حديث رمضان : الحلقة الثالثة، دلالة الذكر في كتاب الله عز وجل
من المعلوم أن المسلمين يلتمسون كل سبيل من أجل التقرب إلى الله عز وجل في شهر الصيام وهو شهر قربات إليه بامتياز . ومما يتقرب به إليه سبحانه الإكثار من ذكر اللسان حتى أن البعض يتخذون مسابح في هذا الشهر ولم يكن ذلك من عادتهم في غيره من الشهور، كما هو عادة أصحاب الطرق الصوفية الذين يعتبرون التقرب إلى الله عز وجل بذكر اللسان أكبر من كل قربة ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى : (( ولذكر الله أكبر )).
وإذا كان لا أحد من المسلمين يجادل في أهمية ذكر اللسان وقد تعبدنا به خالقنا سبحانه ، وورد ذكره في كتاب الله عز وجل ، وسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته عقب الصلوات الخمس ، فالسؤال المطروح هو : هل تقتصر دلالة الذكر في كتاب الله عز وجل على ذكر اللسان فقط ؟
وحين نعود إلى معنى الذكر في اللسان العربي الذي اختاره الله عز وجل لنقل رسالته الخاتمة للعالمين ، ولا مندوحة عن العودة إليه لفهم هذه الرسالة ، نجد أن الفعل من الذكر وهو فعل ذكر يدل على معان مختلفة ،فهو يعني جرى على اللسان ، ويعني استحضروهو نقيض نسي ، ويعني أعلم وأخبر ، ويعني أشار إلى ، ويعني حمد وأثنى ...
وبالعودة إلى كتاب الله عز وجل تستوقفنا معاني الذكر وهي اختصارا كالآتي :
ـ الذكر هو القرآن الكريم لقول الله تعالى : (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )) ، وقوله أيضا : (( هذا ذكر مبارك أنزلناه )) ، وقوله أيضا : (( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ))
ـ الصلاة وخطبة الجمعة لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )) .
ـ استحضار معية الله عز وجل لقوله تعالى : (( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ))
ـ تسبيح الله عز وجل وتعظيمه لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحون بكرة وأصيلا )) .
والجامع بين هذه الدلالات أن المسلم يستحضر معية ربه جل وعلا حين يقرأ القرآن الكريم أو يسمعه ويتدبره ويتخلق به ، وحين يكون في صلاته ، وحين يدعوه ويسأله حاجته ، وحين يسبح بحمده ويثني عليه ، وهذا يعني أن دلالة الذكر في كتاب الله عز وجل أكثر من ذكر اللسان كما يعتقد كثير من الناس ،لأن ذكر الله عز وجل هو استحضاره في كل الأحوال التي يمر بها الإنسان وهو يمارس حياته اليوم ويخوض غمارها ، ولا يمكن أن يغيب عنه خالقه جل وعلا وهو ينعم بنعمه التي لا يحصيها عد ولا يؤدي شكرها حمد . وفي كل حال يكون فيها الإنسان يجد نفسه محاطا بشتى النعم ، وهو أمر يقتضي أن يستحضر المنعم جل جلاله إذ لا يمكن أن يحضره التفكير في تلك النعم دون أن يحضره التفكير في من أنعم عليه بها .
وإذا كانت عادة الإنسان أن يحتفظ بما يذّكره بغيره من هدايا أو صور أو غيرها مما يلبس أو يعلق أو يحفظ ليظل ذكره موجودا ومصاحبا له على الدوام ، فلا يمكن أن يغيب عنه طرفة عين من أنعم عليه بنعم فوق العد والحصر ، لهذا أمر المنعم سبحانه أن يكون ذكره أو استحضاره كثيرا بكرة وأصيلا إشارة إلى كل وقت وحين ما بين البكرة والأصيل ككثرة نعمه ، وإن كان ذكره سبحانه مهما كثر لا يمكن أن يبلغ كثرة نعمه .ولو أن إنسان ظل ينعم على غيره باستمرار، وهذا الأخير يذكره مع كل نعمة لما انقطع عن ذكره طرفة عين، فكيف إذا كان المنعم هو الخالق سبحانه الذي لا تحصى نعمه ؟
ومعلوم أن ذكر الله يكون بالقلب الذي جعله الله عز وجل الذي الجارحة العاقلة مصداقا لقوله تعالى : (( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )) . ولما كان هذا حال القلب البشري ،فإنه هو الجارحة التي ينطلق منها مطلق الذكر أو الاستحضار ، وذكر الله عز وجل على وجه الخصوص .
ولقد ورد في كتاب الله عز وجل ما يدل على أن القلب هو مولّد وموزّع ذكر الله عز وجل إلى باقي الجوارح كما هو الشأن بالنسبة لقوله تعالى : (( الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )) . إن قشعريرة الجلود مصدرها القلوب المتأثرة بذكر الله عز وجل ،وهو هنا كتابه الكريم ، والجلود إنما تتأثر بما يحدث في القلوب من لين بسبب الذكر ،الشيء الذي يدل على تناغم بين القلوب وسائر الجوارح ومنها الجلود ،وهي مصدر إحساس رهيف يقتبس رقته ولينه من القلوب.
ولقد ورد في كتاب الله عز وجل أن وظيفة الذكر وهو استحضاره عز وجل سواء بتلاوة القرآن وسماعه وتدبره والتخلق به أو بالصلاة أو بالتسبيح والحمد ... هو تحقيق إما طمأنينة القلوب أو وجلها ، أما الدليل على طمأنينتها فهو قوله تعالى : (( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله )) ، وأما الدليل على وجلها فهو قوله سبحانه : (( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم )) . وقد يبدو للبعض أن في الأمر تناقض إذ كيف تطمئن القلوب بالذكر ثم توجل والحالتان على طرفي نقيض ؟ وبيان ذلك أن ليس في الأمر تناقض لأن القلوب في حال استحضار معية الخالق جل جلاله المحيي ، والمميت، والرازق ،والمعطي والحافظ ... تطمئن لكثرة إنعامه وواسع رحمته بسبب كنفه الذي لا يرام ، وفي حال استحضار غضبه وسخطه إذا عصي توجل من شدة عقابه ، وليس بين الحالين تناقض ، لأن لكل من الطمأنينة والوجل ما يستدعيهما ، والإنسان المؤمن يكون مطمئنا ووجلا في نفس الوقت وهو يخوض غمار الحياة ، وهو على هاتين الحالين يكون ذاكرا لله تعالى بمعنى مستحضرا له على الدوام مطمئن لا يقلق من شيء ، ووجل لا يأمن غضب الخالق إن حاد عن الصراط المستقيم خصوصا وقد خلق من ضعف ، ومن ضعفه أنه خطّاء ، وظلوم ،وجهول ، ومن كانت هذه صفاته وجب عليه أن يلزم الوجل على الدوام .
ولقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد أهمية ذكر الله عز وجل وهو استحضاره في كل الأحوال حيث قال عليه الصلاة والسلام : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ، قالوا : بلى ، قال : ذكر الله " .
إن هذا الذكر الذي يفوق خير الأعمال وأرضها عند الله وأرفعها درجة ، ويفوق إنفاق الذهب والفضة ، ويفوق الجهاد والشهادة في سبيل الله ،لا يمكن أن يكون مجرد ذكر باللسان فقط بل هو أكبر من ذلك بكثير . فالمؤمن الذاكر لربه سبحانه أي الذي تحضره معيته على الدوام، وتلازمه في كل وقت وحين هو الذي لا يقبل على قول أو فعل أو حتى على مجرد إحساس باطني دون أن يكون الله عز وجل حاضرا لديه يسمع ويرى ، وهذا يعني أن ذكر الله عز وجل أو استحضاره معناه التزام طاعته فيما أمر وفيما نهى قولا وفعلا ، وفيما أسر وما أعلن . وقد يكون الإنسان ذاكرا بلسانه وهو في حالة لا ترضي خالقه ، وهذا يعني أنه لم يع حقيقة الذكر إذ لو ذكر الله عز وجل حقيقة أي استحضر معيته، لم يرض أن يكون في حال لا يرضاها خالقه جل وعلا .
وبناء على هذا نقول إنه يحصل الذكر بأحوال غير حال جريان اللسان باسم الله عز وجل وحمده والثناء عليه فقط ، ذلك أنه من كان في معاملة من المعاملات من بيع أو غيره مما تقوم عليه الحياة، واستحضر خالقه خلالها، فكانت معاملته على الوجه الذي يرضيه ولا يسخطه كان بالفعل ذاكرا مستحضر لله عز وجل ، وكان ذكره أفضل من ذاكر بلسانه ولما تنضبط جوارحه بما أمر به وما نهي عنه في تلك المعاملة ، فالتاجر على سبيل المثال لا الحصر يكون ذاكرا إذا صدق في تجارته ، ولم يغش فيها، ولم يطفف في كيله ، ولم يخسره ، ولم يبخس من يتعامل معهم ، ولم يحتكر ، ولم يضارب ، ولم يبع على بيع غيره ... إلى غير ذلك مما يفسد بيعه مما نهى عنه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا المثال تقاس كل المعاملات ، وهذا يعني أن الذكر هو استحضار الخالق ومراقبته في كل الأحوال التي يكون عليها الإنسان ، وليس مجرد ذكر باللسان والأحوال تكذب ذلك . ولقد ذكر لي أحد الفضلاء أنه عاين حال تاجر من كبار تجار الخضروات أو لنقل هو موزع كبير لها يجلس على كرسي وبيده مسبحة يحركها ويقول لأبنائه وخدمه : " وجهّوا السلعة " أي أظهروا جيدها واخفوا في الأسف رديئها ، فهل يعد هذا ذاكرا لله عز وجل ولمّا تحضره معيته سبحانه ونهييه عن سوء قوله هذا ،ولمّا يذكر براءة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن يغش المسلمين؟
وخلاصة القول أن ذكر الله عز وجل هو استحضاره في كل الأحوال ولزوم ما أمر وما نهى ، وليس مجرد ذكر باللسان مع أن ذكر اللسان مما تعبدنا به سبحانه وتعالى، ولكن لا فائدة من ذكر باللسان دون ذكر بالفعال . ونأمل أخيرا أن يكون تقربنا إلى الله عز وجل في هذا الشهر العظيم بالذكر على الوجه المطلوب.
وسوم: العدد 825