الإمام حسن البنا ... قصة لم تنته
هذه السطور ليست من نسج الخيال، ولكنها واقعة حقيقية حدثت منذ أكثر من 65 عاما.
المكان: القاهرة - منطقة الحلمية.
الزمان: بعد منتصف الليل يوم 12 فبراير من عام 1949 م.
الوقائع: تتقدم قافلة من عربات الشرطة في سكون الليل، تصل إلى أحد شوارع الحلمية بمدينة القاهرة، تتوقف السيارات، يندفع الجند بأسلحتهم لحصار الشارع كله، وتُشدد الحراسة، حول بيت متواضع في منتصف الشارع، تتقدم إحدى سيارات الشرطة إلى هذا البيت، صف من الجنود ينقُلون جسد ميتٍ من السيارة إلى البيت في سرعة، يطرقون بابًا في أعلاه، يفتح الباب شيخ جاوز التسعين من عمره، يدخل عدد من الضباط إلى البيت قبل دخول الجثمان للتأكد من عدم وجود آخرين به، التعليمات صارمة للشيخ، لا صوت، لا عزاء، ولا حتى أحد من المتخصصين في إعداد الموتى، فقط أنت وأهل البيت، في تمام التاسعة صباحًا يتم دفن الميت.
كان الشيخ هو والد المتوفّى، ورغم الفجيعة، ورغم شيخوخته، قام بإعداد ابنه للدفن، ويمسح الشيخ دماء ابنه من أثر الرصاصات التي سكنت جسده.
ويأتي الصباح، ويأتي الضباط في موعدهم، هلمّ بابنك لتدفنه، فيصرخ الأب ذو التسعين عامًا، كيف لي بحمله؟ فليحمله الجنود! فيرفض الضباط، ويكون الرد فليحمله أهل البيت، وكان المُتوفّى له بنات وصبي صغير.
ويتقدم الجثمان في الطريق تحمله زوجته وبناته، وخلفه فقط والده، ومن تجرأ على السير في الجنازة كان المعتقل مآله، وتصل الجنازة إلى المسجد للصلاة على الفقيد، فإذا به خاليًا حتى من خدمه، فيصلي الوالد ومن خلفه أهل البيت من النساء، ويقومون بإنزاله إلى قبره، ويعود الجميع إلى البيت في حراسة مشددة،
هذه هي جنازة الإمام الشهيد حسن البنا، ويتم إلقاء القبض على كثير من الجيران، لا لشيء إلى لمجرد كلمة عزاء قالوها لهذه الأسرة، ويستمر الحصار ليس على البيت خشية ثورة من يأتي للعزاء، ولكن أيضًا يستمر الحصار حول القبر، خشية أن يأتي من يُخرج الجثة ويفضح الجريمة، بل وانتشرت قوات الشرطة في المساجد؛ لتأمر بغلقها عقب كل صلاة، خشية أن يتجرأ أحد بالصلاة على الفقيد.
وعلى الجانب الآخر كان ملك البلاد قد أجّل الاحتفال بعيد ميلاده من 11 فبراير إلى 12 فبراير؛ ليحتفل مع من يحتفل بموت هذا الرجل،
ويروي الأستاذ سيد قطب – وقد تصادف أنه في هذه الفترة كان في بعثة للولايات المتحدة الأمريكية- أنه شاهد احتفالات في أحد الفنادق في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما تقصّى سبب هذا الاحتفال، عرف أنه ابتهاجٌ بموت هذا الرجل.
وإن كان الحق ما يشهد به الأعداء فإن مراكز الأبحاث في فرنسا وأمريكا اشتركت في وضع قائمة بأهم مائة شخصية أثّرت في العالم في القرن العشرين، فكان من العالم العربي الإمام الشهيد حسن البنا.
مقومات شخصية الإمام حسن البنا
أُحيطت شخصية الامام حسن البنا بهالة كبيرة من طرف الصحاب وأعضاء الدعوة، بل وحتى من خصومه، مما جعل كثير من الباحثين في حيرة من أمرههم حول المقومات التي شكلت منه الإنسان النموذج الذي استطاع في ظرف عقد من الزمن تكوين جماعة تحمل المشروع الإسلامي لنهضة الأمة،
وفي السطور التالية نحاول تحديد بعض معالم شخصية المرشد العام حسن البنا رحمه الله التي تناسب مادة هذا البحث وذلك في النقاط التالية:
أولا: أثر البيئة
تربى الإمام حسن البنا في وسط عائلي ريفي محافظ أهم ما يميز سلوكياته:
عدم الانغماس في ترف الحياة الدنيا، وهذه البساطة تقرب الإنسان من فطرته التي فطره الله سبحانه وتعالى عليها، كما أهله والده إلى طلب العلم الشرعي ، وهو بهذا وجد البيئة والتنشئة الصالحة التي وجهته الوجهة السليمة
وكانت تربيته في عائلته ومدرسته الابتدائية وبدار العلوم هي السلسلة الذهبية والطريق الذي رسم لحياته معالم التفوق والتوجيه المستقيم.
ثانيا: الطموح على درب الصالحين.
توضح سيرة الإمام البنا أنه كان يملك طموحات في البناء والإصلاح شكلت اللبنة الأولى لوعيه برسالته كإنسان يمثل خليفة الله في أرضه، كما عبرت عن ذلك أوضح تعبير، الواقعة التالية:
حين تقدم الشاب حسن البنا إلى لجنة الامتحان الشفوي في مدرسة دار العلوم، ولما جلس أمام اللجنة سأله الممتحن:
-ماذا تحفظ من الشعر القديم؟
-فأجاب أحفظ المعلقات السبع.
- قال: اسمعني معلقة طرفة بن العبد
فأخذ الشاب حسن البنا يقرؤها في فصاحة وثبات،
ولما تأكد الأستاذ الممتحن من جودة حفظه قال له: على رسلك، أريد أن تختار بيتا أعجبك من هذه القصيدة،
فأطرق الشاب حسن البنا هنيهة ثم قال:
إذا القوم قالوا من الفتى خلت أنني عنيت فلم أقعد ولم أتبلد
فما كان من الأستاذ الممتحن إلا أن رفع عمامته من فوق رأسه وهو يردد الله .. الله،
فالتفت إليه الممتحن الآخر وقال له: ماذا جرى يا مولانا؟
فأجابه بأن هذا الفتى سوف يكون له شأن كبير، وأسمعه البيت الآنف الذكر، فشاركه إعجابه وتفاؤله.
وجاءت الأيام كما يقول المرحوم عباس السيسي لتكشف فراسة هذا الشيخ ويصدق حدسه في الشاب حسن البنا فيصبح بالفعل أمل أمته الحيرى ومرشدها إلى منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونكمل الرحلة المباركة للبرهان على طموح الإمام جسن البنا منذ شبابه ونترك الإجابة له فيقول:
"… كان أستاذنا أحمد يوسف نجاتي –جزاه الله خيرا- مغرما بالموضوعات الدسمة بالإنشاء...
ومن الموضوعات التي أتحفنا بها بمناسبة آخر العام الدراسي، وكان بالنسبة لي ولفرقتي الامتحان النهائي سنة 1927 م، هذا الموضوع: "اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك" وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها،
وقد أجبت بهذا الموضوع: " أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة- التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم، وذود المكروه عنهم، وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحاً وغنيمة، والجهاد في الحق والهداية – على توعر طريقهما، وما فيه من مصاعب – ومتاعب – راحة ولذة،
وتنفذ إلى أعماق القلوب فتشعر بأدوائها، وتتغلغل في مظاهر المجتمع، فتتعرف ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم، وما يزيد في هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرة،
وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله، قاصر ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره، من أسرته وأمته وبني جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره ....”
“وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه.
والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين، لكل خواصه ومميزاته، يسلك أيهما شاء:
أولهما: طريق التصوف الصادق، الذي يتلخص في الإخلاص والعمل، وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم. وهو أقرب وأسلم.
والثاني: طريق التعليم والإرشاد، الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس، ودرس أحوالهم، وغشيان مجامعهم ووصف العلاج الناجع لعللهم.
وهذه أشرف عند الله وأعظم، ندب إليه القرآن العظيم، ونادى بفضله الرسول الكريم.
وقد رجح الثاني – بعد أن نهجت الأول – لتعدد نفعه، وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين على المتعلم، وأجملهما بمن فقه شيئاً” لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”.
“وأعتقد أن قومي – بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها، والمؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم وبتأثير المدنية الغربية، والشبه الأوروبية، والفلسفة المادية، والتقليد الإفرنجي – بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامي كتابهم، ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلماً وجهلاً، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعاليمه الحقيقية السمحة، بحجب من الأوهام يحسر دونها البصر، وتقف أمامها الفكر، فوقع العوام في ظلمة الجهالة، وتاه الشبان والمتعلمون في بيداء حيرة وشك، أورثا العقيدة فساداً، وبدلا الإيمان إلحاداً… ”.
...
“كل ذلك أعتقده عقيدة تأصلت في نفسي جذوتها، وطالت فروعها، واخضرت أوراقها، وما بقي إلا أن تثمر، فكان أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان:
“خاص”: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، والوفاء لذلك الصديق المحبوب ما استطعت لذلك سبيلاً، وإلى أكبر حد تسمح به حالتي، ويقدرني الله عليه.
“وعام”: وهو أن أكون مرشداً معلماً، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.
وقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل، وتقديراً للإحسان و” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان”
ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية: “ الثبات والتضحية” وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقاً يزري به أو يشينه،
ومن الوسائل العملية: درساً طويلاً، سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية، وتعرفاً بالذين يعتنقون هذا المبدأ، ويعطفون على أهله، وجسماً تعود الخشونة على ضآلته، وألف المشقة على نحافته، ونفساً بعتها لله صفقة رابحة، وتجارة بمشيئته منجية، راجياً منه قبولها، سائله إتمامها، ولكليهما عرفاناً بالواجب وعونا من الله سبحانه، أقرؤه في قوله: “ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”.
“ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله على نفسي، وأشهد عليه أستاذي، في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير” ومن أوفي بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرأ عظيما”.
وهكذا تجرد الإمام حسن البنا وهو في ريعان شبابه فاختار الذي يحيى نفسه ويحيي أمته ويسير بها في طريق الصالحين.
الإمام حسن البنا... الفكر والحركة معًا
الإمام "حسن البنا" وجماعة "الإخوان المسلمين" اسمان لا يفترقان، ولا يفهم أحدهما دون الآخر، ولا يذكر أحدهما إلا استدعت الأذهان والألسنة قرينَه وصاحبَه!.
وقد كُتب عن الجماعة ما لا يقع تحت الحصر بلغات العالم كلها.
كما كُتب عن الإمام حسن البنا كذلك.
وخلاصة ما تم تقديم الإمام حسن البنا به هو أنه كان "مرشداً لجماعة تحمل مشروعا لنهضة الأمة الغسلامية واضجت بتوفيق الله وتثبيته لها أملا وضميرا جمعيا لأمتها"،
"والمرشد" معلم ومصلح، قبل أن يكون شيئًا آخر.
ومن هنا فقد حدد الإمام المؤسس -بإلهام الله له- هدفه مبكرًا منذ سنـة 1929 وبعد اتخاذ الخطوات الأولى في تأسيس الجماعة بقوله: "لا بد -إذن- مـن السعي لإصـلاح الشرق وتوجيه جهود الأمم إلى غاية منتزعة مـن روح الشـرق، وملائمة لمـزاج أهـله لا تنحـصر في تقليد لأوروبا ولا لغيرها، بل قوامها إنهاض الشرق من كبوته واستخدام قواه الكامنة" .
فكان أول ما لفت نظره في تأسيس الإصلاح في هذه المرحلة المبكرة من تأسيسه لمشروع الدعوة، أنه يجب أن يقوم على ما يتفق مع طبيعة "الشرق"، ولا يكون تقليدًا للغرب
وومن هنا كذلك دار المفهوم الرئيسي في كتابات الإمام البنا وخطبه حول تحديد مفهوم وأسس "النهضة" المرجوة للأمة ..
وهو يقدمه باعتباره نقيض حالة "الانحطاط" التي نعبر اليوم عنها بكلمة "التخلف".
وهو يستمد هذا المفهوم من القرآن مباشرة، فيرى أن النهضة تقوم على ثلاثة أركان؛
الأول: هو المثل الأعلى "الذي كلما سما، سمت نهضة الأمة وتوفرت لها وسائل القوة، ولهذا كان المثل الأعلى الذي وضعه القرآن لأمته هو الإيمان بالله أولاً، ومن هذا الإيمان تستمدّ الأمة سيادتها في قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)
وهذا المعنى للنهضة معنى تنفرد به الأمة الإسلامية؛ إذ تستند نهضتها إلى جانب الله والإيمان به وسلوك سبيله، وهو لا يكون في غيرها من النهضات".
والركنان الآخران للنهضة -عند حسن البنا- هما القوة المعنوية والقوة المادية،
وبهذه الأمور الثلاثة يتكامل الإطار النظري للنهضة، فإذا قويت روح الأمة وأخلاقها تبع ذلك حتمًا دوام التفكير في وسائل القوة المادية، والتفكير في القوة نفسها، وهذا هو ما يشير القرآن إليه في قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقوله سبحانه وتعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (35).
ولذلك كان طبيعيًا أن يرى الإم البنا في السعي إلى تقليد الغرب، ومحاولة أن نكون "قطعة من أوروبا" مخاطر جسيمة تهدِّد كيان المسلمين والشرقيين عمومًا وتنسيهم "كرامتهم وعزتهم ومقدساتهم وتنسيهم مهمتهم" .
وهو يقرر بألفاظ مختلفة في المناسبات كلها أن أساس النهضة هو تقديم الإسلام باعتباره "دينًا قيمًا فيه النظام الشامل والقانون المحكم والدستور الكافل لسعادة الأمم ورفاهيتها وصلاحها في الحياة وبعد الحياة".
وأن علينا أن نجعل هذا الإسلام المتمكن في نفوس أهله أساسًا للنهضة الشرقية الحديثة، بذلك تصطبغ نهضتنا بصبغة شرقية مجيدة تجذب نحوها أفئدة الشعوب، وتعيد للشرق مجده المسلوب وعزه المغتصب".
بل هو يرى أن أساس هذه النهضة هو الذي يحقِّق للأمة الإسلامية أن تستعيد "قيادة العالم إلى الخير"، فهي ليست دعوة إلى نهضة محلية فحسب، وإنما هي إيمان بأن الإسلام هو مستقبل الشرق والغرب معًا في ظل الأخوة الإسلامية العالمية".
كما حدد مبكرا أن صورة الإسلام الشامل الذي يحكم الحياة كلها، هي الصورة التي تكون اساسا لهذه النهضة
فهو يرد على الدكتور طه حسين حين نشر كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، فيقول: "الذي نخالف فيه الدكتور طه حسين، وغير الدكتور طه حسين ممن يؤمن بفكرته هذه:
ادعاء أن هذا التفريق بين الدين والسياسة، وبين الدين والقومية، وبين الدين والعلم نافع لنا متفق مع تعاليم ديننا.
هذه دعوى ينقصها الدليل النظري والدليل التاريخي، وتتنافى مع مصلحتنا ومقومات نهضتنا.
والذي يريد أن يجرِّد الإسلام عن معناه القومي وعن معناه الثقافي يريد بمعنى آخر ألا يكون هناك شيء اسمه الإسلام تؤمن به هذه الأمة وتدين به"
وقد خاطب الإمام البنا، المخالفين -في المقال نفسه- بقوله: " ألستم مسلمين أيها الناس؟
ألا ترضون الإسلام حَكَمًا؟..
نرجو أن تكونوا صرحاء... وإن كنتم آمنتم بالإسلام على أنه حق ثابت فنحن نرضى أن نتحاكم جميعًا إليه وحينئذ سنلتقي وسنتفق وستعلمون أن الدولة والقومية والعلم من أركان الإسلام".
وحدد الإمام الشهيد أسس منهج التفكير الذي يجب اتباعه لرسم مشروع النهضة للأمة الإسلامية ..
والدعائم الفكرية لهذا المنهج ثلاث؛
أولها: تحرير العقل وفتح آفاق التفكير أمامه، كما دعا القرآن الكريم إلى ذلك وحث عليه، والبنا يرى التفكير عبادة لا تعدلها عبادة، لأن "القرآن ربط بين القلب المؤمن والعقل المفكر".
والعقل "محكوم بحدود الشرع، ولا بد أن يسلِّم لخالق الكون ومدبر الأمر كله".
وثانيها: العلم الذي يؤازر القوة الروحية، ويوجهها أفضل توجيه ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والقرآن يجعل العلم فريضة كالقوة تمامًا، لا يفرق بين علم الدين وعلم الدنيا، بل أوصى بهما جميعًا.
ولكن التمييز بين العلم الضار والعلم النافع ضروري.
والأخذ عن الغرب يجب أن يفرِّق بين النافع والضار من خصائص حضارته، وعلينا أن نقف موقف الناقد البصير الذي يأخذ الطيب وينفي الخبيث".
وثالثها: تجديد التراث وتوحيد الثقافة.
- أما الدعائم السياسية للنهضة فقد حددها الإمام حسن البنا في أربعة أمور:
أولها: القيادة التي تُحدث في الأمة ثورة فكرية تدفع الإنسانية كلها -وليس أمة القائد فقط- إلى الأمام عدة مراحل.
والمثل الأعلى في ذلك هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وثانيها: هو الوحدة التي ستزيل كل عوامل الفُرقة التي تمزِّق شمل الأمة وهي شرط لازم للاستفادة "من وحدة الأوطان التي تمتدّ من المحيط إلى المحيط"،
وصورة هذه الوحدة عند الإمام البنا صورة عملية تتم بأن تقرِّر كل أمة من أمم العالم الإسلامي شعارًا ثلاثيًا هو النظام الإسلامي الاجتماعي في الداخل، والتحرر من كل سلطان أجنبي في الخارج، والتعاون بين الأمم الإسلامية في جميع أنحاء الأرض، وهذه خطوة في سبيل الوحدة السياسية الكاملة التي تأتي بعد ذلك في أوانها.
وثالث الدعائم السياسية للنهضة: التحرُّر من الاستعمار، فهو عدو كل نهضة، وعائق كل تقدُّم.
والدعامة الرابعة: الحكم الإسلامي، ويقصد به البنا إقامة السلطة السياسية الوازعة التي تجعل "نظام الحكم إسلاميًا قرآنيًا" والحكومة "إسلامية صحيحة الإسلام صادقة الإيمان مستقلة التفكير والتنفيذ.." .
المنطلقات التي اعتمدها الأستاذ البنّا لوضع مشروع نهضة الأمة:
أولا : التفكير في التحديات التي تواجه الأمة :
من المتعارف عليه في فقه مواجهة الأزمات، أن يتجه الذين يريدون حل أي أزمة أولا إلى التفكير فيها، واستعراضها من جميع جوانبها، وتحليل عيوبها، ويأتي بعد ذلك البحث عن حلول لهذه الأزمة، وهذا ما انتهجه عليه رحمة الله فقال:
" ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، حوادث عدة ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد، والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس...
ولقد أخذت أفاتح كثيراً من كبار القوم في وجوب النهوض، والعمل، وسلوك طريق الجد، والتكوين، فكنت أجد التثبيط أحيانا، والتشجيع أحيانا، والتريث أحيانا، ولكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية ....
ولّيت وجهي شطر الأصدقاء والإخوان، ممن جمعني وإياهم عهد الطلب، وصدق الود، والشعور بالواجب، فوجدت استعدادا حسنا ...
وكان عهد، وكان موثق، أن يعمل كل منا لهذه الغاية، حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة".
“ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلت إليه إلى حد البكاء...
كنا نعجب لهؤلاء الناس وكثير منهم من المثقفين، ومن هم أولى منا بحمل هذا العبء، ثم يقول بعضنا لبعض : أليس هذه داء من أدواء الأمة ولعله أخطرها، ألا تفكر في مرضها، وألاّ تعمل لعلاج نفسها...
ولهذا وأمثاله نعمل، ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا، فنتعزى ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه “.
( رسالة المؤتمر الخامس ) .
ثانياً دراسة التاريخ والواقع :
إن التاريخ هو كنز الخبرات، ومعرض المآلات، ومدرسة لمعرفة أسباب النجاح والإخفاق، وأن من أجاد فنّ الاعتبار فقد اطمأن على صحة المسار،
ومن هنا أيقن رحمه الله، أن على كل من أراد أن يحدث تغييرا اجتماعيا، لابد أن يكون له مع التاريخ وقفات، لاستلهام العظات، وتجنب العثرات، ومراقبة حركة السنن الإلهية، في المجتمعات، من حين تكوينها، إلى مراحل ازدهارها، وأسباب سقوطها وانهيارها،
ولقد اعتمد القرآن الكريم هذا الطريق، وسلك هذا السبيل في التقويم، فعرض علينا صورا شتى لأمم كانت مندثرة فظهرت، وأخرى كانت عامرة فخربت، وكل ذلك للاعتبار، وقراءة الأسباب، وتوضيح السنن التي تقوم عليها الحياة،
ويمكن أن ننوه بأن دراسة التاريخ تحتاج إلى وقفة أكبر، وأشمل، وأعمق، ولكننا معنيون هنا فقط ببيان المنهجية التي تأسست عليها الفكرة ..
ويمكن أن نسجل هنا بعض النظرات التاريخية للأستاذ البنا في ثنايا رسائله :
“إن نهضات الأمم جميعا إنما بدأت على حال من الضعف يخيل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال، ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر، والثبات، والحكمة، والأناة، وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجوا القائمون بها من توفيق ونجاح ....!
ومن ذا الذي كان يصدق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان .. !
وتسيطر بنفوذ أبناءها الروحي والسياسي، على أعظم دول العالم ؟
ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر، وهو ذلك القلب الرقيق اللين، وقد انتقض الناس عليه وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشا تقمع العصاة، وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين ؟ “
( رسالة إلى أي شيء ندعو الناس ).
أساس النهضة في ضوء دراسة التاريخ
لقد أدرك الأستاذ البنا عليه رحمة الله أن بداية إنشاء هذه الأمة كان بفضل التوجيه الرباني الذي خصها الله به، مؤكدا أنها كانت بداية صحيحة، ومتينة، وأن وضوح، وقوة مبادئها الأولى هو الذي شكل الإطار الحضاري الذي ارتسمت في داخله معالم الأمة الوليدة فقال :
“منذ ألف و ثلاثمائة سنة و سبعين عاما نادى محمد بن عبد الله النبي الأمي في بطن مكة وعلى راس الصفا :
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158) .
فكانت تلك الدعوة الجامعة حدا فاصلا في الكون كله، بين ماض مظلم، ومستقبل باهر مشرق، وحاضر زاخر سعيد، وإعلانا واضحا مبينا لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير ومبلغه محمد البشير النذير، وكتابه القرآن الواضح المنير، وجنده السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وليس من وضع الناس، ولكنه صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة :
(مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى:52-53) .
على قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل قامت الدولة الإسلامية الأولى تؤمن به إيمانا عميقا وتطبقه تطبيقا دقيقا وتنشره في العالمين ...
وشملت الوحدة بكل معانيها ومظاهرها هذه الأمة الناشئة،
فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن ولغة القرآن،
والوحدة السياسية شاملة في ظل أمير المؤمنين وتحت لواء الخلافة في العاصمة،
ولم يحل دونها أن كانت الدولة الإسلامية لا مركزية في الجيوش، وفي بيوت المال، وفي تصرفات الولاة، إذ أن الجميع يعملون بعقيدة واحدة وبتوجيه عام متحد .
.......
وقد اتصلت بغيرها من الأمم، ونقلت كثيراً من الحضارات، ولكنها تغلبت بقوة إيمانها ومتانة نظامها عليها جميعاً، فعربتها أو كادت، واستطاعت أن تصبغها وأن تحملها على لغتها ودينها بما فيهما من روعة وحيوية وجمال، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعاً، من غير أن يؤثر ذلك في وحدتها الاجتماعية أو السياسية .
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
أسباب التدهور بعد النهوض
بعد أن قام الإمام البنا رحمه الله في ضوء دراسته للتاريخ بتحديد أساس نهضة الأمة، استمرت وقفاته مع تاريخ الأمة الإسلامية لتحديد الأسباب التي أدت إلى تدهور أحوالها من بعد النهوض .... فيقول :
“ومع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع، فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية، وتعظم وتنتشر وتقوى شيئا فشيئا حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار، وفي القرن الرابع عشر الهجري مرة ثانية، وتركت وراءها في كلتا المرتين أمما مبعثرة و دويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب للنهوض ..” .
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
وكانت أهم هذه العوامل ما يلي :
1. الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه ..( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا.. وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال46 .
2. الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.... (ما ضل قوم بعدي على هدى إلا أوتوا الجدل ...) .
3. الانغماس في ألوان الترف والنعيم، والإقبال على المتعة والشهوات....(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16) .
4. ـ انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم لمعانيه....(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118).
5. ـ إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة ...( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس:101)
6. غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم، حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة، وأخذتهم على غرة، وقد أمرهم القرآن باليقظة وحذرهم من مغبة الغفلة واعتبر الغافلين كالأنعام بل هم أضل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179).
7. الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم والأمر الصريح بمخالفتهم والمحافظة على مقومات الأمة الإسلامية والتحذير من مغبة هذا التقليد..... (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100) .
8. ضعف الدافع العقدي ...(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (آل عمران:149) .
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
حال الأمة في مراحل ضعفها
ذكر الإمام رحمه الله أن الأمة قد واجهت على حال ضعفها، عدة أشكال من الصراع، وأولها :
الصراع السياسي...
اتخذ هذا النوع من الصراع عدة أشكال على مدار قرون، فقد انغرس خنجر التتار في قلب الخلافة ببغداد سنة 656هجرية، فتناثرت حبات عقد الخلافة، وتفرقت الأمة إلى دويلات، وتتالت عليها تسع حملات صليبية، وتُوِّجتْ هذه الحملات بإقامة دولة صليبية في بيت المقدس وتهديد دول الإسلام في الشرق والغرب.
وبالرغم من هذا المحاق، إلاّ أن الله تعالى لم يأذن بعد بانتصار الباطل على الحق، فعاد بيت المقدس في حطين، ودُحِر التتار في عين جالوت، وعادت الخلافة من جديد وارفة الظلال تحت لواء العثمانيين، وفُتحت القسطنطينية وامتد الإسلام إلى قلب أوربا ..
ولكن أوروبا لم تهدأ كما هدأنا، ولم تغفل كما غفلنا، فلم تضيع الفرصة، فأخذت تتجمع، وتتقوى، تحت لواء الفرنجة في بلاد الغال، فقامت الدولة الأسبانية الفتية على أنقاض الأندلس، واكتُشفت أمريكا، ونبغ فيها كثير من المصلحين، وتكونت فيها الأحلاف المقدسة، وأقبلت على العلم الكوني والمعرفة المنتجة المثمرة .....،
وعاد الهجوم ...!
لقد انتهت مرحلة الصراع السياسي بالحرب العالمية الأولى، وقُسمت تركة الرجل المريض!! بأشكال مختلفة، كالاحتلال، والانتداب، والوصاية، والاستعمار، وانتصرت أوروبا في هذا الصراع السياسي، ثم هبّت هذه الدول إلى المطالبة باستقلالها، وظهر المعنى القومي الخاص بكل دولة، وفي هذه الأثناء اشتعلت الحرب العالمية الثانية .
بتصرف من رسالة ( بين الأمس واليوم ) .
الصراع الاحتماعي
اتخذ هذا النوع من الصراع والتدافع عدة أشكال، على مدار قرون، حيث يقول الأستاذ البنا تحت عنوان: حضارة جديدة تتبلور “ إن الأمم الأوربية التي اتصلت بالإسلام وشعوبه في الشرق بالحروب الصليبية، وفي الغرب بمجاورة عرب الأندلس وخالطتهم، ولم تستفد من هذا الاتصال مجرد الشعور القوي أو التجمع والتوحد السياسي، ولكنها أفادت إلى جانب ذلك يقظة ذهنية وعقلية كبيرة واكتسبت علوما ومعارف جمة ...”
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
وقد حددت كتابات الإمام البنا في أكثر من موضع بعضا من نتائج هذا الصراع فيما يلي:
1. ظهور نهضة أدبية وعلمية واسعة النطاق في أوروبا .
2. نشوب صراع عنيف بين هذه النهضة وبين الكنيسة انتهى بانتصار الأولى .
3. قيام الثورة الصناعية الإنتاجية كثمرة من ثمرات النهضة العلمية الحديثة .
4. امتداد سلطان الدولة الأوربية إلى كثير من البلاد والأقطار .
5. قيام الحياة والحضارة الأوروبية على قاعدة إقصاء الدين عن الدولة، والمحكمة، والمدرسة .
6. طغيان النظرة المادية، وجعلها المقياس في كل شيء، وتفشي قيم جديدة مثل الإلحاد، والإباحية، والأنانية.
ولم يقف هذا الصراع الإجتماعي عند هذا الحد، بل عملت الدول الأوروبية المنتصرة على نقل هذه الحياة بما احتوته من غث، بعد أن حجبت السمين منها، إلى البلاد الإسلامية .
يقول الإمام البنا في ذلك :” ... وقد عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية، بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة، جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها أيديهم، وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة، من العلوم والمعارف والصناعات، والنظم النافعة، وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي، إحكاماً شديدا، واستعانوا بدهائهم السياسي، وسلطانهم العسكري، حتى تم لهم ما أرادوا.
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
وقد سلكت الدول الأوروبية في سببيل تحقيق ذلك، كما ذكر رحمه الله هي:
1. إغراء الحكام بالاستدانة منهم والتعامل معهم .
2. اكتساب حق التدخل الاقتصادي، وإغراق البلاد برؤوس الأموال، والمصارف، والشركات، وإدارة دولاب العمل الاقتصادي كما يريدون .
3. تغيير قواعد الحكم والقضاء، والتعليم، وصبغ النظم السياسية، والتشريعية بصبغتهم .
4. جلب النساء، والخمور، والمسارح، والمراقص، والملاهي، والأدبيات، والسلوكيات الماجنة .
5. إنشاء المدارس، والمعاهد العلمية والثقافية الغربية في عقر ديار الإسلام للتشكيك والتغريب .
6. جعل أبناء الإسلام يحتقرون دينهم، وأوطانهم، ويقدسون كل ما هو غربي .
7. تلاحق البعثات الدراسية لاستكمال عملية الغزو الثقافي والاجتماعي المنظّم .
وقد اتسع هذا الصراع ليإخذ شكلاً آخر، وبعداً أعمق، حينما توجه إلى النخبة وعقلاء المسلمين، محاولا خداعهم...!
يقول الإمام الشهيد رحمه الله :
“ ومع هذا فالموجة تمتد بسرعة البرق لتصل إلى ما لم تصل إليه بعد من النفوس، والطبقات والأوضاع.... ولقد استطاع خصوم الإسلام أن يخدعوا عقلاء المسلمين، وأن يضعوا ستاراً كثيفاً أمام أعين الغُير منهم، بتصوير الإسلام نفسه تصويراً قاصراً في ضروب من العقائد، والعبادات، والأخلاق، إلى جانب مجموعة من الطقوس والخرافات والمظاهر الجوفاء، وأعانهم على هذه الخديعة:
جهل المسلمين بحقيقة دينهم، حتى استراح كثير منهم إلى هذا التصوير واطمأنوا إليه ورضوا به، وطال عليهم في ذلك الأمد، حتى صار من العسير أن نُفهم أحدهم أن الإسلام نظام اجتماعي كامل يتناول كل شؤون الحياة.
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
ثم يستطرد الإمام رحمه الله في بيان مظاهر التدافع التي مرّت بها الأمة، والمنعطفات التي أثّرت في تاريخها وقلبت الموازين فيها، وذلك في إطار وضع العاملين في حقل النهضة أمام المفاصل التي يجب أن يقفوا أمامها طويلا، ويحللوا الأسباب، والظروف التي أوصلت أمتنا إلى ما وصلت إليه .... فيقول :
“ ونستطيع بعد ذلك أن نقول: إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية، قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس، ميدانها نفوس المسلمين، وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري، ولا عجب في هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ، والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140)، وإن كانت مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية في ذاتها فياضة بالخصب والحياة، جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك، لأنها الحق ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة بغيرها، ولأنها من صنع الله وفي حياطته: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، (وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32) .”
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
لقد أدرك رحمه الله أن المباديء المادية قد انتصرت في هذا الطور من الصراع الاجتماعي، بالرغم من وجود المباديء الروحية القويمة في أرض الإسلام نفسه ..!
ولأن دراسة التاريخ واستقرائه، تحتم على كل محاول للاستفادة منه، أن يُقرّ بالحقائق الشاخصة، والنتائج السافرة التي وصلت إليها الأمة في فترة أفول نجمها، وانفراط عقدها، لأن السنن لا تحابي، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه .
وبعد ذلك ينتقل بنا الأستاذ البنا إلى مرحلة ما بعد هذه الهيمنة، ليؤكد أن نور الله لم يكن ليُطفأ، وإنما هي الأيام دُولٌ ... فيقول :
وكما كان لذلك العدوان السياسي أثره في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره في انتعاش الفكرة الإسلامية، فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام وتفهم أحكامه وتطبيق نظامه، ولابد أن يأتي قريبا ذلك اليوم الذي تندك فيه صروح هذه المدنية المادية على رؤوس أهلها، وحينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل به قلوبهم وأرواحهم ولا يجدون الغذاء والشفاء والدواء إلا في تعاليم هذا الكتاب الكريم :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:57-58).
( رسالة بين الأمس واليوم ) .
ولم يقف الإمام البنا في منهجه لدراسة التاريخ كأساس منهجي لرؤيته للنهضة، بل اتسع تناوله لكي يدرس من خلاله:
تاريخ الأمم الناهضة:
إذ يقول رحمه الله في هذا الشأن: “ وأنت إذا راجعت بذاكرتك إلى تاريخ الفرق الإسلامية، وإلى الأدوار التي سبقت، وقارنت قيام الدولة العباسية في الشرق، ثم إلى نهضة الدول الحديثة الأوربية، من فرنسا وإيطاليا، وروسيا، وتركيا سواء في الدور الأول، وهو دور تكوين الوحدات وتأسيس الحكومات، أو في هذا الدور وهو دور تكوين المباديء، ومناصرة النظريات، لرأيت كل ذلك يخضع إلى مناهج معروفة الخطوات تؤدي إلى النتيجة الحتمية التي تعمل لها الأمة ..”
( رسالة هل نحن قوم عمليون ؟ )
“ وإن نهضات الأمم جميعاً، إنما بدأت على حال من الضعف يخيَّل للناظر إليها، أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال “...
ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل، إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح، ومن ذا الذي كان يصدِّق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟”
لقد كان تشخيص الداء مرحلة هامة قبل وصف العلاج وهو ما رسمه الإمام البنا عليه رحمه الله فيما سبق.
فبعد أن درس الإمام البنا تاريخ المسلمين ووقف على أهم عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية التي صمدت في وجه الأنواء حتى القرن السادس الهجري عندما مزقتها جحافل التتار ثم جاء الغزو الأجنبي في القرن الرابع عشر الهجري ليترك وراءه ما نراه اليوم من أمم مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب للنهوض.
شرع الإمام رحمه الله في تحديد أساس ومنطلق النهضة المرجوة للامة، فأخذفي توضيح وتجلية كيف يمد الإسلامُ الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر بما لا يدع مجال للشك أمام كل مسلم وعربي بل وكل إنسان بأن مزايا التوجه الإسلامي تحقق للأمة النهضة المأمولة وخاصة أنه قد جُرِّب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته، وله من القدسية والاستقرار في النفوس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه، فضلا عما يعنيه ذلك من توليد مشاعر الاعتزاز بالقومية الصحيحة والإشادة بالوطنية الخالصة حيث نبني في هذه الحالة، حياتنا على قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ عن غيرنا، وهذا أرقى معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي ..
وأنّ السير على هذا المنهج وتشييد النهضة على أصول الإسلام تقوية للوحدة العربية أولا ثم للوحدة الإسلامية ثانياً.
وقد مثل فكر التجديد والنهضة الذي استقاه الإمام الشهيد حسن البنا، مدرسة "إحيائية" جديدة في الفكر الإسلامي في ذلك الوقت، والذي قام على أسس:
- شمولية الدين الإسلامي
- المنهجية
- تسامح الدعوة
- الوضوح.
وقد ميَّزت هذه الأسس فكر الجماعة عن غيرها من تياراتِ الدعوة الإسلامية، وقد استمرت هذه السمات تطبع فكر الجماعة بعد استشهاد الإمام رحمه الله وحتى يومنا هذا.
أولا: شمولية الدين الإسلامي
استند الإمام الشهيد في دعوته على أنَّ الدينَ الإسلامي شامل لكل مناحي الحياة ولا يستثني منها ناحية، فكان في ذلك خروجًا على الفكرِ القائم في محيطِ الدعوة الإسلامية وقتذاك في مفتتح القرن العشرين،
فقد كانت الدعوة الإسلامية وقتها تتلخص في تعليم القرآن الكريم وبعض علوم الحديث دون الالتفاتِ إلى باقي النواحي الأخرى في التعاليم الإسلامية، وفي مقدمتها بناء الإنسان المسلم على أسسٍ إسلامية كاملة، وتخطيطه لحياته وفق النهج الإسلامي.
لذا عمل الإمام الشهيد على تأسيسِ منهج دعوي يستند إلى شمولية الدين الإسلامي، فسعى إلى رسم خططٍ لحياة إسلامية تستند في جميع أطرها على تعاليم الإسلام.
وبالإضافة إلى ذلك جاءت الشمولية في فكر الإمام حسن البنا بصورةٍ ثانية، وهي شمول جميع الأفراد بالدعوة الإسلامية دون استثناء جماعة، أو تفضيل مجموعة من البشر على حساب الأخرى،
جاء الإمام البنا وحال الأمة في فهم الإسلام على ما سبق بيانه، فبين أن إسلام الإخوان المسلمين قائمٌ على ركائز ثلاث، يعتقدها الإخوان ويؤمنون بها ويعملون ويدعون ويضحون في سبيلها:
1- إن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شئون الناس في الحياة الدنيا وما يترتب على ذلك من سعادة في الآخرة، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجيش، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان فيه جميعا، وإلى هنا تشير الآية الكريمة (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص: 77).
2- أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا، وأن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها ... لذا يجب أن تستقى النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا غير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام للبشرية جميعا.
3- إن الإسلام كدين عام انتظم شئون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان، جاء أسمى وأكمل من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشئون، ويرشد الناس إلى الطرق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها ... وقد عنى الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكيل ..
"رسالة المؤتمر الخامس".
ومن هنا أدرك الإخوان بأنه لا يمكن أن ينصلح حال الأمة إلا إذا صلح تَصوُّرُها عن دينها أولاً، وأنه منهجٌ متكاملٌ للحياة، وصالح لكل زمان ومكان، ولقد صدق الإمام البنا حينما بيَّن أن دعوة الإسلام بهذا الفهم "قد امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضًا حتى وسعت آفاق الأمم، وامتدت عمقًا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة".
ثانيا : العمل بمنهجية
كانت العشوائية هي السائدة في الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت في بدايات القرن العشرين؛ حيث لم تكن هناك مدارس فكرية إسلامية قائمة بذاتها، فاقتصر البحث والتجديد على الأفراد دون أن ينجح أحدهم في تأسيسِ مدرسة متكاملة للفكرِ الإسلامي،
وقد تنبَّه الإمامُ البنا إلى هذه السلبية فكان أن دعا إلى الإسلامِ وفْق أسس وقواعد محددة ساهمت في ترسيخِ الدعوة، وقد استمرَّت صفة المنهجية والتنظيم سائدة في الجماعة حتى اليوم وهي الصفة التي شهد بها الكثيرون من الباحثين والمتابعين.
وأكبر دليل على منهجيةِ وتخطيط الإمام الراحل حسن البنا للدعوة الإسلامية ما ورد في أوائل رسائله من النظر إلى مواقف الناس من الدعوة بتقسيمهم إلى 4 من الأنماط، وهذه الأنماط هي المؤمن والمتردد والنفعي والمتحامل مع تفصيل الطريقة المثلى للتعامل مع كل نمط بالصورة التي تحقق المنفعة الأكبر للدعوة.
واستمر فعل المنهجية في بناء أسس الدعوة، حينما حدد رحمه الله، أهداف الجماعة، قائلاً: "نحن نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، والحكومة المسلمة، والدولة التي تقود الدول الإسلامية، وتضم شتات المسلمين وبلادهم المغصوبة، ثم تحمل عبء الجهاد ورفع لواء الدعوة إلى الله تعالى حتى يسعد العالم بتعاليم الإسلام"،
وحدد هدفين سياسيين أساسيين هما :
تحرير الوطن الإسلامي وتأسيس الدولة الإسلامية،
وبما أن ظروف الواقع لم تكن تساعد على تحقيقِ هذين الهدفين، فقد وضع الإمام البنا أهدافا أساسية تراتبية للوصول إلى هاتين الغايتين:
وكانت هذه الأهداف هي تكوين الإنسان المسلم ثم البيت المسلم، وبالتالي المجتمع المسلم؛ الأمر الذي يُسهم في تحقيقِ الأهداف الأساسية ثم أهداف الإخوان المسلمين في الدولة الإسلامية العالميةز
وبذلك وضع الإمام معلما منهجيا لعمل الجماعة، وهو ما كان مفقودًا في كل تياراتِ الدعوة الإسلامية التي كانت سائدة وقتها.
ثالثا : تسامح الدعوة:
من أهم السماتِ التي بنى عليها الإمام الشهيد فكر الدعوة ومشروعها الإسلامي لنهضة الأمة وتميز فيها عن غيره من السابقين، تسامح دعوة الإخوان المسلمين وعدم تحيزها إلى رأي أو فكرٍ خاص، وهو ما أكسبَ هذه الدعوة السمعة الحسنة والقبول الطيب اللذين ساهما في انتشارها في مختلفِ الدول والمجتمعات الإسلامية.
ومن أبرز سمات التسامح في الدعوة التي أطلقها الإمام الشهيد محاولة تجميع المسلمين وعدم التفرقة بينهم؛ وذلك من خلالِ الحرص على توجيه الدعوة لجميع المسلمين في جميع بقاعِ الأرض:
"فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة".
وقوله يرحمه الله:
"فنلتمس العذر لمَن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلافَ لا يكون أبدًا حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟"
رابعا: الوضوح :
في ظل ما كان سائدًا في حقل الدعوةِ الإسلامية آنذاك من غموض حول الفكر الإسلامي وعدم اتضاحه واقتصار التعليم في الأزهر الشريف على الحفظ والتلقين دون إعمال العقل، سادت العديد من المستغلقات الفكرية في الأذهان الإسلامية، فغمضت بعض تعاليم الدين الإسلامي عن العامة؛ وهو ما أدَّى إلى ضعفٍ في الوازع الديني لدى الإنسان المسلم، وهو الضعف الذي تفاوتت درجته وفق الشريحة الاجتماعية والفكرية للمرء، وخاصة الإنسان المسلم البسيط الذي تداخلت في ذهنه التكاليف والأمور الدينية فصارت المظهريات في الممارسة الدينية هي الأساس عنده.
لذا حرص الإمام البنا على أن تكون الدعوة الإسلامية التي يتبناها واضحةَ الأفكار والأسس غير غامضةٍ ولا تقبل اللبسَ من أجل شرح تعاليم الدين الإسلامي لكل الناس على اختلاف إدراكهم.
وفي هذا السياق قال: "نحب أن نصارح الناس بغايتنا، وأن نجلي أمامهم منهجنا، وأن نوجه إليهم دعوتنا، في غير لبس ولا غموض، أضوأ من الشمس وأوضح من فلقِ الصبح وأبين من غرةِ النهار".
وأكد أيضا على أننا : "نحن ندعو الناس إلى (مبدأ).. مبدأ واضح محدود مسلم به منهم جميعًا".
فعلى هذه الأسس أقام الإمام البنا بنيان مشروع النهضة عند الجماعة، والذي كانت أهم خصائصه المرونة والبساطة والشمول والتكامل والربانية والواقعية وهي من أهم خصائص الإسلام نفسه ..
وسوم: العدد 693