الشهيد مسعف خطاب البارودي

كثيرة هي الأسماء التي تدل في حماة على حقيقة المسمى، ابتداءً من اسم المدينة نفسه، سواءً أكان حُماة أم حِماة فهي تدل على الحمية والمروءة.

ومروراً بالخلفيات التي اعتمدت أخلاقية معينة اشتهرت بها مدينة أبي الفداء، فجاء كثير من الأسماء مشتقة من طبيعة السلوك اليومي، فكان اسم شهيدنا أبي عارف (مسعفاً) يدل فيما يدل على الإغاثة والنجدة والإسعاف مع حزم وعمق تفكير، ورباطة جأش في الساعات الحرجة، وخبرة عملية في الأمور الجهادية، اكتسب بعضها من الخدمة الإلزامية ضابطاً برتبة ملازم في اختصاص هندسة المتفجرات.

في عام خمسين وتسعمائة وألف، وبعد استقلال سوريا بسنوات، ولد الشهيد (مسعف عارف خطاب البارودي) ليفتح عينيه على جراحات حماة الغائرة، وليسمع قصص البطولة والفداء يرويها الآباء للأبناء عن بطولات المدينة، التي لا تنام على ضيم، ولا تستخزي أمام جبروت.

حتى آثار الطلقات في حجارة وأبنية الحي القديم البارودية، الذي ولد فيه الشهيد، لم تزل ناطقة بما فعل المستعمرون.

وما أفصحت عن بعضه حجارة حي البارودية الصماء، استكملته مدرسة سعيد العاص، ومدرسة صقر قريش، منذ أن دخلهما الشهيد عام 1957م، ليقضي فيهما المرحلة الابتدائية، وفي المدرستين اللتين تحملان اسمي بطلين من أبطال الأمة، غُذي مسعف بلبان التاريخ الإسلامي، وأخلاقية العرب، في ظل الدعوة السمحاء.

وانتقل بعد ذلك إلى مدرسة (عثمان الحوراني) عام 1963م، ليحصل عام 1970م على الشهادة الثانوية، وليكون طالباً في كلية الزراعة بجامعة حلب.

وما لم يكن رآه من قبل في مدينة حماة، بحكم تركيبها السكاني، وما لم يكن رآه قبل استلام أسد للسلطة بشكل نهائي وسافر، فقد رآه بعد عام 1970م في جامعة حلب، حيث لا حرمة لمعاهد العلم، ولا كرامة لرجال التعليم، ولا حصانة لمواطن مهما كانت درجة علمه، لا سيما وقد بدأت أفواج الطائفيين بالعودة إلى الوطن، واحتلال المناصب الرفيعة في الجامعات، بعد أن أنهت الدراسات العليا لتجسم بثقلها على معاهد العلم، كما جثمت على قطاعات الجيش من قبل.

وفي جو الصراع المكشوف بين الأمة المسلمة في القطر المجاهد، وبين العصابة المشبوهة الملوثة بكل نقائص التاريخ: كانت الكلمة الطيبة بذرة خير تنغرس في القلوب المؤمنة، وقارب نجاة يتنقل به عشرات الشباب، إلى شط الإيمان، لتوثِّقَ العُرى، وتتشابك الأيدي، وتشتد الأواصر في "جماعة الإخوان المسلمين"، التي آلت أن تبذل الدماء، وتضحي براحة أبنائها ومستقبلهم المادي، على أن تنزلق الأمة والشعب في مهاوي الباطنية عبر سير في الخط المعاكس لعقيدة الأمة وتاريخها، فوجد مسعف نفسه في الصف المجاهد عام 1974م، ليتربى على مبادئ الجهاد، ومائدة القرآن، وليغرف من ينابيع الهدى رشفات يشتد بها عوده، وتصلب عقيدته، ويتنامى تفكيره، وتخرج بها من نقطة الذات والمستقبل الشخصي، إلى عالم الدعوة الرحيب إلى الهدف الأسمى والغاية الأنبل، في تنبيه الأمة لمخاطر الباطنية اللئيمة، وقد أنشبت أظفارها في جسد القطر الذي لم تلتئم جراحه بعد.

وفي عام 1979م حين كشرت الطائفية عن أنياب عصل زرقاء، كان الأمر يتطلب ممن بايعوا على الشهادة أن يلقموها حجراً، تخلع الأنياب، وتفرغ سمها الزعاف، وكان لكل مجاهد ثغرة يرقب الله تعالى فيها أن تؤتى من قبله.. وكان لشهيدنا مسعف مهامه القيادية الجهادية، حتى إذا اشتدت السلطة في طلبه انحاز إلى قاعدة من قواعد المجاهدين.

ولما فجر الطائفيون الموقف في حماة عام 1982م بعد خطة مبيتة، ونوايا صفراء لئيمة، ظانين أن أنيابهم قادرة في كل مرة على النهش والتمزيق، فاجأهم المجاهدون بما لم يكن في الحسبان، وهم يعلمون أن المنية خير من الدنيّة، وأن استقبال الموت خير من استدباره، وأن الطعن في ثغر النحور، خير من الطعن في الأعجاز والظهور.

وغاب عن الأمة التي ينتسبون إليها، أو غُيِّبَ عنها، أن فتية محمد، وأحفاد سعد، آثروا أن يموتوا فداء لعقيدتها، وحفاظاً على تاريخها من اللوثة المجوسية الصفراء، على الرغم من أنها لم تكن بأسمع من غيرها إذ تبعث النداءات .. ولا مجيب.

ولم يفتَّ في عضد أبي عارف وإخوانه أنْ جمع الأعداء جموعاً لم يشهدها الجولان المحتل.

ولم يفت في عضدهم أسلحة الجيش وقد حولها الطائفيون إلى صدور أبناء حماة، كما أن استشهاد الأخ أبي بكر في اليوم الثالث لابتداء المعارك في شباط 1982، كان دافعاً للإصرار على المقاومة حتى الرمق الأخير.

فلقد شهدت أحياء حماة في مناطق البارودية والشرقية والحميدية أبا عارف يقود مجموعات التدخل السريع، لتوقع في المجرمين الوقائع.

وفي اليوم الثالث والعشرين من شباط، والمعارك على أشدها، والجراح راعفات، كان أبو عارف وإخوانه في دفاعهم عن مشفى للجرحى يأبون مغادرة البارودية، وقد أصروا على القتال حتى النهاية، وصوت أبي عارف يتضاءل بعد أن أصيب بقذيفة وهو يقول:

- لا يجوز التولي يوم الزحف.

ووالله ما تولى المجاهدون، ولكن الله يختار من عباده من يشاء، ليتخذ منهم شهداء... وأعظم به من اختيار، وأكرم بهم من مختارين.

وسوم: العدد 695