الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله
من المعلوم أن الإنسان المؤمن باعتبار عقيدته لا يفصل بين دنياه وآخرته ، وهو يرى أن بلوغ مبتغاه في آخرته يتوقف على ما يقوم به في دنياه . ومن كان هذا اعتقاده كان كيّسا، والكياسة هي تمكن من استنباط ما هو أجدى وأنفع للأنسان، ولا يكون ذلك إلا برجاحة عقله واتقاد ذكائه .
ونقيض الكيّس هو العاجز الذي لا كياسة له، ولا رجاحة عقل، ولا اتقاد ذكائه ،ولا قدرة أو طاقة له على استنباط ما هو أجدى وأنفع له ، ولا هو قادر على اللحاق بالكيّس في سعيه وغايته.
ولقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لحال الكيس من الناس والعاجز منهم حيث قال : " الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " . وما يميّز بينهما في هذا الحديث الشريف هو طريقة تعاملهما مع النفس التي الأصل فيها أنها ميّالة إلى السوء أمارة به.
فأما الكيس فيدينها ، والإدانة عبارة عن اتهام أوشك وعدم ثقة .ولمّا كانت النفس أمارة بالسوء ، فمن الكياسة ألا يثق الإنسان فيها الثقة العمياء ، وأن يحتاط منها، ويتحرى ما تأمره به متهما إياها في كل أحوالها، لأنها قد تخدعه فتأمره بسعي يظنه حقا وصوابا وتحسّنه له وهو باطل في حقيقة أمره، وأما العاجز فيسايرها في هواها ولا يخطر له على بال أن يدينها فيما تمليه عليه وفق أهوائها .
والكيس كما عرفه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عن إدانة نفسه، يعمل لما بعد موته وهو آخرته . والعمل لما بعد الموت هو توجيه كل سعي يسعاه الإنسان في حياته الدنيا ليكون سعيا معتبرا في آخرته بحيث يظفره بالجنة ، وينجيه من الجحيم ، وأما العاجز فيكون غافلا عن توجيه سعيه في دنياه توجيه الكيس ، ومقابل ذلك تحدثه نفسه بالأماني، فيطمئن بذلك وليس في جعبته ما يخوله الظفر بالجنة وينجيه من الجحيم ، فيتمنى على الله عز وجل الفوز بالجنة والنجاة من الجحيم دون سعي يسعاه في دنياه، والفرق بين الكيّس الذي يدين نفسه ، والعاجز الذي يتبعها هواه هو أن الأول فعّال ، والثاني أمّال .
وعمل الكيّس لما بعد الموت يكون عن طريق الاستحضار الدائم للمآل في الآخرة بحيث لا تمر به لحظة دون أن يربط حياته بآخرته ، ويكون الربط بواسطة سعيه الذي يسعاه سواء كان هذا السعي مما يقول أو مما يفعل لأن طلب الآخرة يكون بذلك لقوله سبحانه وتعالى : (( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )). والكيّس يستحضر دائما أن الله عز وجل قد استرعاه رعية وهو مسؤول عنها في آخرته مسؤولية ذات صلة بمسؤوليته عنها في دنياه ،مع أنه في الدنيا إذا رعى رعيته كما يجب ، فسيشكر الخلق سعيه ولكن ينتهي مفعول هذا الشكر بزوال الدنيا ، وقد لا يشكر الخلق سعيه ، في حين يشكر سعيه الموفق بعد بعثه في آخرته ، ولا ينتهي ولا يزول ، ويدوم دوام الخلد .
ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر كيّسا قلّد مسؤولية رعية مهما كان نوعها سواء كانت عبارة عن أشخاص أو عبارة عن مهمة أو وظيفة أو غير ذلك مما يقلد الإنسان من مسؤوليات... فكياسته تفرض عليه أن يؤدي واجبه في دنياه على الوجه المطلوب منه في آخرته لأنه إنسان أخروي في حقيقة وجوده ، فلا يقصر فيه ، ولا يدخر جهدا في البلوغ به ما يستطيع من إتقان ، يؤديه حيث يجب أن يؤدى مكانا وزمانا وكمّا وكيفية... وإذا ما حدثته نفسه بأن ينقص شيئا مما يستوجبه الواجب أدانها على أقل تقصير تحدثه أو تغريه به ، وهي وفق طبيعتها أمارة بالسوء تزينه لصاحبها ، ومن سوئها أن تهوّن له من شأن زمان أو مكان أو كم أو كيفية... أداء الواجب ، لكنه بكياسته يستحضر ما بعد موته ويلزمها بإتيان كل سعي يسعاه على وجهه.
ومسؤولية العاجز لا يستحضر فيها ما بعد موته ، وهو دائم الغفلة عن ذلك ، ولا يربط سعيا يسعاه في دنياه بآخرته ،بل يكون مقتصرا على دنياه لا يجاوزها ، وعليه يصدق قول الله تعالى : (( فمن كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا )) . والعاجز لا يستحضر أن الله عز وجل استرعاه رعية هو مسؤول عنها في آخرته ، ولمّا كان شأنه بسبب عجزه أن يتبع نفسه هواها ، فإن نفسه تطرب إذا مدح الخلق سعيه ،وتجعله يظن أن موقف الخالق سبحانه وتعالى منه سيكون كموقف الخلق منه في الدنيا ويتمنى ذلك ، ولا يخطر له على بال أن يدين نفسه ، ويحاسبها على التقصير في حمل المسؤولية كما يجب كمّا وكيفا ومكانا وزمانا ... إلى غير ذلك مما يتم ويكتمل به السعي ليكون على الوجه المطلوب .
وعلى قدر ما يدين الإنسان نفسه، يكون قدر كياسته ، كما أنه على قدر ما يتبع نفسه هواها يكون حجم عجزه.
حديث هذه الجمعة فرضه ما عليه معظم الناس في زماننا هذا من تغييب شبه تام إن لم نقل تاما لما بعد الموت ، ذلك أنهم في كل سعي يسعونه في الدنيا غافلون عن ربطه بالآخرة ، بل لا يخطر لهم ذلك على بال، وأنه سيرى كما جاء في قوله تعالى : (( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى)) . وفي غياب إدانتهم لنفوسهم لغياب كياستهم، وقد أسرهم العجز بمطاوعتها في أهوائها، يتمنون على الله عز وجل الأماني غافلين عن قوله تعالى : (( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنّى فلله الآخرة والأولى )) .وبسبب فصلهم سعيهم في الدنيا عن تبعاته في الآخرة، يقعون كثيرا فيما نهى الله عز وجل عنه ، وهم يخوضون بذلك في حياتهم الدنيا مغامرة وخيمة العواقب حذرهم منها الله عز وجل ولا يأخذونها على محمل الجد .
وعلى كل مؤمن أن يستفيق من غفلته عن الكياسة بإدانة النفس، وذلك بحملها على العمل في الدنيا لما بعد الموت مع تنكب إتباعها هواها والتمني على الله عز وجل .
اللهم إنا نسألك فضلا منك أن تلهمنا كياسة تعيننا بها على إدانة النفس بالعمل لما بعد الموت ، ونعوذ بك من عجز يجعلنا عرضة لهوى النفس ، وتمني الأماني عليك دون سعي يبلغنا ما نتمناه . اللهم استر العيب ، واغفر الذنب ، واصفح ، وتجاوز عنا عجزنا ، وارحمنا بواسع رحمتك يوم غضبك الذي لم تغضبه من قبل، وجنبنا سخطك ، وقنا عذاب النار ، وأدخلنا جنتك جودا منك ومنة، وليس لنا من زاد نعول عليه إلا شهادة توحيد نرددها صادقين، نشهد فيها أنك الله الذي لا إله غيرك ،وأن محمدا عبدك ورسولك قد بلغ عنك الرسالة وأحسن التبليغ ، اللهم لا تجعلنا سواء مع من لا يشهدون لك سبحانه بالوحدانية ، ولا يشهدون لرسولك عليه الصلاة والسلام بالرسالة . رحماك رحماك يا أرحم الراحمين ويا من وسعت رحمته كل شيء ، فلا تجعلها تضيق بنا أو عنّا يا مولانا فأنت نعم المولى ، اللهم إنا نسترضيك بما يرضيك فارض عنا ، فنحن عبادك المذنبون المسرفون ، وأنت يا مولانا قد أملّتنا في رحمتك الواسعة ، وقلت سبحانه في محكم التنزيل : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)) ثم فتحت لنا باب التوبة والإنابة واسعا ، فلا تغلقه دوننا ، ولا تدعنا به واقفين نرجوك ونتوسل إليك، فلا يستجاب لنا ،ونعوذ بك يا مولانا من ذلك.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 895