حديث رمضان الحلقة الثانية : ما الذي يرجى من عبادة الصيام ؟
ما الذي يرجى من عبادة الصيام ؟ سؤال يجيب عنه الله عز وجل في محكم التنزيل في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات )) .
والجواب متضمن في الحرف الناسخ " لعل " الذي يفيد التوقع والترجي في الأمر المحبوب ، والإشفاق من الأمر المكروه . ولمعرفة هل المقصود في الآية هو الترجّي أم الإشفاق يجب الوقوف عند دلالة " تتقون " ؟ ذلك أن دلالة فعل" اتقى " اللغوية هي طلب الوقاية أو الصيانة والحفظ من المكروه ،والمتقي هو الحذر الذي يرجو النجاة من شيء مكروه فيه ضرر . وإذا اتقى المتقي الله عز وجل، فمعنى ذلك أنه يخشى غضبه إن لم يطعه فيما أمر ونهى أو بعبارة أخرى جعل بينه وبين خالقه سبحانه وتعالى ما يقيه من سخطه وغضبه ويجرعليه العقاب ، وهذا المعنى الاصطلاحي أو الشرعي لفعل "اتقى".
ويبدو أن قوله تعالى : '' لعلكم تتقون " يجمع بين ترجي المحبوب وهو رضى الله عز وجل ، والإشفاق من المكروه وهو سخطه وغضبه .ولقد سئل أحد الصحابة عن تقوى الله عز وجل فسأل بدوره سائله :هل خضت طريقا فيه أشواك ؟ فأجابه السائل بالإيجاب ، فسأله مرة أخرى : ماذا كنت تفعل ؟ فأجاب السائل : لقد كنت أتجنبها لصاينة نفسي منها ، فقال له : تلك إذن هي التقوى .
ولقد وظف الشاعر بن المعتز هذا التشبيه في شعره فقال :
بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل نجد ذكر التقوى سوى ورد اسما أوفعلا يتكرر في العديد من السور والآيات ،ويقترن بأوامر و نواه إلهية تتعلق بأقوال وبأفعال.
ولقد أمر الله عز وجل العقلاء من المؤمنين بأن يتزودوا بزاد التقوى في قوله عز من قائل : (( وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا في أن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب )) . ومعلوم أن اتخاذ الزاد يكون في حالة الظعن ، ذلك أن الظاعن يقدر ما يلزمه في سفره من زاد يصون به نفسه من هلاك بسبب جوع أو عطش خصوصا إذا كان سفره ينطوي على مخاطر . وما أشبه الإنسان وهو يخوض غمار الحياة بمسافر يلزمه زاد يتزود به في سفره الدنيوي من أجل بلوغ غاية أخروية ، ولهذا أمره الله عز وجل باتخاذ التقوى زادا له ، وقد بيّن طبيعة ذلك الزاد بما تقدم الأمر بالتزود ،وهو قوله تعالى : (( وما تفعلوا من خير يعلمه الله )) ففعل الخير من مقتضيات التزود بزاد التقوى . ولقد عبر الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه عن التزود بزاد التقوى في تعريفه الشهير للتقوى حيث قال : " التقوى خوف من الجليل ، وعمل بالتنزيل ، واستعداد ليوم الرحيل " .
والتزود بزاد التقوى عبارة عن ائتمار بأوامر، وانتهاء عن نواه تعبّد بها الله عز وجل العباد ،وهي تتحقق إما بأقوال أو بأفعال أو بهما معا . ولا يذكر التقوى في كتاب الله عز وجل إلا مقترنا بأوامر أو نواه ، ونذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يلي من آيات الذكر الحكيم :
ـ (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ))
فالتقوى هنا تعني التزام ملة الإسلام حتى الموت .
ـ (( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتّقه فأولئك هم الفائزون ))
فالتقوى هنا يعني طاعة الله عز وجل بخشيته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع ما جاء به .
ـ (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ))
فالتقوى هنا عبارة عن صبر ومصابرة ، ورباط في سبيل الله .
وإذا ما تتبعنا ورود التقوى اسما أو فعلا في كتاب الله عز وجل نجدها على غرار ما مثلنا به ويمكن سرد بعض الأوامر أو النواهي التي تتحقق بها التقوى منها :
عدم طاعة الكافرين ، ترك الربا ، صلة الأرحام ، اتباع ما في القرآن الكريم ، التزام الصدق ، القول السديد ، عدم التقديم بين يدي الله ورسوله ، التناجي بالبر ، الوفاء بالعهد ، الإصلاح ، العطاء والبذل أو الإحسان ، عدم تزكية النفس، التذكر عند مس طائف الشيطان ، البر بالأيمان ، أداء الأمانة ، إصلاح ذات البين ...
فإذا جمعت الأوامر والنواهي المذكورة في سياق الحديث عن التقوى كانت هي التقوى ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل التقوى هي كل الأوامر والنواهي في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ونعود إلى أمر الله عز وجل عباده بالصيام رجاء حصول التقوى كي نتبيّن كيف يكون ذلك ؟ من المعلوم أن عبادة الصيام هي العبادة الوحيدة التي لا يمكن أن يلابسها الرياء ،لأنها سر بين العباد وخالقهم خلاف باقي العبادات التي كلها يؤدى علنا . والصائم إن شاء أكل وشرب وأصاب الشهوة في سره ثم خرج إلى العلن لا أحد يعلم سره إلا الذي يعلم السر وأخفى ، ولكنه إن لم يفعل ذلك في سره ، وخشي ربه ،فهو حينئذ في قمة ممارسة التقوى ، ولا يشك في تسرب الرياء إلى صومه . ومن كان هذا حاله في صيامه ، أقام على نفسه حجة إن لم يخش ربه فيما دون الصيام من الأوامر والنواهي ،لأنه لا يمكن أن يخشى ربه في سر ، ولا يخشاه في علن أو في سر آخر غير سر الإمساك .
ولقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجها من وجوه حصول التقوى في عبادة الصيام بقوله عليه الصلاة والسلام : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " . ففي هذا الحديث يحصل تقوى الصيام بترك الزور وهو الباطل قولا وفعلا ، وهو ما يعني ترك كل المنهي عنه مما يلابس باطل .
ويفهم من قول الله تعالى" لعلكم تتقون " ومن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبادة الصيام عبارة عن دورة تدريبية يتدرب فيها الصائمون على تقوى الله بالمعنى الذي ذكرناه ، الشيء الذي يحصل معه سمو روحي في أيام معدودات بالانصراف عن الشهوات التي تستغرق جل الأوقات، ويتزود به الصائمون لمواجهة ما بعد الأيام المعدودات وهي الأكثر . ولا شك أن من يتدرب على ترك الممنوع المؤقت في أيام معدودة بمحض إرادته ،يكون أقدر على ترك الممنوع المؤبد بنفس الإرادة، وهو ما يرجى من عبادة الصيام . فقد يقول قائل إذا نهي عن ترك الممنوع المؤبد أنى أستطيع ذلك والنفس أمارة بالسوء ، والغرائز والشهوات قوية ومغرية ؟ فيقال له إنك تستطيع ذلك كما تفعل في عبادة الصيام التي تكبح فيها أقوى الغرائز والشهوات ، فتلك تجربة تثبت قدرتك على ذلك ، وقد جعلها الله عز وجل في أيام معدودات ،لتكون شاهدة على أنك قادر ، وأن ترك الممنوع المؤبد ليس مستحيلا بل هو ممكن كما أمكن ترك الممنوع المؤقت وتكون القضية حينئذ قضية وقت فقط ، ولا يمكن أن يخشى الله عز وجل في أيام معدودات فقط، ولا يخشى في باقي الأيام .
وهكذا تكون عبادة الصيام فرصة لرفع أرصدة التقوى إلى أعلى مؤشر لها ، ولهذا يتعين اغتنام هذه الفرصة التي يضاعف فيها الأجر كما يضاعف فيها العقاب ، فإذا كان المفطر عمدا في رمضان لا يجزيه صيام الدهر ، وهذا يعني أنه سيواجه أقسى عقوبة بسبب ذلك لأنه ارتكب إثما أو معصية في وقت يضاعف فيه العقاب .
ولا بد من تصحيح بعض السلوكات التي تؤثر على أرصدة التقوى من قبيل اتخاذ شهر الصيام عطلة بذريعة التفرغ إلى العبادة صياما وقياما ،وتعطيل باقي الأعمال التي تقوم وتستقيم بها الحياة ، وهي كلها من صميم العبادة . فمن تحايل بالصيام للتملص من واجب العمل اليومي ، وقع في باطل يفسد عليه صيامه وقيامه ،فيجعل حظه منهما الجوع والعطش والسهر ليس غير .
ومن السلوكات التي تنقص من أرصدة التقوى إهدار الوقت فيما لا طائل من ورائه من لهو ولغو وعبث وهزل . ومعلوم أن الله عز وجل جعل لشهر الصيام برنامجا خاصا، وهو صيام أيامه مع القيام بالواجبات المعيشية اليومية المختلفة ، وقيام لياليه ، ولا يمكن أن تزاحم هذا البرنامج برامج أخرى إلا أن تكون علما أو وعظا أو نصحا ، أما غير ذلك فأباطيل مؤثرة على أرصدة التقوى .
وأخيرا يجدر بكل صائم وصائمة أن يستعرضا كل يوم من أيام رمضان رصيديهما من التقوى من خلال عدّ ما صدر عنهما من أقوال وأفعال مترجمة للتقوى ، وهذا إجراء ممكن لأن الله عز وجل لما أمرنا بالتزود بزاد التقوى قدم لذلك بقوله جل شأنه : (( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ))، لهذا فلينظر كل من يريد أن يكون زاده التقوى ما نوع الخير الذي فعله وعلمه خالقه سبحانه وتعالى.
وسوم: العدد 824