خلقان حميدان يشقّان على النفس البشرية إلا أنهما يبلغان بصاحبهما درجة الإحسان ومحبة الرحمان
يضع القرآن الكريم رهن إشارة أتباع الدين الإسلامي منظومة قيم أخلاقية في منتهى السمو والرقي . ولما كان القرآن الكريم في جوهره خلقا كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن قول الله تعالى مشيدا بنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) فقالت : " كان خلقه القرآن " ،فهذا القول من أم المؤمنين يدعو إلى التماس منظومة القيم الأخلاقية من كتاب الله عز وجل كما جسّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله تعالى إسوة وقدوة يتأسى ويقتدى الناس به في خلقه العظيم بشهادة ربه جل جلاله.
وتضم منظومة القيم الأخلاقية القرآنية أخلاقا متعددة ومتكاملة ،يكمل بعضها بعضا ، ويفضي بعضها إلى بعض.والتخلق بها هو عين التديّن ، ذلك أنه على قدر رصيد الإنسان المؤمن منها يكون نصيبه من التديّن . ومن أخلاق القرآن الكريم أخلاق سهلة يسيرة على النفس البشرية ، ومنها أخلاق شاقة عليها ،لا تقوى عليها إلا القلة القليلة من الذين يوفّقهم الله عز وجل لذلك . ومن الأخلاق التي لا يمكن أن يتخلق بها الإنسان إلا بعد مشقة ومكابدة وعنت خلقان حميدان هما كتم الغيظ والعفو عن الناس . ونظرا لأهميتهما فقد خص الله عز وجل من يتخلق بهما بمحبته وبأعظم جزاء في الآخرة حيث قال : (( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )) . والغيظ يطلق على صوت شدة الغليان ، ومن ذلك قول الله تعالى في وصف غليان نار جهنم : (( تكاد تميّز من الغيظ )) أي تكاد تنفجر من شدة غليانها . وغضب الإنسان، وهو استجابة لانفعال يجعله ميّالا للعدوان عبارة عن نار مجازية تضطرم في صدره ،فلا يطيق حبسها. وكظم الغيظ أو حبسه ، وهو منع ظهور علاماته على الغضبان مأخوذ من كظم القربة إذا امتلأت وأمسك فمها . ومعلوم أن الغضب له أقوى تأثير على الإنسان، لهذا لا يستطيع كتمانه أو منع ظهور علاماته وآثاره . وحين يقوى الإنسان على حبس غيظه مع امتلاء صدره به، يكون ذلك دليلا على عزيمته القوية و قدرته على كبح جماح غضبه والتحكم في نفسه ، ويكون قد بلغ أرقى درجة الفضيلة . وعادة ما تقاس الشدة عند الناس بالغضب، والحقيقة ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " والصرعة ـ بضم الصاد وفتح الراء ـ الذي يغلب الناس ويصرعهم . ومن السهل أن يكون الإنسان صرعة، ولكن من العسير أن يملك نفسه عند الغضب حين يضعف أمام سورة غضبه بالرغم من شدته وقوته .
ومما يترتب عن صفة كظم الغيظ صفة العفو ، وهما صفتان متلازمتان تتوقف الواحدة منهما على الأخرى وتكمّلها . ولا يكتمل كظم الغيظ إلا بالعفو ، ذلك أن كاظم الغيظ قد يعترضه الندم ،فيتراجع في موقفه، ولا يحصل منه العفو . ومعلوم أن العفو هو تجاوز الذنب أو الخطأ ، وأصل العفو في اللسان العربي المحو والطمس . وقد اتصف الله عز وجل بصفة العفو لأنه يتجاوز الذنوب بمحوها . ويقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى : " العفوّ قريب من الغفور ، ولكنه أبلغ منه ،لأن الغفران ينبىء عن الستر، بينما ينبىء العفو عن المحو ، والمحو أبلغ من الستر " . وكاظم الغيظ إذا عفا يذهب عفوه غيظه، لهذا تلازم بالضرورة صفة العفو صفة كظم الغيظ . و حين يجتمع هذان الخلقان في الإنسان يسهل عليه ما دونهما . وبهما يحوز الإنسان مرتبة الإحسان التي تحببه إلى خالقه سبحانه وتعالى الذي ذيّل بعد ذكرهما بقوله تعالى : (( والله يحب المحسنين )) ومعلوم أن الله عز وجل إذا أحب عبدا أمر ملأه الأعلى بحبه ، وجعل له القبول في الأرض، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الله عز وجل سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها أي كان مسدد الجوارح ، ويعطى إذا سأل ، وويل لمن عاداه كما جاء في الحديث القدسي المشهور.
وقد يرى الناس في كظم الغيظ والعفو ذلا وهوانا لا يمحوهما سوى إظهار الغيظ و إنزال العقاب بمن أساء ، والحقيقة خلاف ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " وأي عز يضاهي عز مقتدر على الانتقام و لكنه لا يفعل ؟ والعفو عند المقدرة دليل قوة لا دليل ضعف كما قد يظن البعض، والعز يكون مع القوة لا مع الضعف .
ويرغّب الله تعالى عباده المؤمنين في صفتي كظم الغيظ والعفو عن الناس تشبها به، وهو الذي يعفو عن المذنبين والمسيئين . وكما يحب الإنسان المسيء عفو غيره وعفو ربه يتعين عليه أن يعفو عن غيره . ولقد سجل القرآن الكريم النازلة التي كانت بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين ابن خالته مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك ، وكان الصديق يتصدق عليه لقرابته ولفقره، فغاظه منه ما قاله في بنته عائشة أم المؤمنين وقد برأها الله عز وجل من فوق السبع الطباق في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، فقرر حرمانه من إحسانه إلا أن الله عز وجل رغبّه في كظم غيظه وعفوه عن ابن خالته فقال : (( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )). وكان جواب الصديق :" بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي" ، واستمر في الإحسان إلى ابن خالته . ولقد سجل الوحي هذه النازلة من أجل ترسيخ خلقي كظم الغيظ والعفو عن الناس ، والعبرة بعموم لفظ القرآن الكريم لا بخصوص سبب نزوله . وعلى كل من شق عليه أن يكظم غيظه ،ويعفو عمن أساء إليه أن يستحضر أخطاءه مع خالقه ومع الخلق ، وألا ينسى أن كل ابن آدم خطّاء وأنه من بني آدم، وأنه أيضا خطّاء يرجو عفو الله عز وجل، ويحب أن يغفر له ،فيسهل عليه حينئذ أن يحبس غيظه ويعفو مشفقا على نفسه قبل الاشفاق على غيره . ومن ذا الذي لا يحب أن يغفر الله له ، وهو سيلقاه بأوزار علمها عند ربه ، ولا يعفو عنها إلا هوسبحانه . وإذا كان الخالق سبحانه يعفو عن الخلق، فما بال الخلق لا يعفو بعضهم عن بعض ألا يحبون أن يغفر الله لهم وقد حثهم على العفو ورغّبهم فيه للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض؟
ومن المؤسف أن خلقي كظم الغيظ والعفو عن الناس صار عملة صعبة في هذا الزمان ، وصار الناس لا تعنيهم درجة الإحسان، ولا تغريهم ، ولا يحرّكهم تغيب الله تعالى لهم فيه بقوله : (( ألا تحبون أن يغفر الله لكم )) . فكم يجر الغيظ الناس عندنا إلى الزج ببعضهم البعض في مخادع الشرطة وأمام المحاكم لإيداعهم السجون وتغريمهم بالغرامات المكلفة . وقد يحمل الغيظ البعض على تزوير الشواهد الطبية ،والنفخ في مددها، وتضخيم حجم العجز الطبي، وقد لا يتعدى ما كان بينهم مجرد التلاسن، فيصير بالزور الطبي عراكا فيه دماء، وكسور، وعجز وعلاج، وتطبيب . وأكبر من ذلك أن يسبق المعتدي المعتدى عليه بالشواهد الطبية الكاذبة، فيظلمه مرتين: مرة بالاعتداء عليه، وأخرى بمتابعة قضائيا، وهو المعتدي الظالم ، وقد يحصل من ضحيته على تعويض يكون سحتا يأكله عمدا وعن سبق إصرار لأنه لا يخشى الله ، ولا يحب أن يغفر الله له . وكم دمّر الغيظ أسرا وبيوتا ،وقطع أرحاما ، فصيّر العقلاء سفهاء ، وأعقبه ندم شديد ، ولو أنهم حبسوه وكظموه لكان خيرا لهم . ولقد كانت أغلى نصيحة قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل استنصحه قوله عدة مرات بعد إلحاح المستنصح : " لا تغضب " فقال الرجل : " ففكرت حين قال رسول الله ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله " لأن هذا الرجل تدبّر النصيحة النبوية جيدا، وأدرك السر وراء تكرارها عدة مرات ، وهو تكرار يدل على خطورة آفة الغضب على الإنسان .
وأخيرا نقول : اللهم يا من تملك قلوبا لا نملكها ، وأنت مقلبها ثبتها بما يرضيك ، وخلّقنا بخلقي كظم الغيظ والعفو عن الناس، وقوّنا عليهما إذا قصرت الهمم وفترت العزائم . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وآل بيته وصحابته أجمعين .
وسوم: العدد 756