سيّد التابعين سعيد بن المسيّب
نقرأ في سيرة السلف الصالح فنعلم كيف رسّخوا الإيمان، وبَنَوا الأمجاد وأقاموا صرح الإسلام، وفرضوا هيبة الدين في قلوب أعدائه، بل فتحوا القلوب بالإيمان والأخلاق، قبل أن يفتحوا البلدان.
ولقد كانت هناك مظالم ومخالفات للشرع، من بعض الأفراد، ومن بعض الحكام، لكن بناء العقيدة الراسخ، ووجود قمم سامقة من أهل التقى والعلم، تنشر النور، وتصْدَع بالحق... كل ذلك جعل الإيمان والخير والصلاح والسداد تغلب على حياة المجتمع، فيكون مجتمعاً إسلامياً قوياً نظيفاً، ويكون الظلم والفساد والانحراف عناصر شاذّة منبوذة.
وفي سيرة ابن المسيّب أنموذج لهذه القمم السامقة.
إنه أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي. ولد سنة 15هــ، وتوفي سنة 94هــ.
وكان أحد فقهاء المدينة السبعة. وكان أبوه "المسيب" ممن حضر بيعة الشجرة، وجدّه "حزن" ممن قُتل يوم معركة اليمامة.
سمع من علماء الصحابة عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعائشة وأم سلمة... ولَزِم أبا هريرة وسمع منه وتزوج ابنته وكان أعلم الناس بحديثه.
وشهد له أكابر علماء عصره بالتقدم في العلم، حتى إنه كان يفتي والصحابةُ أحياء! وقد قال عن نفسه: ما أحدٌ أعلمَ بقضاءٍ قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر، منّي.
وقال فيه التابعي مكحول الدمشقي: طُفْتُ الأرضَ كلها في طلب العلم، فما لقيتُ أعلم من ابن المسيب. ونُقلتْ مثل هذه الشهادة عن أئمة آخرين من أئمة التابعين كابن شهاب الزهري وقتادة بن دعامة السدوسي.
وقيل للإمام أحمد بن حنبل: هل رواية ابن المسيب عن عمر بن الخطاب حُجّة؟ قال: "هو عندنا حجّة. قد رأى عمر وسمع منه. إذا لم يُقبَل سعيدٌ عن عمر، فمن يُقبَل؟".
والإمام الشافعي الذي لم يكن يحتجّ بالأحاديث المرسلة (أي تلك التي يرويها تابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يذكر فيها اسم الصحابي الذي يروي عنه) كان يحتج بمراسيل سعيد بن المسيب، لأن سعيداً كان يتشدّد في الرواية ويمحّص ولا يروي إلا عن كبار الصحابة.
وقال علي بن المديني: "لا أعلم في التابعين أوسع علماً من سعيد. وإذا قال سعيد: هكذا السنّة، فحسبُك به، وهو عندي أجلّ التابعين".
وكان كذلك بارعاً في تأويل الرؤيا.
وكان آية في الورع والتقوى، والزهد في متاع الدنيا. قال عنه الإمام ابن كثير: "كان ابن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا والكلام".
وكان لا يتخلّف عن صلاة الجماعة، ولا تكاد تفوته تكبيرة الإحرام خلف الإمام. وكان يسرد صيام النفل حتى لا يكاد يفطر!.
ولكنه كان يفهم العبادة بمفهومها العميق الشامل، ويقول: "إنما العبادة هي التفكر في أمر الله، والكفُّ عن محارم الله". ويقول: "ما أكرمَ العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوا أنفسهم بمثل معصيته. وكفى بالمؤمن نصرةً من الله عز وجل أن يرى عدوّه يعمل بمعصية الله".
وذكر القرطبي في تفسيره: قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل (أي معذور في ترك الجهاد)، فقال: استنفر اللهُ الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنّي الحربُ كثّرتُ السواد، وحفظتُ المتاع.
وكان له مال يتاجر به ويقول: "... أصونُ به وجهي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار".
وكان لا يمالئ حكام بني أمية ولا يداهنهم، ويقول: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة.
هذا موقفه من حكام بني أمية الذين كانوا يمثّلون الخير الذي فيه دَخَن [كما في حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه البخاري]. فكيف لو رأى الحكام الذين أصبحوا دعاةً على أبواب جهنم، مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها [كما في الحديث نفسه]. وكيف لو رأى مشايخ السلطان الذين يتزلفون لهؤلاء الحكام ويؤيّدونهم في باطلهم؟!.
وتقدم الخليفة عبد الملك بن مروان لخطبة بنت سعيد لابنه الوليد حين ولّاه العهد، فلم يوافق سعيد، بل كان له تلميذ صالحٌ يقال له: كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة السهمي، افتقده أياماً، فلما عاد قال له: أين كنت؟ قال: توفيتْ زوجتي فانشغلتُ بها... قال سعيد: هل أحدثْتَ امرأة غيرها؟ قال: يرحمك الله، ومَن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: إن أنا فعلتُ تفعل؟ قال: نعم. فدعا الشهود وعقد له. قال ابن أبي وداعة: فقمتُ وما أدري ما أصنع من الفرح، وصرتُ إلى منزلي وجعلتُ أفكر ممن آخذ وأستدين. وصليتُ المغرب. وكنتُ صائماً فقدمت عشائي لأفطر وكان خبزاً وزيتاً. وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد. ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب. فقمتُ وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له، فقلت: يا أبا محمد، هلّا أرسلتَ إليّ فأتيتُك. قال: لا، أنتَ أحقّ أن تُزار. قلت: فما تأمرني. قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوّجتَ فكرهتُ أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك. فإذا هي قائمة خلفه في طوله، ثم دفعها في الباب وردّ الباب فسقطت المرأة من الحياء. فاستوثقتُ من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاؤوني وقالوا: ما شأنك؟ قلت: زوّجني سعيد بن المسيب ابنته، وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار، فنزلوا إليها، ثم دخلتُ بها فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج.
رحم الله سعيد بن المسيب، ورزق الأمة من أمثاله!.
وسوم: العدد 741