فتِّشُوا قلوبَكم
ثمّة قضيةٌ ثقيلة في ميزان الله، يتوقف عليها كمال الإيمان في قلب العبد، لكننا لا نُوْليها الاهتمام الذي يليق بها.
إنها مسألة معلومة من دين الله لدينا جميعاً، فلسنا بحاجة إلى تعلُّمها، إنما نحن بحاجة إلى تمثُّلِها والتحقّق بها، واتباع الوسائل السلوكية التي تجعلها قائمة في نفوسنا وفي مجتمعنا.
إنها الحبّ في الله.
فهل ترانا مبالغين إذا وصفناها بما وصفنا، وعلّقنا عليها من الأهمية هذا القدر الكبير؟! أرأيتم حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. أولا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلامَ بينكم". رواه مسلم. وتأمّلوا قوله صلّى الله عليه وسلّم: "ولا تؤمنوا حتى تحابّوا"، لتَرَوا الربط الوثيق بين الإيمان والحب في الله.
وأول ما ينبغي تأكيده في ذلك إنما هو تحرير الحب لله، فلا يخالطه شيء من أعراض الدنيا وأغراضها. فإذا تحقّق هذا الحب الخالص نال صاحبه من عالي الدرجات ما لا يناله بكثير من العبادات:
ففي صحيح مسلم: "إنّ الله يقول يوم القيامة: أين المتحابّون بجلالي؟ اليوم أُظِلُّهم في ظِلّي، يومَ لا ظِلّ إلا ظِلّي".
وفي الصحيحين في حديث السبعة الذين يُظلّهم الله في ظِلّه: "... ورَجُلان تحابّا في الله، اجتمعا على ذلك وافترقا عليه".
ويأتي التأكيد تلو التأكيد أن يكون الحب في الله خالصاً من أي شائبة. واقرأ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيما رواه مسلم: "إنّ رجلاً زار أخاً له في الله، فأرصدَ الله له ملكاً فقال: أين تريد؟ قال: أريد أن أزور أخي فلاناً، فقال: لحاجةٍ لك عنده؟ قال: لا. قال: لقرابةٍ بينك وبينه؟ قال: لا. قال: فبِنعمةٍ له عندك؟ قال: لا. قال: فيمَ؟ قال: أُحبُّه في الله. قال: فإنّ الله أرسلني إليك يُخبرُك بأنه يحبّك لحبِّك إيّاه، وقد أوجب لك الجنة".
ويكمّل الحبَّ في الله، البغضُ في الله كذلك. فكما يحبُّ المؤمن أولياءَ الله، يكرهُ أعداءَ الله.
روى الأئمة أحمد وأبو داود والترمذي: "مَن أعطى لله، ومنع لله، وأحبّ لله، وأبغض لله، فقد استكمل الإيمان".
وقد حضّ الإسلام على ما يزرع المحبة ويزكّيها، ويربط بين قلوب المؤمنين:
أمَرَ بالتحية والسلام، في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي أوردناه آنفاً: "...ألا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلامَ بينكم".
وفي حديث متفق عليه أمَرَ النبي صلّى الله عليه وسلّم: بعيادة المريض، واتّباع الجِنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المُقْسِم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام.
وحضّ على الزيارة كما ذكرنا، وحضّ على الهدية فقال صلّى الله عليه وسلّم: "تهادَوا تحابُّوا". رواه الإمام مالك.
وأمر بحُسن الخُلق والإلفة، فقد روى الإمامان أحمد والحاكم: "إن أقربكم مني مجلساً أحاسنُكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألَفُون ويُؤلَفون".
فإذا طرأ طارئ على رابطة الحب بين المؤمنين، فحصَلتْ خصومة أو شحناء أو قطيعة... فخيرُهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام. وواجب المجتمع المسلم السعي لإصلاح ذات البين، وليس كالكلمة الطيّبة علاج:
قال الله تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن. إنّ الشيطان ينزغ بينهم). {سورة الإسراء: 53}.
وقال سبحانه: (إنّما المؤمنون إخوة فأصلِحوا بين أخويكم). {سورة الحجرات: 10}.
ولِعِظَم أمر الإصلاح بين المتخاصمين، ولأنه يجوز درء المفسدة الأعظم بالمفسدة الأدنى أباح الكذبَ إذا كان وسيلة للإصلاح بينهما. وقد روى البخاري ومسلم: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس فَيَنْمي خيراً، أو يقول خيراً". فأن تنقُلَ كلمةً طيبة على لسان أخيك، أو أن تتقوّلها عليه لتقرّب بينه وبين مَن خاصمه، وترأب الصدع... لَعَمَلٌ يرضاه الله منك. فليتّقِ اللهَ أُناسٌ يقومون بما يناقض هذا، ينقلون كلام السوء الذي يوغر الصدور ويزرع العداوات.
ونختم بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يعلّمُنا أدباً عظيماً في هذا:
روى أبو داود والترمذي: "لا يُبلّغْني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئاً، فإني أحبُّ أن أخرجَ إليكم وأنا سليم الصدر".
وسوم: العدد 912