دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 13
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
أمة مجاهدة .. تقبل التحدّي ( 13 )
د. فوّاز القاسم / سوريا
بعد أن قُمعت الرّدة ، وأُخمدت نار الفتنة ، وتوحّدت الجزيرة العربيّة تحت راية التوحيد من جديد ، أراد الصدّيق ( رض ) أن يستثمر هذا الزخم الجهادي للعرب ، وأن يوظف هذه الروح المعنوية العالية للمسلمين ، فأصدر قراره التاريخي الرائع ( قرار الفتوح ) ، ولكنّه فتح له باب التطوّع هذه المرة لأن درجة التحدّي التي تواجه الأمة قد خفّت نسبياً ، وكتب إلى قائديه ، خالد بن الوليد ، وعياض بن غنم رضي الله عنهما ، يأمرهما بالتوجّه إلى العراق ، ويطلب منهما بصريح العبارة :
( وأذنا لمن شاء بالرجوع إلى أهله ، ولا تستفتحا بمتكاره ) الطبري (4/19).
ثم يأتي من بعده الفاروق عمر ( رض ) ، ويسير على نفس النهج الذي سبقه أليه صاحباه …
فها هو يتابع حركة الفتوح المظفّرة في المشرق والمغرب ، ويستمر في إرسال المتطوّعين لرفد ساحات الجهاد المباركة ، ويصعّد من عملية التعبئة والحشد كلّما ارتفعت نبرة التحدّي للأمة ، فيسمح لمن حسن إسلامه من المرتدين بالمشاركة في شرف الجهاد ، ويأمر بجمع ما تفرّق من قبائل العرب ليشكّل منها وحدات حربية مقاتلة تدعم حركة الفتوح ، وتعزّز ساحات الجهاد …
وفجأةً ، يجد الفاروق ( رض ) نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحباه من قبل.
إنه موقف التحدّي الخطير للأمة ، والتهديد الجدّي لها ، وذلك أن الفرس بعد أن ذاقوا الهزائم المتكرّرة على أيدي الفاتحين العرب ، حزبوا أمرهم ، واجتمع ملؤهم على تولية يزدجرد من ولد شهريار أمور دولتهم ، ودانوا له بالولاء ، وتباروا جميعاً في طاعته ، فبدأ هذا الأخير بحشد طاقات الامبراطورية المهزومة ، وأرسل إلى أطراف فارس يستنفرها ، فاجتمع له من الحشود ما لم يجتمع لغيره ، ولكنَّ عيون المثنّى ( رض) ، القائد الميداني المبدع للعرب ، وابن العراق البار ، كانت ترقب كل تلك التطورات ، وترسل بها إلى الفاروق ( رض ) أولاً بأول ..
وينتخي الفاروق ( رض ) كما هي عادة العربي دوماً ، ويقبل التحدّي المفروض عليه، ويكتب إلى المثنّى ( رض ) يقول :
( أما بعدُ …فاخرجوا من بين ظهراني العجم ، وتنحّوا إلى البَرّ ، وتفرّقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرض العرب ، وادعُ للجهاد من يليك من قبائل العرب ، ولا تدَعوا أحداً من ربيعة ولا مضر ولا حلفائهم من أهل النجدات ، ولا فارساً إلا اجتلبتموه ، فإن جاء طائعاً ، وإلا حشرتموه ، احملوا العرب على الجدّ إذا جدَّ العجم ، فلتلقوا جدّهم بجدّكم ، وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري ).
يا للعبرة الباهرة ، ويا للروعة الساحرة ، ويا لألق التاريخ .!!!
أية عزّة ، وأية نخوة ، وأية رجولة ، وأية شجاعة ، وأية حكمة ، وأية براعة ، وأية مدرسة حربيّة تلك التي تخرّج منها الفاروق ( رض ) ، حتى يصدر عنه مثل هذا البيان العسكري الساحر .!!!؟
إنه يتّخذ خطوته الأولى العاجلة التي لا بدّ منها ، فيخرج جنوده من أعماق العجم ليؤمّن حمايتهم ، لأن روح وجوهر حرب القلّة ضد الكثرة ، هي تحطيم العدو ، وعدم التشبّث بالأرض المحرّرة ...!!!
ثم يقسم بالله فيقول : ( والله ، لأضربنَّ ملوك العجم بملوكِ العرب ) .!!!
ثم يكتب إلى عماله في أرجاء الدولة الإسلاميّة بالمرسوم الجمهوري الذي يتناسب مع درجة التحدّي ، والذي يعلن النفير العام ، فيقول:
( ولا تدَعوا أحداً له سلاحٌ أو فرسٌ أو نجدةٌ أو رأيٌ ، إلا انتخبتموه ، ثمّ وجّهتموه إليَّ ، والعجَلَ .. العجَلْ ) الطبري (4/87).
وهكذا ، فلم يدع الفاروقُ ( رض ) رئيساً ولا فارساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف أو سطوة ، ولا خطيباً ولا شاعراً ، إلا رماهم به …
فرماهم بوجوه الناس وغرر العرب …!!!