"أبو سعد المقلي" وعلم التراجم

أبو الحسن الجمّال

clip_image002_89c98.jpg

أبو سعد المقلي

برع في عصرنا العديد من رواد علم التراجم، وعلى رأسهم خير الدين الزركلي صاحب قاموس الأعلام، وقد ذيل عليه العديد من المؤرخين، نذكر منهم: أحمد العلاونة، ونزار أباظة، ومحمد خير رمضان يوسف..

 وخلال زيارة الأستاذ أحمد العلاونة لمدينة القاهرة في مارس الماضي..ذهبت إليه للقائه حيث ينزل في فندق المالكي بجوار مسجد الحسين.. وجدت في بهو الفندق شاب يشع من عينيه الذكاء والنبوغ، ولما سألت عن الأستاذ العلاونة، فعرفت أنه لم يصل بعد من مشواره في معهد المخطوطات، فانتبه لي وتعرفت عليه، فوجدته بحر لا ساحل له وخصوصاً في فن التراجم، فهو ملم بأسراره، ومضطلع جيد على كنوزه، وقدوته في هذا مؤرخ الإسلام الإمام الذهبي المتوفي (ت748هـ) ..

 هذا الشاب هو عبدالمؤمن المقلي؛ المعروف بأبي سعد المقلي، ونسبه بالكامل (عبد الـمؤمِن بن فِكْري بن محمد بن سعيد بن محمد بن علي)، مِن عشيرة عريقة معروفة في بعضِ قُرى طَنْطا، تُعرَف بعائلة الـمُقَلي، ورغم أنه لم ينجب لأنه لم يتزوج فإنه يستخدم الكنية ويبرر هذا بقوله: "رغم أنِّي إلى الآن لا أزال أعْزَبَ، وليس مِن شرط الكُنْية الزواج ولا الذُرِّية ، فقد كَنَّى النبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم - أُمَّ الـمؤمنِين عائشة - رضي الله عنها - بأُمِّ عبد الله ، وهي لَم تلِدْ قَطُّ".

 وُلد المقلي في مدينة طَنْطا سنة 1408 هـ / 1987م، وتعلّم بها إلى أن حصل على بكالوريوس نُظُم الـمعلومات الإدارية سنة 2011 ، وكان قد أمضى في كُلِّية الحُقوق عامين، ولكنِّه تَرْكَها لأنِّه وجد طريقَها مُخالِفاً لطَبْعه الواضح الصريح، وقد حصل على الدُبْلُوم التربوي من كُلِّية الشريعة بطَنْطا .وحصل على إجازة مِن معهد (قُباء) سنة 2011 وهو معهد إعداد الدُعاة التابع لجَمْعية أنصار السُنَّة في طَنْطَا ..هذا ما يتعلَّق بالتعليم والشهادات الرَسْمية، أمَّا دراسته للعُلوم الشرعية فقد درس على كثير مِن أساتذة الأزهر وغيره وكثير مِن الـمشايخ، وأمَّا مذهبه فقد كان حَـنْـبَـلـيَّـاً بِضْعةَ أعوام، والآن آثر أنْ لا ينتمي إلى شيءٍ مِن الـمذاهب مُطلَقاً ، كما أنِّه لا ينتمي إلى جماعة ولا حِزْبٍ ولا طائفة ولا تيَّار دِيني ولا سِياسي البَـتَّـة .

 شغف منذ نعومة أظفاره بالتاريخ والتراجم، وأمَّا بخُصوص أعماله العِلمية فهي كثيرةٌ جِدَّا، ولكِن مع الأسف لَم ينشُرْ شيئاً منها إلى الآن، لأنِّه لَم يجِدْ مَن يعرِفُ قَدْرَها، وبسبب رُكود سُوق الـمطبوعات في الأعوام الأخيرة بسبب الغلاء وبسبب إقبال الناس على مواقع التواصُل الاجتِماعي وما يطالِعونه مِن الكتب عبر الإنترنِت مَـجَّاناً .

فأمَّا أعماله العلمية التي فرغ مِن كتابتها، فمنها:

1 - (صَـفْوة مُحـقِّـقِي الكتب خِلالَ قرنين) ترجم فيه لنحو خمسين رجُلاً عمِلوا في تصحيح الكتب وتحقيق الـمخطوطات خِلالَ هذا القرنِ والقرنِ الـماضي ، وهُم مِن بلادٍ شَتَّى كمِصْرَ والشام والعِراق والحِجاز وباكِسْتان واليمن وبِلاد الـمغرِب .

2 – (بَهْجة البشر في صفوة عُلماء القرن الخامسَ عَشَر)، يقع في مُجلَّد ضخم، ترجمتُ فيه لنحو ثلاثين من علماء القرن الخامسَ عشر الهِجْري، وهُم مِن شَتَّى الأقطار، مِن مِصْر والشام والعِراق والحِجاز ونَجْد والهِنْد وبِلاد الـمغرِب ، وجمع ثناء مشاهير علماء عصرهم عليهم .

3- (أشهر مشايخ الغربية خلال تسعة قرون)، ترجم فيه لسِتَّة وخمسين رجُلا، وهُم مِن أشهَر علماء القِراءات والحديث والفِقْه واللُغة، وكُلُّهم مِن محافظة الغربية، مِن القرن السادس الـهِجْري إلى عصرنا القرن الخامسَ عَشَرَ الهِجْري، يقع في نحو مائتي صفحة.

4- (الغِبْطَةُ في تارِيْخِ طَنْطَا وما حَوْلَ طَنْطَا)، وهو أَوَّلُ كِتَابٍ مُفْرَدٍ فِي تَارِيْخِ طَنْطَا وما حَوْلَهَا مِن القُرى وأشهر مَنْ دَخَلَهَا مِنْ القَرْنِ السادس الْهِجْرِيِّ إلَى عصرِنا القَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْهِجْرِيِّ، يقع في نحو خمسمائة صفحة .

- وأمَّا الكتب التي لَم يفرُغْ منها فهي كثيرةٌ جِدَّا:

1- سلاسل عِلمية موسوعية في ربط التاريخ القديم بالحديث، ومِن هذه السِلْسِلة ما يلي:

أ - (صفوة النوابغ خِلالَ خمسةَ عشر قرناً)، يشتمِلُ على تراجم مَن نبغوا في العلوم أو الإمارة أو ما إلى ذلك مِن عهد الصحابة إلى عصرنا، واقتصرتُ على مَن نبغوا وهُم دُون سِنِّ العشرين، والهَدَفُ منه الحَثُّ على اغتِنام الشبابِ في العلوم والفضائل .

ب -(صفوة الأطِبَّاء خِلالَ خمسةَ عشر قرناً)، يشتمِلُ على تراجم أفاضل الأطِبَّاء مِن القرن الأوَّل الهِجْري إلى عصرنا، والهَدَف منه بيان بُطْلان تلك الصُورة التي تتبادر لأذهان مَن ينظُرون في أخبار الأطِبَّاء قديماً، فيتوهَّمون أنَّهم كلُّهم ملاحِدة أو زَنادِقة أو نحو هذا، وليس كذلك، فقد كان فيهم صالحون وأخيار.

ج -(صفوة الخُلفاء والـمُلوك خِلالَ خمسةَ عشر قرناً)، يشتمِلُ على تراجم أفاضل الخُلفاء والـمُلوك دِيناً وعِلْماً وسِيرةً مِن القرنِ الأول الهِجْري إلى القرنِ الـماضي، والهَدَفُ منه تعريف أهلِ عصرِنا بفضائل فُضلاء الـمُلوك، لأنَّ مِمَّا عَمَّتْ به البَلْوى أن كثيراً مِن الجُهَّال ومَرْضَى العقول والقلوب لا يذكُرون مِن أخبار الحُكَّام الأقدمين إلا أخطاءهم أو أخبارَ سِفْلتِهم حتَّى يبغِّضوا الـمسلمين في تاريخِ أُمَّتهم .

د- (صفوة الأُمراء خِلالَ خمسةَ عشر قرناً)، يشتمِلُ على تراجم أفاضل الأُمراء مِن عهد الصحابة إلى القرن الـماضي ، والهَدَفُ منه تعريف أهلِ عصرِنا بفضائل فُضلاء الأُمراء، وهذا الكِتاب يُشْبِه الذي قَبْلَه في أشياء كثيرة ، ولكِنَّ هذا أوسعَ بكثير مِن الذي قَبْلَه .

هـ - (صفوة الشُجْعان خِلالَ خمسةَ عشر قرناً)، يشتمِلُ على تراجم أفاضل أهل الشجاعة مِن عهد الصحابة إلى عصرِنا ، والهَدَفُ منه الحثُّ على الاقتِداء بهم في الخير ، وبيان حقيقة الشجاعة الـمحمودة، لأنَّنا في عصرٍ انقلبتْ فيه كثيرٌ مِن الـمعايير، فكَم مِن طائشٍ يُوصَف بالشجاعة، وكَم مِن جبانٍ يصِف الشُجْعان بالطَيْش .

- وقد يقولُ قائل : ما هي أهمُّ الأشياء التي تتميَّز بها مشروعاتُك العلمية في فنِّ التاريخ والتراجم؟

فجيب المقلي قائلاً:

أولا: رَبْطُ القديم بالحديث، بل رَبْطُ التاريخِ كلِّه أوَّله بآخِره، فلا يُمكِن فهم التاريخ الحديث مُطلَقاً فَهْماً صحيحاً مِن غير دراسة كافية وافية للتاريخِ القديم. ولِهذا نجِدُ أكثر مَن يكتبون في التاريخِ اليوم ويتكلَّمون فيه يتخبَّطون فيه تخبُّطاً عجيبا ، وهذا له أسبابٌ كثيرة، منها جهلُهم أو قِلّةُ عِلمِهم بكثير مِن الفترات التاريخية وأسرارها.فكثيرٌ مِن الـمُعاصِرين ينظُرون لتُراث أُمَّتنا نظرةَ ازْدِراء واحتِقار أو نظرة استِخفاف، جاهلين أو مُتجاهِلين ما في تُراثِنا مِن إبداع لا نظير لها في سائر الأُمم .

ثانياً: ربطُ العلومِ بعضِها ببعض، فعلى قَدْرِ اطِّلاعِ الـمؤرِّخ ومُشاركته في العلوم الشرعية والـمادِّية يبرع في حُسن تدوين التاريخ ، وتفسير الحوادث، والاستِنْباط مِن النصوص التاريخية ، والثبات أمام هيبة الأكثرية ، فكُلّما كان الـمَرْءُ أكثر عِلْما كُلّما كان أشدَّ شجاعة على التبيُّن وأبعدَ عن الانخِداع بما شاع ويشيع في كلِّ عصرٍ مِن الأكاذيب والخُرافات التي تبلُغُ في كثيرٍ مِن الأحيانِ درجةَ التواتُرِ !! .

وحتَّى أوضِّح مقصِدي أضرِبُ مِثالا بالعلاّمة الـمقريزي ، هذا الرجُل الذي لا أعلم في مشاهير الـمؤرِّخين أوسعَ منه عِلْما ، كان مع قوَّة مشاركته في العلومِ الشرعية متبحِّراً في التاريخ مِن أوَّله إلى عصره هو ، وكان واسع الاطِّلاع على فُنونٍ جَمَّة . وهذا مِن أعظمِ أسباب إمامته في فنِّ التاريخ ، هذا مع ما كان عليه مِن الصِدْق والإنصاف .

 ومَن نظر في كتب التاريخ والتراجم التي صنَّفها العلماء الـموسوعيُّون ثُم قارَنَها بتصانيف مَن دُونَهم في سَعَة الاطِّلاع على العلوم يعلمْ مَقْصِدي. انظر تاريخ شيخ الـمفسِّرين الطَبَري، و(البداية والنِهاية) للحافظ ابن كثير، و(تاريخ الإسلام) للحافظ الذهبي، هؤلاء مثلاً كانوا فقهاء ومحدِّثين ذوي فُنون. قارِن تصانيفَهم بتصانيفِ مَن دُونَهم في العلم مِثلَ (عجائب الآثار) للشيخ عبد الرحمن الجَبَرْتي، أو حِلْيةِ البَشَرِ للشيخ عبد الرزَّاق البيطار .

ثالثا: جمع آراء ثِقات كلِّ عصر في أهل عصرِهم، وهذا كان منهجاً معروفا مِن عهد الصحابة، وقد اختصَّ الله أمَّتَنا بعِلم الجرح والتعديل الذي جعله الله مِن أعظمِ أسباب حِفظِ القرءان والسُنَّة النبوية وعلومهما .

ولكِنَّ هذا الـمنهج ضعُفَ جِدَّاً في عصرِنا وفي القرون الأخيرة لأسبابٍ كثيرة لا يتَّسِعُ الـمَقامُ لذِكْرِها الآن.

وتتجلّى صُعوبةُ هذا الأمر (جَمْعُ آراء ثِقاتِ كلِّ عصرٍ في أهل عصرِهم) حين تعلَمُ أنَّها متفرِّقة في كتب ووثائق لا حَصْرَ لها. فإنَّ مَن أراد أن يجمعَها لا بُدَّ أن يعكُفَ على ما لا يُحْصَى مِن كتب التفسير والحديث واللغة والفِقْه وغيرها، فكَم فيها مِن كلامٍ يذكُره الـمصنِّفون عَرَضاً لا تجِدُه في كتب التواريخ ولا التراجم.

 ومِن الـمعلوم أنّ الـمَرْءَ كُلَّما كان أكثر معرِفة بآراء الثِقاتِ في الشخص كُلَّما كان أكثر معرِفةً بما له وما عليه ، ولا يكفي أن يقتصِر الناسُ على معرِفة رأي مؤرِّخٍ أو كاتبٍ .

 ومِمَّا يؤسَفُ له أن أكثرَ العلماء في عصرِنا وفي القرون الأخيرة زهدوا في تدوين تاريخِ عصرِهم أو انشغلوا عنه بعلوم أُخرى ، مع أنَّهم أوْلَى بتدوين التاريخ مِن غيرِهم .

ولِهذا فإنَّ مَن أراد أن يجمَعَ أقوال ثِقاتِ أهل عصرِنا مَثَلاً في بعضِ أهل عصرِنا سيضطَرُّ لِلتنقيبِ في ما لا يُحْصى مِن الكتب والـمَجَلاّت العلمية والتسجيلات الصوتية، والـمُحاضرات الـمرئية، واللقاءات التي لا حَصْرَ لها مِمَّا يُنْشَر عبر وسائل الإعلام وغيرِها .

وهذا الأمر مع صُعوبته البالغة لا غِنى لنا عنه، لأنّ الأقوال تضاربت والآراء تناقضت، وكُلّما رَجَعْنا إلى أعلمِ الناسِ وأوثقِهم قَلَّ الخِلافُ.

رابعاً: إحياء بعضِ ما زهد فيه الـمُعاصِرون مِن أركان علم التاريخ والتراجم، مِثلَ الأسانيد، والتحَرِّي في توثيق الرِواية على طريقة أهل الحديث. وما أحسنَ قولَ سُفيانَ الثوريِّ رحمه الله (الإسناد سِلاحُ الـمؤمِن) . وكذلك عِلْم الأنسابُ، قَلَّ مَن يُعْطي هذا العلم حقَّه، وهو مِن أعظمِ العلومِ وأنفعِها، ولكِن الناس أعداء ما جهِلوا.

خامسا: بذل أقصى جُهد في توثيق التاريخ والتراجم، فلا ريبَ أنّ درجاتِ توثيقِ التراجم بينها تفاوُتٌ عظيم:

فأوثقُها عندي:

1- ما كتبه الـمترجَمُ بخطِّه أو قاله عن نفْسِه بصَوْته.

2- ثُم ما كُتب عن الـمترجَم ونُشر عنه في حياته وأقرَّه إلى آخرِ حياته.

3- ما كتبه الثِقاتُ مِمَّن لازَموا الـمُترجَم مِن أقاربه أو أصدقائه أو تلاميذه .

ومع الأسف الشديد نجِدُ أكثرَ التراجم في عصرِنا وفي القرون الأخيرة لا يعتني الـمؤرِّخون بالبيان الكافي لِمصادر تراجمهم .

سادساً: إحياء منهج الإيجاز والبلاغة في التراجم، فالأصلُ في التراجم أن تكُون كلماتُها منضبِطةً مُوجَزة بليغة، انظر مثلاً (الضوء اللامع ) للحافظ السخاوي، تجِدْ كِتابه رغم أنه مطبوعٌ في أحد عشر مجلّدا ضخماً إلا أنه يُعَدُّ بمَنْزِلة مَتْنٍ يُمكِن شرحُه في خمسة أضعافه .

 فإذا ما نظرتَ في تراجم كثيرٍ مِن الـمُعاصِرِين وأهلِ القرون الأخيرة تجِدْهم لأنَّهم أقلُّ عِلْما عَمَدوا إلى السَجْع والزخارِف اللُغوية التي تضيِّع القِيمةَ العلمية لهذه التراجم، انظر مثلاً كتاب (حِلْية البشر) للشيخ عبد الرزَّاق البيطار، و(عجائب الآثار) للشيخ الجَبَرْتي، تجِد سَجْعاً مُمِلاً جِدَّاً، ومُبالَغاتٍ ومُجازَفاتٍ مستفِزَّة.

سابعا: لا بُدَّ للمؤرِّخ الحاذق أن يبذُلَ جُهدَه في دراسة جميع أهل الـمِلَل والنِحَل والطوائف والحِرَف وغير ذلك، وأن يُقبِل على دِراسة سِيَر الناس أجمعين لا سِيَّما علماء الشريعة الإسلامية، والـمُلوك والأُمراء والحُكّامِ والأطِبَّاء والفلاسِفة والأُدباء والشُعراء، وما إلى ذلك. بل قد يضطرُّ لدراسة سِيَر أهل الفواحش والفُسُوق مِمَّن لهم تأثيرٌ قويٌّ في سِياسةِ الدُولِ ، وكنتُ أودُّ توضيحَ هذا، ولكِن الـمَقامَ لا يتَّسِعُ في هذه العُجالة .

- ويُعجِبُني كثيراً هذا الكلامُ الرائق للـمؤرِّخ الـمتبحِّر ياقوت الـحَمَوي ، إذْ قال في معجم الأُدباء ج 1 ص 9 :

"وإنِّي لَجدُّ عالِمٍ ببغيضٍ يندِّدُ ويُزْري عليَّ، ويُقبْلُ بوَجْه اللائمةِ إليَّ، مِمَّن قد أُشرِبَ الجهلَ قلبُه ، واستعصى على كرم السَجِيَّةِ لُبُّه، يزْعُم أنّ الاشتِغالِ بأمرِ الدِين أهَمُّ، ونَفْعَه في الدُنيا والآخِرةِ أعَمُّ، أما علِمَ أنّ النُفوسَ مختلِفةُ الطبائعِ، متلوِّنةُ النزائعِ، ولو اشتغلَ الناسُ كلُّهم بنوعٍ واحدٍ مِن العلم لَضاعَ باقِيه، ودرس الذي يلِيهِ، وإنّ اللهَ جلَّ وعزَّ جعل لكُلِّ عِلْمٍ مَن يحفظُ جُمْلتَه، وينظِمُ جَوْهَرتَه، والـمَرْءُ ميسَّرٌ لِما خُلِقَ له. ولَسْتُ أُنكِر أنِّي لو لَزِمْتُ مسجِدي ومُصَلاّيَ، واشتغلتُ بما يعُودُ بعاقِبةِ دُنْيايَ في أُخْرايَ، لَكان أوْلَى، وبِطَريقِ السلامة في الآخِرةِ أحْرَى، ولكِنَّ طلبَ الأفضلِ مفقود، واعتِماد الأحرى غيرُ موجود، وحَسْبُكَ بالـمَرْءِ فضلاً أن لا يأتيَ محظوراً، ولا يسلُكَ سبيلاً مخطوراً". انتهى كلامُ ياقُوت رحمه الله .