفية الجسدية.

عذبوه بالجوع والعطش..

عذبوه بالسوط والدولاب..

عذبوه بالنار والكهرباء..

عذبوه أخيراً بالنفخ الشرجي بمنفاخ كهربائي. وعندها أشرف الشهيد على التلف.

ولما كان الشهيد ابن زعيم من زعماء عشيرة الشهابي – كما أسلفنا- وهي الأسرة التي ينتمي إليها اللواء حكمت الشهابي رئيس الأركان في نظام الأسد – وإننا لنتساءل: لو كان الشهيد قريباً لآل الأسد من الدرجة المئة، هل كان يجرؤ أحد على اعتقاله حتى ولو باع (القرداحة)؟؟

سارعت السلطة بنقله إلى المستشفى، واستدعوا والده، وقالوا له إن ولدك مصاب بعقد المصران، ونريد أن نجري له عملية جراحية، بإشرافك وتحت نظرك.

نظر الأب إلى ولده، فرآه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد انتفخ بطنه.. وعلى جسده آثار التعذيب والسياط والكي بالنار...

قال له: كيف حالك يا ولدي...؟

وتمتم الولد بصوت خافت: قتلوني قتلهم الله.. الله معنا يا أبي.. والنصر للإسلام..

استشهد البطل تحت (العملية) الجراحية، إذ إن التعذيب كان قد أنهك جسده وهدَّ قواه..

مات ذو البسمة المطمئنة.. والوجه الوضاء.. والكلمة اللطيفة.. مات المحبب للأطفال.. أطفال المساجد.. وأطفال الحي.. وأطفال المدرسة...

مات الشيخ أحمد الفيصل... وإذا زرت اليوم حلب.. فلن تجد فيها ذلك الداعية النجار.. المعلم.. العالم العامل...

لن تجد ذلك الرجل القوي الممتلئ.. ذا اللحية الكثة.. والعمامة والعزبة المرخاة على دراجته العادية يتحرك باسماً.. ويحييك بشغف..

مات الشيخ أحمد.. ولكن الإسلام باق... والشجرة التي رواها من دمه باقية... أصلها ثابت وفرعها في السماء.. وإننا مع القتلة على موعد.. وإنه معهم على موعد... يوم يقوم الناس لرب العالمين..

رحمك الله أيها المجاهد المصابر.. ورفع منزلتك في عليين.. وجمعك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. وحسن أولئك رفيقا..

السلام عليك إلى يوم نلقاك.. تحت لواء سيد المرسلين.. في ظل عرش رب العالمين.

وسوم: العدد 679