الشهيد أيمن خطيب

هناك نمط من الرجال الأفذاذ، يحار القلم ويتردد وهو يحاول الكتابة عنهم، لسبب أو أكثر، قد يبدو ظاهراً للعيان، وقد يكون خفياً عصياً على الوعي والاستيبعاب..

ومن هؤلاء الرجال، الأخ الشهيد المربي عبد القادر الخطيب تغمده الله وأبناءه الشهداء، وإخوانه الشهداء بفيض رحماته ورضوانه.. هذا الرجل الرجل الذي ربى أبناءه (أنس وأيمن وياسر وسواهم) تربية إسلامية جهادية، فكان شهيداً وكان أباً للشهداء...

لم تقعد به سنه عن متابعة الكفاح على مدى أربعين عاماً من العمل المتواصل في سبيل الله، لم يلن السجن له قناة، ولا طامنَ التعذيبُ من استعلاء الإيمان في رأسه الأشم، ولم يمنعه التهديد من تخريج أبنائه مجاهدين، يدعون إلى إسلامهم بلغة العصر، وباللغة التي يفهمها كل مدعو على حدة، وحافظ أسد وعصاباته إنما كانوا يفهمون لغة واحدة هي لغة الرصاص الملعلع..

ولد أيمن في حلب 1954م من أبوين مجاهدين وترعرع في أحضانهما وفي أحضان الدعوة الإسلامية منذ نعومة أظفاره، وتخلق بأخلاق قائدها رسول الله صلى الله وعليه وسلم، وسار على نهج رجالاتها الذين طالما عايشهم في كتاباتهم وسير حياتهم، فكان التلميذ النجيب الناجح في صفوف الحركة الإسلامية، بقدر ما هو متفوق على أقرانه في المدرسة... حتى إذا أنهى الدراسة الثانوية بتفوق انتسب إلى كلية الطب بجامعة حلب، وكان قبلها بسنتين قد انتسب إلى (مدرسة الجهاد) التي كان يقودها الأخوان العظيمان الشهيدان، عدنان شيخوني ومحمد أيمن أصفر.. وكان كأفراس الرهان في تسابقه مع زملائه في مدرسة الجهاد: محمود عزيز وعبدالله قدسي وعصام قدسي ومصطفى قصار وعمر سالم ورامز العيسى وهمام الشامي وأحمد حاووط وحسين أبو خالد ووليد عطار وسواهم من الأبرار...

وكان شعار هؤلاء جميعاً: (ركضاً إلى الله بغير زاد) وكان شعار كل منهم: (وعجلتُ إليك ربي لترضى) فكان هذا التسابق إلى الجنة سبباً رئيساً في إهمال دراسته في كلية الطب.. وعندما كلمه بعض إخوانه وأساتذته المحبين له المشفقين على مستقبله من هذا الإهمال الذي لن يجعل منه طبيباً (قد الدنيا) قال للائميه والمشفقين عليه: لقد هُديت إلى شهادة أعظم من شهادة الطب.. ويحار هؤلاء في هذه الشهادة التي هي أعظم من شهادة الطب، فيسألونه ويلحون عليه فيجيبهم: إنها الشهادة في سبيل الله.. ويهز الوالد رأسه وعيناه تفيضان بالدمع ويقول بشفتيه المرتجفتين من شدة التأثر: نعمت الشهادة هذه يا أيمن.. نعمت الشهادة هذه.. وينطلق أيمن إلى مدربه يزف إليه البشرى... ويترك دراسة الطب التي تنحني من أجلها أعناق الناس، ويبادر إلى العمل مع إخوانه المجاهدين في أعمال حرة، في ورشة للألمنيوم، ليأكل من كدّ يمينه أولاً، وليكون العمل ستاراً وغطاء له ولإخوانه المجاهدين.

ويساعده دأبه وذكاؤه في إحكام تحركه في ميدان العمل الجهادي، فيعمل على أكثر من محور.. يعمل على تربية الأشبال في المسجد، والمسبح، ويأخذهم في رحلات قصيرة يدربهم فيها على ما يستطيعونه.. ويتدرب عند مدربه أبي طارق، ويدرب الشباب، ويلتقي الطلاب لتنظيمهم في صفوف الإخوان المسلمين، ثم ليختار منهم فيما بعد – من يراه مؤهلاً للجهاد بدنياً وإيمانياً ونفسياً وعقلياً..

وعندما نشبت الثورة الإسلامية في سوريا كان أيمن أسداً هصوراً في حلب، ينظم الشباب في أحياء المدينة وريفها، وهو متنكر بلباس (جدعان) باب النيرب، حيث (السروال والدرّاعة) ويقود المجموعات المدربة في العمليات، ويدرب الشبان الجدد تدريباً حياً وبالذخيرة الحية في العمليات، ويصطفي من هؤلاء وأولئك من يصلح لأعمال المغاوير، فيدربهم في تلك الظروف الحرجة، على تسلق الجبال والجدران والأسطحة، والقفز من الجدران والسطوح العالية والنزول إلى الآبار.. واستخدام الجبال بتسلقها والمشي عليها، وعلى غيرها من الأعمال التي كان يجيدها وما أكثرها.. يعمل كل هذا في صمت فقد كان أيمن كثير الصمت، شعاره في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.. فما كان لسان أيمن يتكلم إلا بخير، وكثيراً ما كان يحذر من آفات اللسان، ويقول: على من يريد أن يعمل معنا في جهازنا الجهادي، أن يخيط شفتيه، كيلا تنفرجا إلا وقت اللزوم..

وكان زميله وأخوه وشيخه الأخ الشيخ الشهيد موفق سيرجيه – نابغة الشباب في حلب – يغذو فكره وعقله وعلمه وروحه بما لديه من زاد علمي وثروة روحية قَلَّ نظيرها عند الشيوخ والكهول، فكان أيمن وموفق متلازمين لا يكادان يفترقان...

وقد قام أيمن بعمليات ضخمة في حلب وريفها، جعلته على كل لسان، فكان أبناء حلب وشيوخها ونساؤها يدعون له ولإخوانه بالحفظ والستر.. ونحب أن نذكر هنا تفصيل إحدى هذه العمليات:

أدلى الناطق العسكري باسم المجاهدين بما يلي:

في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة من مساء يوم 27 من جمادى الآخرة، الموافق في 12 أيار – تحركت الفصيلة الأولى والفصيلة الثانية من كتيبة "خالد بن الوليد" لتحتلا مواقعهما على الشكل التالي:

1- الفصيلة الأولى أمام الزاوية الجنوبية الشرقية لحديقة الحيوانات سابقاً ومشرفة على الطريق الواصلة بين جسر الزبدية وبستان القصر..

2- الفصيلة الثانية في الطرف المقابل لجسر الزبدية وفي منطقة البساتين – مهمة الفصيلة الأولى ضرب دوريتين للوحدات الخاصة تقومان بنصب حواجز في منطقة بستان القصر في الكلاسة وقوام كل واحدة منهما ثمانية عناصر..

- مهمة الفصيلة الثانية قطع الإمدادات القادمة من فرع الأندلس والملعب البلدي وبناء على التقارير الشفوية المقدمة من عناصر الاستطلاع تم التأكد من خلو منطقة بستان القصر والكلاسة، فتم اتخاذ تدابير جديدة بغية استجرار العدو إلى المكان المناسب ووضعه في بؤرة نارية مناسبة..

وبناء عليه تم إرسال عناصر من المجاهدين لتمثيل معركة وهمية وذلك بإجراء تفجير وإطلاق عيارات نارية في السماء ما بين الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة وحتى الثامنة والعشرين دقيقة مساء.

- أعلمت الفصيلة الأولى قيادة العملية بأن ثلاث دوريات من الوحدات الخاصة تقدمت من منطقة جسر الزبدية باتجاه بستان القصر بالإضافة إلى عدد كبير من العناصر الراجلة ولما أصبحت هذه الأهداف على مرمى من الفصيلتين أصدرت القيادة أمراً بفتح النار على العدو وأثناء الاشتباك تقدمت دورية من منطقة بستان القصر ففتحت عليها النار عناصر الفصيلة الأولى مع نداء "الله أكبر" ثم تقدمت دورية أخرى من منطقة بستان الزهرة ففتحت النار عليها من المجموعة الأولى التابعة للفصيلة الأولى بعد ذلك توقفت إمدادات العدو عن التقدم خوفاً من وقوع خسائر أخرى، وبعد إسكات مصادر النيران المعادية بشكل كامل انسحبت الفصائل مرددة "الله أكبر ولله الحمد والنصر للإسلام".

وأثناء الانسحاب تم زرع المنطقة بالقنابل الموقوتة من قبل الفصيلة الأولى هذا وتقدر خسائر العدو ما بين 20 – 30 قتيلاً وجريحاً..

(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).

والله أكبر ولله الحمد..

وفي اليوم الثامن عشر من شباط 1980م ذهب أيمن إلى المجموعة التي كان يقودها في حي الصاخور بحلب، ذهب ليودعهم، وليودّع شيخه وزميله وصنوه الشهيد موفق سيرجية، بعد أن تسلم مسؤولية ريف حلب.. ورآه بعض المخبرين ووشى به إلى السلطات المجرمة التي سارعت إلى حشد المئات من عناصرها المدججين بالسلاح، ومعهم عدد من الدبابات والمصفحات والأسلحة والمتوسطة، وأحاطوا بالقاعدة وتنبه الإخوة الثمانية وتوزعوا الأدوار فيما بينهم وتصدوا لهذه الحملة الكبيرة، واستمرت المعركة ساعات اشتعلت فيها سماء حلب ثم انكشفت المعركة عن استشهاد الإخوة الثمانية وفيهم قائدهم أيمن، وشيخهم موفق، فيما قتل من عناصر السلطة مئات..

وانتشر الخبر في حلب وحزن أبناء الشعب على هؤلاء الأبطال الثمانية، وبكوهم بدموع عيونهم وقلوبهم، ولم يشف غليلهم قتل وجرح المئات من كلاب السلطة.

أيمن.. يا أيها الشاب المؤمن المجاهد..

لقد كانت حياتك حافلة بجليل الأعمال..

وكانت سيرتك تذكّر كل من عرفك بسير الرعيل الأول من المجاهدين..

وكان استشهادك معلماً جديداً في دروب الكفاح المسلح.. كنت نجماً ساطعاً بزغ في سماء حلب.

وكنتَ.. وكنت

وكنت الشهيد الفذّ، في الأسرة الفذة..

كنت الشهيد.. الشهيد ..

 فسلام عليك يوم ولدت..

وسلام عليك يوم استشهدت

وسلام عليك في الخالدين.. مع الأنبياء والصديقين..

وسوم: العدد 693