العلامة الشيخ محمد النبهان { 1900 ــ 1974 م } حلب
محمد النبهان الشخصية الفذَّة التي تهابها الملوك والأمراء . والولاية الحقة التي يغبطها العلماء ، والمجاهد الذي تشهد له المواقف .
علم من أعلام الإسلام ، وسيد من سادات الصوفية الكرام وأفرادهم .
عالم من أجلِّ العلماء ، بلغ من خلود اسمه أنه إذا قيل النبهان فقط ، انصرف ذلك إليه وحده
كان عالماً : العلماء الكبار تلامذة أمامه . وقد اجتمع حوله طائفة من التلاميذ صاروا أعلاماً كباراً منتشرين في جميع أنحاء العالم .
هو الشيخ محمد النهبان ، العارف بالله ، المحقق والمربي المجاهد ، أبو أحمد محمد بن أحمد النبهان الحلبي ، الرجل الذي رضع آداب القرآن الكريم والسنة النبوية، وفطمته العناية الإلهية عما سواهما .
عاش محمد النبهان في قلب مجتمعه ، تاركاً فيه مشاريع اصلاحية ، وإنجازات إنسانية وكان لحلب الشهباء شرف احتضانه .
نسبه :
هو الشيخ محمد بن أحمد بن نبهان ، ومنه عرف بالنَّبهان والنَّبهاني ، وأمَّا « نبهان » بن خضر وبه يدعى قومه : بالخضيرات ، وهم : أربع شُعب ، أكبرهم : حسين الملقب بـ « حوت » والثاني : حسن ، والثالث : أحمد الملقب بـ « غانم » لكرمه ، ورابعهم : نبهان . والخضيرات : بطن من العشائر الزبيدية . أما من جهة أمه فوالدته آمنة الخشمان ، وآل الخشمان : فرع من ذريّة موسى الكاظم رضي الله عنه من السلالة الحسينية لآل بيت الرسالة . ومنازل أعمامه وأخواله مدينة حلب وأريافها .
ولادته :
ولد الشيخ محمد النبهان في محلة باب النيرب بحلب سنة 1318 هـ الخامس من تموز 1900 ، وتربى تربية الدلال في كنف أبوين صالحين . وقد جُبِل « قُدس سره » على عقيدة سليمة بأهل الله ، وحب لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنذ حداثة سنه كان يتعشق الكمالات الإنسانية ، ويتلذذ بمكارم الأخلاق ، من صدق ونزاهة . وعرف الفتى بشجاعة نادرة طويت على قوة في الجسم ، ودقة في الرمي ، وباع في ركوب الخيل وترويضها .
كان والده رحمه الله زعيم قومه ، وصاحب ثروة طائلة ، أحبَّ ولده محمداً حباً جماً ، فزوجه وهو دون الثانية عشرة من عمره . ولما كان أكبر أبنائه الخمسة أسند إليه إدارة تجارته ، فاشتغل مع أبيه قرابة خمسة أعوام ، فحبب إليه العطاء وإقراض المعوزين ولولا معارضة أبيه لأودى بتلك الثروة بين قرض وصدقة
وما إن بدأ ينصرف إلى الدراسة وطلب العلم حتى جزع والده وبعث بشكوى إلى الشيخ نجيب سراج الدين لعله يقنعه بالعودة إلى التجارة ، فعرض عليه الشيخ رحمه الله تعالى أن يكون له درس واحد في اليوم أو يشطر النهار بين العلم والتجارة ، فأجاب :
« جبستان بكف لا تحمل ، إما العلم ، وإما التجارة وإني أريد العلم » . فبارك الشيخ نجيب سراج الدين سعيه وأكبر همته . واتخذ من الدكتور الشيخ معروف الدواليبي صاحباً ورفيقاً له فأقاما في الخسروية معاً في غرفة واحدة ، وكان أول كتاب قرأه هو « إحياء علوم الدين » للإمام الغزالي ، وولع بالسيرة النبوية وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وتلقى علومه باللغتين العربية والتركية . وتفقه أول أمره على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وبعد أن أمضى ست سنوات في الدراسة ، فاز في جميعها بالأولوية ، حزم كتبه وأمتعته للسفر إلى بغداد ليتم دراسته على مشايخ العراق ، إلا أن معارضة أبيه حالت دون تحقيق تطلعاته . أكرمه الله تعالى بالفتح وجلاء البصيرة القلبية ، كان ذلك بداية الفتح في الخامسة والعشرين من عمره تماماً ، فأدرك شيخه محمد أبو النصر سليم النقشبندي رحمه الله تعالى مكانة تلميذه فصار يقول له « هنيئاً لك يا ولدي ، لقد أخذت جميع ما عندي ، أنت أخذت قلبي ، أنت سبقتني ، أدع الله لي ولا تنسني » ثم عهد إليه بإدارة الختم النقشبندي في جامع باب الأحمر بحلب . وفي جامع باب الأحمر : ظهر أول مرة ، فالتف حوله جمع غفير بين سالك وتائب ومتبرك ، فضاق المسجد حتى أن من يمر بين القلعة والمسجد لا يظن القوم إلا في أمر جسيم لما هم عليه من ذكر وضراعة .
بقيت دوافع طلب العلم والدراسة تراود فكره فغادر حلب متوجهاً إلى مصر ، وفي الأزهر استوفى ما يحتاج إليه من علوم عقلية ونقلية في حلقات الشيخ محمد بخيت المطيعي ـ شيخ الأزهر ، وغيره . ثم رجع إلى حلب واستقر في جامع الكلتاوية سنة 1347 هـ / 1928 م . فعُرِض عليه أن يكون مديراً لمدرسة الخسروية فرفض . ولم يشغل الشيخ محمد النبهان أية وظيفة رسمية من قبل أو بعد ، إلا أنه توكل بالإمامة والخطبة في جامع الإسماعيلية وبلا مرتب نيابة عن صاحبه الشيخ عبد الله سلطان مدة غيابه في الأزهر .
في الشاذلية :
قال الشيخ محمد النبهان :
«وقد أخذت الطريقة الشاذلية في بداية أمري عن بعض المشايخ ، وكانت ثلاث مراتب ، كان بعضهم يقطع المرتبة في سنين، ولكن الله تعالى فتح عليَّ في المراتب الثلاث في بضع ساعات، وأخذت أكررها للشيخ وزيادة ، فعلم الشيخ محمد الهاشمي أن ذلك عناية من الله لي خاصة » . ويقول الشيخ محمد الهاشمي : ما قطعناه في سنوات قطعه الشيخ محمد النبهان في ساعات » وأجازه في هذه الساعات بأوراد السادة الشاذلية وتربية المريدين .
أحواله في السير والسلوك :
انقطع واعتكف في مسجد الكلتاوية ، وحجر على نفسه في غرفة طين صغيرة فكانت له البيت والخلوة والمدرسة . ولم يكن عنده لدى قدومه المسجد غير كتبه وحاجات بسيطة ، منها : نصف حصيرة ، وثوب واحد في الحرِّ والقرِّ ، إذا اهترأ ليس عنده ما يرقعه به ، غير أنه يتميز بالنظافة .
قال الشيخ محمد النبهان :
« صاحب الهمة لا يرضى بالكرامات ولا الجنان ومراتبها ، ولا يرضى إلا به ـ أي بالله تعالى ـ لا يبتغي به بديلاً » . على الرغم مما ظهر على يديه من كرامات جمة عديدة شهدها الخاصة والعامَّة . كما حرص أشد الحرص على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال . عرف عنه الصدق والصراحة فهما توأم فيه فطرةً وسجية ، قال : « لو كذب هذا اللسان لقطعته » وقال أيضاً : « كل من رأى نفسه أحسن من غيره فهو من تلاميذ إبليس » لأنه أعجب بنفسه .
آفاق دعوته وبلاؤه فيها :
كان ظهوره للناس نبأً مهماً بعد صمت مذهل ، وعزلة دامت إحدى عشرة سنة . وابتدأ بحلقات علم في المسجد ، وأمر على كل حلقة واحداً من أصحابه ، فكانت دروساً في البخاري ومسلم والسيرة النبوية والفقه إضافة إلى حفظ القرآن وتجويده . ولم يتوقف اهتمامه على الرجال وإنما شمل شرائح المجتمع كلها ذكوراً وإناثاً في جميع الطبقات والأعمار . وعمد إلى توزيع دروسه ومذاكراته على أيام الأسبوع ، فكانت على النحو الآتي : « درس للعلماء : بين المغرب والعشاء من كل ثلاثاء. درسان للنساء في صبيحتي السبت والأربعاء . ودرس لعامة الرجال : يوم الاثنين . ودرس لأهل محلته باب النيرب . ودرس للتجار : بعد عصري الأحد والجمعة . درس لطلبة العلوم الشرعية عامة مع أساتذتهم ، وآخر للمتقدمين منهم : خصّ به يوم الأحد بين الفجر وطلوع الشمس . درس للأطباء والمهندسين . والمحامين والمدرسين ، وآخر لطلبة الجامعة والثانوية ، مع مذاكرة يومية لعامة الناس والقرويين والفلاحين ، ما فرغ من دروسه السابقة . وخص يوم الخميس لزيارة القرى ، والجمعة بعد فرضها لحلقة الذكر . ولم تقتصر جهوده في الدعوة إلى الله على أبناء مدينته حلب ، وإنما تجاوزتها إلى القرى والأرياف والمدن الأخرى ، بل امتدت لتشمل أقطاراً عربية وإسلامية أخرى .. مثل العراق ولبنان وتركيا وغيرها . وكانت له زيارات إلى تلك البلاد كشفت عن شدة حرصه على خدمة الأمة الإسلامية ، وبذل كل طاقته في سبيل الهداية والدعوة ، كما كشفت في الوقت نفسه عن سمو مكانته وعظيم فضله ، وبعد همته ، وشدة ولعه بعقيدته ودينه . وذلك من خلال لقاءاته الكثيرة بالعلماء والفقهاء ورجال الصوفية وعامة الناس ، في كل مكان كان يحلُّ فيه. ولا سيما في العراق وفي بلاد الحجاز في موسم الحج .
ولا نغفل أهمية الجلسات الخاصة التي يقتطعها من راحته ووقته لتربية السالكين، يشخص لكل واحد فيها داءه ويرشده في أشعة الهداية المحمدية . كل هذه الأمور وغيرها كان مسجد الكلتاوية منطلقها .
وعجباً لسرعة رده وبداهته وكأنَّ الجواب حاضر على شفتيه يطرز مواعظه بالآية والحديث والمثل والشعر والقصة ، وكلماته ميزان الذهب . وهو قُدس سره يتحدث عن عوالم الأرض والسماء والجن والإنس والملائكة والبرزخ على سواء وكأنه ساكن فيها أو ينظر إليها ، ويشير إشارة إلى جغرافي على الخارطة .
مع مالك بن نبي من الجزائر :
« فيلسوف الإسلام » هكذا سماه الشيخ محمد النبهان قدس الله سره ، وهكذا عرف بين علماء العالم الإسلامي ، وحدث أن قام بجولة في بلاد الشام يتفقد بها أحوال المسلمين وعلماءهم ، حتى إذا وصل الكلتاوية واجتمع بالسيد النبهان دار بينهما حديث يتعلق بالجهاد في الإسلام ، فقال الشيخ النبهان : « يا مالك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ما جاء ليقتل الكافر وإنما ليقتل كفر الكافر ، فإن لم يتمكن من قتل كفره إلا بقتله قتله » . وقال مالك : يا أستاذ : أرجعت لي نفسي ، يا أستاذ أرجعت لي حقيقتي .
المونتانة بحلب :
وما أدراك ما المونتانة ؟ « المونتانة » اسم لحي كبير في حلب ، وسمي باسم الملهى ، وشيد على أحدث طراز فرنسي في الشرق الأوسط . لقد أقدم قدس سره على أمر لا يثير فتنة ولا يعمق جرحاً ، فنادى بمن حوله لشراء المبنى ـ وقدم ما عنده وقتئذ ، ومع ثمنه الباهظ آنذاك لم تمض إلا أيام حتى أقيم في « المونتانة » حفل كبير ارتفع فيه صوت المؤذن « الله أكبر » وأعلن الشيخ محمد النبهان قدس الله سره هناك أن المبنى أصبح « جامع الفرقان » ثم أطلق على الحي كله « حي الفرقان » وأصبحت المونتانة ، حي الفرقان ، وجامع الفرقان ، وهي اليوم من أهم الأحياء الإسلامية وأرقاها ، ومسجدها من أشهر المساجد في مدينة حلب.
دار نهضة العلوم الشرعية :
يقول الشيخ بشير حداد : منذ الأيام الأولى التي أقام فيها قدس سره في الكلتاوية كان ينظر إلى ساحة المسجد ويقول : « إني أرى هناك مدرسة شرعية وطلبة علم بعمائم بيض ، فتحقق الأمر بعد سبعة عشر عاماً » فما أن فرغ قدس سره من بناء المسجد حتى شرع في بناء المدرسة ، وافتتح الدراسة فيها سنة 1384 هـ / 1964 م ، واكتمل بناؤها بثلاثة طوابق فوق الأرض ، واثنين تحتها للنوم والإطعام . وسارت المدرسة بستة صفوف ، وفق نظام فريد في التربية الروحية والتعليم ، وحازت المرتبة الأولى بمنهجها وثمارها . وقد جمعت العلوم الغابرة والحاضرة إضافة إلى الفرنسية والإنكليزية ، وأصبح معدل تواجد الطلبة فيها ثلاثمائة طالب في السنة . والطالب فيها مكفول من جميع الوجوه أكلاً ولبساً ومؤنة سفر ، فإذا أكمل الطالب السنوات الست تأهل لدخول الأزهر الشريف أو إحدى الجامعات . وقد أضيفت فيما بعد سنتان دراسيتان لذوي الرغبة في زيادة علومهم في معهد باسم : « دار الحديث » ، ولا تزال المدرسة عامرة بخبرة الوافدين وهكذا ظهرت مدرسة النبهان وتطورت وأصبحت موئل عشاق العلم والمعرفة من سورية وخارجها ، وأسهمت في خدمات عظيمة للمسلمين بتخريج دفعات من الدعاة أئمة وخطباء ومدرسين وكانوا بحق قدوة حسنة ، نشروا العلم والدين في سورية ومصر والسعودية وغيرها من البلدان . ولشدة اهتمامه بخدمة الناس ، عمد بجمع من تلاميذه إلى مشروع إنساني فريد باسم « جمعية النهضة الإسلامية » بحلب وذلك في العام 1960 ، إذا تطلعت إلى الأهداف التي رسمها والمهام التي نهض بها أعاد إلى ذاكرتك بيت مال المسلمين في صدر الإسلام .
كراماته :
لقد كان قدس سره لا يعبأ بخوارق العادات ولا يهتم بها بل ينهى عن الركون إليها والوقوف عندها . في سنة 1956 زار الأردن وفلسطين وحضر أول مؤتمر إسلامي عقد في القدس .
من هو العارف بالله :
من حديث السيد النبهان ، العارف بالله الذي ينطلق في إرشاده من كتاب الله وسنة رسوله ، ويستعين على ذلك بما حباه الله من فراسة ومنن ومواهب . ويقول أيضاً : « العارف بربه هو المتحقق بصدق العبودية بحيث لم تبق فيه بقية حظوظ دنيوية أو أخروية وإلا لم يتحقق بالعبودية ، لا تتحقق عبديته حتى يتحرر من الأكوان ويتحقق بمقام أهل العرفان. تزوج مرة واحدة ورزق ولدين ذكرين وخمس بنات .
وفاته :
توفي رحمه الله في اليوم السادس من شعبان 1394 هـ الموافق 24 أب 1974 وما إن ذاع الخبر حتى ضجت المآذن والشوارع والبيوت للنبأ . واجتمعت الوفود من سورية وخارجها وقد ضاقت بهم الكلتاوية . وفي عصر اليوم التالي 25 / آب كان التشييع إلى مرقده الأخير في مسجد الكلتاوية . بعد أن خلَّف أثراً كبيراً في حياة الأمة ، وترك بعده إرثاً معرفياً وسلوكياً ، من خلال أقواله وتحقيقاته ، ومفاهيمه الإسلامية التي تصلح لهذا العصر الحديث وتُصلحه ، ومن خلال عدد كبير من رجالات العلم الأفذاذ ، الذين تربُّوا في مدرسته المحمدية.
عامر رشيد مبيض ، مؤرخ حلب عالم آثار Aleppo
وسوم: العدد 715