يا خسارة من كانت الحياة الدنيا عنده غاية الغايات وكانت هي مبلغه من العلم
مرة أخرى عاد المدعو عصيد إلى ضلاله القديم في مقال نشر له على موقع هسبريس تحت عنوان : " إنكار السببية من عوامل تراجع العلوم عند المسلمين" ، وقد ذكر فيه أنه ارتأى أن يعود إلى موضوع سبق له أن فصّل فيه ما بين سنة 1995 و1998وهو موضوع : "السببية في الفكرالإسلامي بين الفقهاء والفلاسفة " وليته تعلم من السنور عدم نبش ما يخفي .
وما يدعيه في هذا المقال من إنكار المسلمين للسببية كذب وافتراء ، لأنهم يتلون كتاب الله عز وجل، وفيه ذكر للأسباب التي هي من سننه سبحانه في خلقه ، وقد أمرهم بالأخذ بها لتسير حياتهم سيرها الذي أراده جل شأنه لها وهم في حالة امتحان فيها ليواجهوا بعد الرحيل عنها المساءلة والمحاسبة والجزاء إما بنعيم أو جحيم دائمين .
ومعلوم عند أهل الإيمان أن خالق الأسباب سبحانه قادر على تعطيلها لحكمة يريدها كما عطل إحراق النار خليله إبراهيم عليه السلام ، وكما ضرب على آذان أهل الكهف سنين عددا ، وكما أحيى عزير بعد مائة عام ... إلى غير ذلك مما جاء في الذكر الحكيم مما يتعلق بتعطيله سبحانه ما يشاء من الأسباب .
وعند عصيد أن من يقول بأن النار لم تحرق نبي الله إبراهيم عليه السلام خلافا لقانون السببية يعتبر معطلا لها ، والقائل بهذا القول أحد اثنين : إما إنسان منكر للوحي جاحد به ظاهرا وباطنا ، وهو بيّن الكفر والجحود له الشجاعة على التصريح والجهر بذلك ، وإما إنسان يظهر ما لا يبطن ، ولا يملك شجاعة للكشف عما يبطن ،ولكن فلتات وزلات لسانه أو قلمه تفصح عن ذلك .
ولمّا كان كتاب الله عز وجل هو الرسالة الخاتمة الموجهة إلى العالمين من زمن بعثة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ، فقد ضمنها الله تعالى ما ينسحب على حياة العالمين ، وما يعتريهم من أحوال ، لهذا لا يجد من يعود إليها مشقة أو صعوبة في معرفة من تنسحب عليهم تلك الأحوال التي منها حال العلمانيين في هذا الزمان ، وقد اشتركوا فيها مع من كان قبلهم من منكري الوحي . وما ذكره الله عز وجل من أحوال السابقين لم يذكره للتسلية أو لمجرد الإخبار بل للتوجيه والتحذير حين يتعلق الأمر بما يستوجب ذلك.
وحال العلمانيين في زماننا هذا سواء كانوا من الذين لهم الشجاعة للتصريح بإنكار الوحي أو من الذين يجبنون عن ذلك فينافقون المؤمنين به حال كشف الله عز وجل عنها في قوله وهو أصدق القائلين :
(( فأعرض عمن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى )) .
فهذا النص القرآني يتضمن ما يميّز بين نوعين من الناس : نوع لا يريد إلا الحياة الدنيا يطلبها لذاتها ، ونوع آخر يريد الأخرى ويطلبها بالدنيا . وبمقتضى هاتين الإرادتين المختلفتين يتحدد علم هذين النوعين من الناس ، ذلك أن علم من يريد الحياة الدنيا فقط وهي السائرة إلى زوال علم قاصر يترتب عنه جهل بالحياة الأخرى وهي حياة أبدية ، أما علم من يريد الآخرة ، ويسعى إليها في الأولى ، فهو علم تام بالحياتين معا الزائلة والأبدية ، مع علمه بالعلاقة بينهما بحيث تفضي الأولى إلى الآخرة ، وهي دليل دامغ عليها. وشتان بين من كان مبلغه من العلم حياة الزوال ، وبين من يتخطى علمه ذلك إلى حياة الخلد . ويترتب عن علم كل نوع اختلاف في القناعة والاعتقاد والسلوك والسعي ، ذلك أن قناعة واعتقاد وسلوك من همّه الحياة الدنيا فقط ليس هو قناعة واعتقاد وسلوك من همّه الآخرة ، فقد يبدوان وهما يشتركان في خوض غمار الحياة الدنيا أنهما يخوضانها بنفس القناعة ونفس السعي ، والحقيقة والواقع خلاف ذلك ، فليس سعي هذا فيها هو سعي الآخر ، ولا هما سواء حتى في أكل أو شرب وهي الأمور المشتركة بينهما ، فهذا أكله وشربه ينتهيان عند حياة زائلة وبنهايتها ، وذاك له شأن آخر معهما لاعتقاده بحياة أبدية . وإذا ما قارنا بينهما كان صاحب القناعة بالآخرة أعلم من صاحب القناعة بالأولى ،ولذلك وصف الله عز وجل المؤمن بالآخرة بالهداية ، بينما وصف من لا يؤمن بها سواء كان ذلك عن جهل منه أو عن علم مع الإنكار بالضلال، علما بأن المنكر عن علم أسوأ حالا من الجاهل . والضّال هو من يسلك الطريق الخطأ أو المحرف الذي لا يفضي به إلى غاية ، والمهتدي هو من يسلك الطريق الصحيح السوي المفضي إلى غاية. وأي ضلال أكبر من ضلال من تنتظره حياة أخرى لا نهاية لها ،وهي حياة مساءلة ومحاسبة وجزاء عما كسب في حياته الأولى الزائلة ؟
والذي يحصر همّه في الحياة الزائلة لا يدرك ما يدركه من همّه الآخرة ، ذلك أن الأول يركب غروره ويظن بنفسه العلم والمعرفة ، وينسب إلى نفسه العقل ، وينفيه عن غيره ممن همّه الآخرة زاعما أن العقل والغيب نقيضان ، ولو تنكب غروره ، وزالت الغشاوة عن بصره ، وتخلص من وقر أذنه و من كن قلبه لأدرك أن المؤمن بالغيب أعقل منه لأنه يتلقى العلم بعقله من عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعلى بواسطة الوحي .
والقول بأن المؤمن بالغيب لا عقل له أو لا يؤمن بالعقل محض افتراء يكذبه واقع الحال ، ذلك أن الإيمان بالغيب وسيلته العقل الذي ينطلق به من عالم الشهادة للوصول إلى عالم الغيب. ولقد ذكر الله عز وجل في محكم التنزيل جدال نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام مع قومه ، ومع جبّار زمانه ، فكان وسيلته في ذلك مجادلا قومه العقل المنطلق من عالم الشهادة بما فيه كوكبه وقمره وشمسه وأصنامه للوصول إلى من خلقهم وهو الأولى بأن يعبد كما كان وسيلته أيضا وهو يجادل من ادعى الإحياء والإماتة وقد تحداه بالإتيان بالشمس من مغربها خلاف ما هو عليه الحال في عالم الشهادة مما قدره خالقها ومسيرها .
وبمنطق العقل أفحم الله تعالى في محكم التنزيل من تساءل عن إحياء العظام وهي رميم فنبّهه إلى التفكير العقلي في الذي أنشأها أول مرة، لأن من كانت له النشأة الأولى لا يستحيل عقلا أن يعيدها ثانية .
إن أكبر ضلال وقع ويقع ماضيا وحاضرا ومستقبلا فيه منكرو الوحي المخبر عن الغيب بما في ذلك الحياة الأخرى هو تعطيل العقل ،وذلك بعدم اتخاذه وسيلة عبور من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، وشأنهم في ذلك شأن من يركبون سفينة بإمكانها أن تصل بهم إلى الضفة الأخرى من البحر ولكن علمهم ينحصر في العلم بضفة الانطلاق دون العلم بضفة الوصول لأنهم لا يصدقون بوجود ها، وهي أوسع وأرحب وأدوم من الضفة التي انطلقوا منها معتقدين أنها الضفة الواحدة والوحيدة ، وفي نهاية المطاف تلقي بهم الأمواج في الضفة الأخرى وهم في أسوأ مآل و أتعس حال .
ومن كانت الحياة الدنيا هي مبلغه من العلم ، كان أجهل الناس وإن تعالم ، ولو علم بالآخرة على حقيقتها لرغب فيها وسعى لها سعيها ، وكان أحمق الناس وإن ادعى العقل ، ولو كان ذا عقل لأوصله إلى الآخرة وهي خير وأبقى ، لهذا استحق أن يعرض عنه كما جاء في قول الله تعالى ، والإعراض هو صرف الوجه عن الشيء ، وهو مشتق من العارض وهو صفحة الخد ،لأن الكاره للشيء أو غير المبالي به يصرف عنه خده أو وجهه .وما قيمة الإقبال على من تولى عن ذكر الله عز وجل ،وهو كتابه الكريم ورسالته الخاتمة للعالمين ، فاتبع هواه ، ولم يرد إلا الحياة الدنيا لقلة علمه أو لجهله ولقصور عقله ؟ وإن الجاهل يفعل بنفسه ما يفعله العاقل بعدوه كما يقول المثل ، وأية فعلة يفعلها الجاهل بنفسه أقبح وأسوأ من إقدامه على مغامرة إنكار الغيب المخبر عن البعث والمساءلة والمحاسبة والجزاء بعد الموت ؟ ولو علم الله عز وجل فيه خيرا لهداه إلى ذكره ورفعه به ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه .
وسوم: العدد 879