حلب وذكريات المولد ..
يتداخل عشق آهل حلب للطرب ، مع عشقهم للموشحات والابتهالات والأناشيد الإسلامية . كان مجلس الصلاة على النبي ليلة الجمعة في جامع العادلية يتزين بخامات صوتية راقية . وكان المحبون يأنسون أن يستندوا على جدار في زاوية يؤوّبون ..
أول مولد بلا إنشاد حضرته في حلب كان في جامع الخسروية ، توسط فيه الشيخ رحمه الله تعالى ساحة المسجد ، وتحلق حوله الناس . وراح يعطرهم بذكر الأخلاق والشمائل ، ويعظهم بضرورة الاتباع والاقتداء .. وكلما توقف الشيخ ليقلب صفحة انفلتت ألسن الناس ..
عطر اللهم قبره الشريف .. بعرف شذي من صلاة وتسليم
وألسنٌ بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلهج ، وعيون تدمع وقلوب بالحب تنبض ..!! وخرج بعض من تعود أن ينكر المولد يقول : نعم المولد ..نعم المولد ..
ثم كان من أمر المولد ، أن بعض الصغار في الستينات في وطننا المنكوب ، أرادوا الناسَ على الاحتفال بذكرى 17 أكتوبر ذكرى الثورة البلشفية تحت مسمى / الاشتراكية العلمية ، وبيوم ميلاد لينين ، وجعلوا من ذلك موسما ..فرد عليهم المسلمون عموما - والمسلمون هم سواد أهل سورية قولوها ولا تبالوا- وأهل حلب خصوصا في مظاهرة الاحتفاء في عيد المولد الشريف. فكنت إذا دخلت شوارع حلب أو أحياءها في شهر المولد ، شهر ربيع، ظننت أنك في غرفة صغيرة تفنن فنان في تزيينها ، ففي كل متر من فضاء حلب لافتة تهتف بالحب ، وراية تومي إلى الحبيب ، وأغصان زيتون تكلل اسمه ، ونقل طلاب المدارس الاحتفاء " معركة التحدي" إلى الصفوف المدرسية فكان طلبة الفصول يتسابقون ويتنافسون ، يجمعون الدراهم من قليلهم ويزينون ويحتفون ، ويفعلون كل ذلك على أعين الكثيرين ، ورغم أنوفهم ..!!
ثم في سبعينات القرن الماضي ، ووفاء بحق واقع صعب ومرير ، تشكلت في حلب لجنة لرعاية - الأنشطة المسجدية - تعليم وتفقيه وترشيد ودروس تقوية والتركيز على الاحتفاء بالمناسبات الإسلامية وأي عيد بعد الفطر والأضحى أولى بالاحتفاء والتقدير ..والشيوخ في حلب يظلون يرددون :
والمسلمون ثلاثة أعيادهم ..الفطر والأضحى وعيد المولد
كان الشيخ عبد الله علوان رحمه الله تعالى رأس اللجنة وعميدها ، يسانده أخوه الشيخ عبد الله السلقيني حفظه الله تعالى ، ويمشي في ركابهم منفذون شباب أسأل الله أن يرحم من مضى منهم وأن يحسن ختام من بقي . كان الهدف من تشكيل اللجنة ، أن يستعيد المسجد دوره في حياة النشء وحياة الشباب والمجتمع بشكل عام . وجاهر أهل الإسلام بكلمتهم لن نتعلم علومنا الشرعية في الخفاء . وخرج الشباب المسلم إلى المساجد على موائد العلماء ينهلون ..
وكان من الهدف لعمل اللجنة أن تبقى أيام الإسلام حاضرة في عقول وقلوب جيل الشباب . وأن تبقى جذوة الاحتفال بالمولد متقدة لعشرين يوما من ربيع ، وكان الهدف من ثم التنسيق بين أيام المحتفين في المساجد حتى لا يقع الازدواج ، وكان الهدف ثالثا تحويل الذكرى إلى محطة للتعليم والتثقيف والتعريف بعظمة الرسول العظيم ، صاحب الخلق العظيم .
كنا نحرص على التوازن في تلبية حاجتي العقل والقلب . فتوزيع الوقت بين محاضرة المحاضر وقصيدة الشاعر ونشيد الجيل الجديد من المنشدين ، الذين بدؤوا يملؤون حياة الناس بالكلم الطيب . وكان ذلك أهم ما يميز الاحتفاء الذي يستقطب حتى لا تجد في المساجد متسعا للمزيد . كان الإعداد يركز على ثلاثة عوامل للنجاح . قوة المحاضر - وحضور الشاعر ورحم الله أخانا محمد غزيل - ومكانة المنشد .
في اختيار المحاضر كانت أوثق الخطوات في الانفتاح على جمهور العلماء، لم يكن ضروريا أن يكون المحاضر كما يظن بعض الناس ، بل كان خيارنا الاضطراري الأخير أن يكون المحاضر من الإخوان المسلمين . بل كان كل النجاح في الالتماس من خيار علماء المنطقة التي يقام فيها الاحتفاء ليكونوا شركاء النجاح والإنجاح .
كان على الذين ينسقون الخطوات : أن يتجنبوا ما استطاعوا التكرار . وأن يشركوا أكثر من يستطيعون من المسلمين .. في الأداء وفي الحضور ..
ثمة أمر يفيد أن نذكره ..كل المشاركين في الأداء كانوا عاملين لله . ولكن الاحتفاء كان يحتاج إلى بعض مما لابد منه .. ومنها ضيافة المولد الحلبية ، صرة الملبس التي لا يحسن أن تغيب .. وكان وراء كل حفل جواد كريم يبذل ولا يذكر .. سيذكره إن شاء الله الذي أعطاه ووفقه للبذل ..
وعلى هذا أصبحت احتفاءات المولد الشريف في مدينة حلب قدوة ومثلا ومحطة . ومن ذكرى إلى ذكرى . ومن ذكرى الهجرة ، إلى ذكرى المولد إلى ذكرى الإسراء إلى ذكرى بدر ..
وفي ذكرى المولد يظل الصوت العبقري ينادي في مزج جميل بين القديم والجديد ..
ولد المشرف في ربيع الأول ...فالكون يرقص والكواكب تنجلي
أو تنشد مع الشاعر الحبيب ..
هذي مبادئهم في شرعكم عدم ...هم في السفوح وأنتم في ذرا القمم
هم - أجمعون أبتعون أبصعون - في السفوح ..
وأنتمُ يا سيدي يا رسول الله في ذرا القمم
ولد الهدى فالكائنات ضياء .. وفم الزمان تبسم وثناء
وسوم: العدد 900