( ومن أصدق من الله حديثا ) ( ومن أصدق من الله قيلا )
القول أو القيل أو الحديث أو الكلام يكون ناقلا للخبر ، وهذا الأخير كما يقول علماء البلاغة يحتمل الصدق والكذب . وكلام الناس منذ وجدوا على سطح هذا الكوكب عبارة عن أخبار تحتمل الصدق والكذب . والصدق والكذب ضدان، والصدق ما كان حقا ، والكذب ما كان باطلا . والكاذب من الناس يروم من وراء كذبه جلب منفعة أو رد مضرة ، وهو بذلك مذموم حين يفتضح كذبه بين الناس ،علما بأن الله عز وجل أعلم به من الخلق، ولكنه لا يبالي بعلمه سبحانه وتعالى به وبمراقبته له، وهو عنده مذموم قبل أن يكون مذموما عند الخلق ، أما الصادق منهم ،فيروم من وراء صدقه الحق، وهو بذلك محمود عند ربه سبحانه وتعالى وعند الخلق .
واحتمال الصدق والكذب في الخبر عندما يصدر عن الخلق لا ينطبق على خبر الله عز وجل لأنه لا يحتمل إلا الصدق . وأصدق ما يكون الإنسان مخبرا حين يردد خبر الله عز وجل أو خبر من اصطفاه الله عز وجل لتبليغ خبره للناس عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .
ولا يصدق الناس بعضهم بعضا تصديقا لا يلابسه شك إلا إذا تلوا كلام الله عز وجل أو حدثوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا يرددون بعد سماع كلام الله عز وجل عبارة : " صدق الله العظيم " كما يرددون بعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة : " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وما عدا ذلك من كلام الناس قد يصدّق وقد يشك في صدقه وقد يكذّب .
ولقد ورد في كتاب الله عز وجل تصديق كلامه سبحانه وتعالى بصيغة الاستفهام الإنكاري في موضعين ، الأول قوله تعالى : (( ومن أصدق من الله حديثا )) والثاني قوله تعالى : (( ومن أصدق من الله قيلا )). وفي الآيتين إنكار لوجود أحد هو أصدق حديثا أو قيلا منه سبحانه وتعالى .
ويترتب عن صدق قول أو حديث الله عز وجل أن كل ما أخبر به سبحانه وتعالى ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا في محكم التنزيل هو صدق لا ريب فيه . ومن ارتاب في شيء منه فقد نقض إيمانه أو ألبسه بظلم . وليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أخبر الله عز وجل في محكم التنزيل خبرا أن يتعامل معه كتعامله مع ما يخبر به الخلق بشك أو تشكيك ، ويستثنى من الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه ربه سبحانه وتعالى ليبلغ كلامه للعالمين ، وهو الذي نفى عنه جل وعلا التقول عليه في قوله سبحانه وتعالى : (( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذّكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين )) . إنه كلام الله عز وجل الذي بلغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما تلقاه لا مبدلا ولا مغيرا، لأن ربه سبحانه وتعالى نزهه عن ذلك.
وإن بعض الذين ينعتون أنفسهم بالقرآنيين وما هم بقرآنيين ليقرون بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ القرآن الكريم عن ربه ،ولكنهم يرتابون في صدق حديثه صلى الله عليه وسلم ،علما بأن الله تعالى في القرآن الكريم الذي لا يمكنهم الارتياب في صدقه كما يشهدون على أنفسهم بذلك نزهه في قوله عز من قائل : (( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )) ، وهذا ينقض تشكيك هؤلاء في صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن طرق تشكيكهم في حديثه صلى الله عليه وسلم التشكيك في نقل هذا الحديث، علما بأنه قد نقل عنه القرآن الكريم الذي لا يستطيعون التشكيك فيه . ولو كذب عنه من نقلوا عنه حديثه لكذبوا أيضا عنه في نقل القرآن الكريم . وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يثير حوله الشكوك من يسمون أنفسهم قرآنيين هو وحي من الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : (( وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم )) ،وتبيان ما نزّل للناس هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " وهو ما يعني أن حديثه صلى الله عليه وسلم هو من عند الله عز وجل .
وقد يقول قائل ممن يسمون أنفسهم قرآنيين إنه قد وقع الوضع والكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتخذون ذلك ذريعة لرفض معظم الحديث أو التشكيك في صحته ، وهي ذريعة واهية مردودة عليهم لأن أئمة الحديث قد وضعوا من الضوابط الصارمة ما سد كل طريق على الوضّاع والكذّابين . ومن الحجج التي لا يستطيع من يسمون أنفسهم قرآنيين التنكر لها هو موافقة مضامين النصوص القرآنية لمضامين الأحاديث النبوية ، ذلك أنهم إن أنكروا هذه الأحاديث سقطت دعواهم بأنهم قرآنيين أي أنهم يصدقون القرآن الكريم ،وهم في حقيقة الأمر ينقضون دعواهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة أنه قد كثر في الآونة الأخيرة عندنا المتجاسرون على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا له أوتشكيكا فيه ، وقد سلكوا إلى ذلك طرق الطعن في أئمة الحديث من أصحاب الصحاح المشهود لهم بالعدالة والعلم . ومشكلة هؤلاء الطاعنين أنهم من غير أهل العلم ،ومع ذلك يتطاولون على أعلام الحديث ، وهو ما لم يحصل من أهل العلم والاختصاص قديما أوحديثا . وهدف هؤلاء هو تشكيك العوام في الحديث ، وحملهم على التجاسر عليه، ومن ثم التجاسر على القرآن الكريم، والتجاسر على الإسلام ، وهو في الحقيقة جزء من مشروع ماكر خبيث أعده أعداء الإسلام من أجل محاربته من خلال تضليل العامة وصرفهم عن التدين بالتدريج تمكينا لهيمنة التيارات اللادينية الداعية إلى ما يسمونه مجتمعات مدنية عوض المجتمعات الدينية وتحديدا الإسلامية . وهذا التيار التضليلي يشتغل على عدة جبهات من أجل تكريس هذا المشروع الماكر الخبيث ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر جبهة الدعوة إلى هويات طائفية عرقية ولسانية لتعطيل الهوية الإسلامية الجامعة بين مختلف الهويات ، وجبهة الدعوة إلى اعتماد ما يسمى بالمعايير الدولية المتعارف عليها ،وهي في الحقيقة معايير مجتمعات علمانية لا دينية غالبة تريد الهيمنة على غيرها من المجتمعات خصوصا الإسلامية ،وفرض قوانينها عليها خصوصا تلك التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية وتجريم واتهام كل من يرفض تلك القوانين الوضعية . وهناك جبهات أخرى تعتبر كلها روافد لتيار الكيد لدين الإسلام منها الخفي الذي لا يكشف عن كيده ومكره ، ومنها المجاهر بذلك .
ومع سكوت الجهات الموكول إليها صيانة الإسلام تمادى أصحاب التيار المعادي له في عدوانهم عليه بنشر وترويج الأقاويل والإشاعات الكاذبة تحت ذريعة حرية الرأي وحرية التعبير ، وهي مما يساء استغلاله لأهداف مغرضة أصبحت مكشوفة .
ويتعين على المسلمين أن يستحضروا صدق قول وحديث رب العزة جل جلاله ، وصدق حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ،وهم مطالبون بذلك بموجب إيمانهم الذي يفرض عليهم الإيمان بالقرآن الكريم باعتباره الكتاب الذي ختم به الله عز وجل الكتب المنزلة من عنده والواجب الإيمان بها كإيمانه به سبحانه وبملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره . ومن خامره شك في صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مما صح عنه بإجماع أئمة المسلمين من أهل العلم بالحديث ، فإنه في حكم المشكك في القرآن الكريم ولو ادعى غير ذلك كذبا وتمويها على تشكيكه فيه ، فإنه بذلك ينقض إيمانه أو يلبسه بظلم .
اللهم اشهد بأننا آمنا بما آتيت رسولك عليه منك الصلاة والسلام قرآنا كريما وسنة نبوية شريفة ، مصدقين بقولك وحديثك سبحانك وبحديث رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام . اللهم إنا نبرأ إليك ممن يشككون في صدق قولك وحديثك سبحانك تصريحا أو تلميحا ، أويشككون في حديث رسولك عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام تصريحا أو تلميحا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 913