إشراقات من سورة الأنعام 12

إشراقات من سورة الأنعام :

سنّة الله في المكذبين

د. فوّاز القاسم / سوريا

(( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين * فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون * ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم , وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ، فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين .  ))

بعد الموجة الأولى ذات اللمسات العريضة . . الموجة التي غمرت الكون كله بحقيقة الوجود الإلهي متجلية في خلق السماوات والأرض , منشئة للظلمات والنور ; ثم في خلق الإنسان من مادة هذه الأرض ; وتقدير أجله الذي ينتهي بالموت ; والاحتفاظ بسر الأجل الآخر المضروب للبعث ; والإحاطة بسر الناس وجهرهم , وما يكسبون في السر والجهر . .

هذا الوجود الإلهي الذي يتجلى في الآفاق والأنفس , هو وجود متفرد متوحد ; ليس مثله وجود ; لأنه ما من خالق غير الله ; كما أنه وجود غامر باهر قاهر يبدو التكذيب في ظله والإعراض عن هذه الآيات الهائلة , منكرا قبيحا , لا سند له , ولا عذر لصاحبه . .

ومن ثم يعرض السياق موقف المشركين الذين يعارضون الدعوة الإسلامية في ظل هذا الوجود الغامر الباهر القاهر ; فيبدو هذا الموقف منكرا قبيحا , حتى في حس أصحابه الذين يواجههم هذا القرآن بهذه الحقيقة ! ويكسب القرآن المعركة في الجولة الأولى . يكسبها في أعماق فطرة الناس , على الرغم من مكابرتهم ومن عنادهم الظاهرين !

وهو يعرض في هذه الموجة صورة العناد والمكابرة ; ويواجهها بالتهديد مرة ; وبتوجيه القلوب إلى مصارع المكذبين من قبل مرة ; ويحشد فيها عدة مؤثرات وموحيات . بعد الهزة الأولى التي مضت بها تلك الموجة العريضة.

إنهم يتخذون موقف الإعراض عنادا واصرارا . فليس الذي ينقصهم هو الآيات الداعية إلى الإيمان , ولا العلامات الدالة على صدق الدعوة والداعية , ولا البراهين الناطقة بما وراء الدعوة والداعية من ألوهية حقة . .

ليس هذا هو الذي ينقصهم , إنما تنقصهم الرغبة في الاستجابة , ويمسك بهم العناد والإصرار , ويقعد بهم الإعراض عن النظر والتدبر...

وحين يكون الأمر كذلك . حين يكون الإعراض متعمدا ومقصودا - مع توافر الأدلة , وتواتر الآيات ووضوح الحقائق - فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد: ( فقد كذبوا بالحق لما جاءهم . فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون). .

إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض , وجاعل الظلمات والنور , وخالق الإنسان من طين , والإله في السماوات وفي الأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون . . إنه الحق وقد كذبوا به , مصرين على التكذيب , معرضين عن الآيات , مستهزئين بالدعوة والداعي إلى الإيمان . .

فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون !

وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم - وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف ، وثمود بالحجر , وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال , كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث - فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب

( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم , وأرسلنا السماء عليهم مدرارا , وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم . فأهلكناهم بذنوبهم , وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين). .

ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة . وقد مكنهم الله في الأرض , وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة ; وأرسل المطر عليهم متتابعا ينشى ء في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق . . ثم ماذا ? ثم عصوا ربهم , فأخذهم الله بذنوبهم , وأنشأ من بعدهم جيلا آخر , ورث الأرض من بعدهم ; ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض ! فقد ورثها قوم آخرون ! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر َ !

ما أهونهم على الله ; وما أهونهم على هذه الأرض أيضا ! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء ; إنما عمرها جيل آخر ; ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان ; ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء !

وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض . ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله , ليبلوهم فيه : أيقومون عليه بعهد الله وشرطه , من العبودية له وحده , والتلقي منه وحده - بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه - أم يجعلون من أنفسهم طواغيت , تدّعي حقوق الألوهية وخصائصها ; ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف .

إنها حقيقة ينساها البشر - إلا من عصم الله - وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف ; ويمضون على غير سنة الله ; ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف , ويقع الفساد رويدا رويدا وهم ينزلقون ولا يشعرون . .

حتى يستوفي الكتاب أجله ; ويحق وعد الله . . ثم تختلف أشكال النهاية : مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال - بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام - ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام - ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض ; فيعذب بعضهم بعضا , ويدمر بعضهم بعضا , ويؤذي بعضهم بعضا , ولا يعود بعضهم يأمن بعضا ; فتضعف شوكتهم في النهاية ; ويسلط الله عليهم عبادا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم , ويقتلعونهم مما مكنوا فيه ; ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم . . وهكذا تمضي دورة الحياة ، وسنّة الله في العباد  . .

والسعيد من وعى هذه السنّة , ومن وعى هذا الابتلاء ، فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه . والشقي من غفل عن هذه الحقيقة , وظن أنه أوتيها بعلمه , أو أوتيها بحيلته , أو أوتيها جزافا بلا تدبير !

وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي , أو المستهتر الفاسد , أو الملحد الكافر , ممكنا له في الأرض , غير مأخوذ من الله . . ولكن الناس إنما يستعجلون . . إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ; ولا يرون نهاية الطريق . . ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء ! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث . . والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون - في حياتهم الفردية القصيرة - نهاية الطريق ; فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق !

إن هذا النص في القرآن : (فأهلكناهم بذنوبهم). . وما يماثله , وهو يتكرر كثيرا في القرآن الكريم . . إنما يقرر حقيقة , ويقرر سنة , ويقرر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ . .

إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها , وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم  وأن هذه سنة ماضية ، ولو لم يرها فرد في عمره القصير , أو جيل في أجله المحدود ، ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب ; وحين تقوم حياتها على الذنوب . . كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ : فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال ; من عوامله , فعل الذنوب في جسم الأمم ; وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار ; إما بقارعة من الله عاجلة - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي , الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب !

وأمامنا في التاريخ القريب - نسبيا - الشواهد الكافية على فعل الظلم الاجتماعي، والانحلال الأخلاقي , والدعارة الفاشية , واتخاذ المرأة فتنة وزينة , والترف والرخاوة , والتلهي بالنعيم . أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان - وقد أصبحوا أحاديث - وفي انهيار الاتحاد السوفييتي الذي رأيناه بأعيننا ، وفي انهيار الكثير من الأنظمة العربية والعالمية ، وهناك نذر للانهيار تلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة وأنظمة طاغية ، دمّرها الظلم ، ونخرتها الذنوب والمعاصي والآثام , كأمريكا وأوربا وروسيا  - على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض ...

أما العصابات القرمطية والصفوية الحاقدة الظالمة فهي أحقر من أن يحفل بها التاريخ ، ولئن وصلت إلى سدّة الحكم في غفلة من المسلمين ، فهي بإذن الله قريباً زائلة إلى مزبلة التاريخ (( ويقولون متى هو : قل عسى أن يكون قريباً )) .