( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) لقمان
وجيز التفسير ..
ومن أضيق ما وقع فيه بعض من حسبوا على القرآن، قَصْرُ معاني القرآن الطليقة على فهوم أهل زمان ومكان محددين.
ومع أن المقرر في أصولنا المتفق عليها "عموم اللفظ لا خصوص السبب" إلا أن فهوم البعض تظل تحوم حول موقع البئر الذي ألقي في غيابته يوسف، أو حول اسم الذئب الذي أكله أو لم يأكله !!
ولم تخلُ تفاسير جهابذة المفسرين العظام، من رجال طرقوا أبواب الحق والحقيقة، في تجلياتها المتسامية، وآفاقها المتراكبة جيلا بعد جيل، في رؤية تستشرف معطيات الزمان والمكان..
ويعيدنا اليوم إلى وضع دلالة " لهو الحديث" المشترى، في إطاره القرآني المنيف، ما آل إليه حال الأمة، أجيالها ، شيوخها وشبابها، من الرتْع والرتوع والرتاع في فضاء " لهو الحديث" بأفق مزدان، يُشترى، فتتآكل فيه الأعمار ، ويُتلهى به عن الأوجب والأولى والأهم ، تحت وهم اشتغال بأوهام مزجاة عن هموم حقيقية تثقل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
"لهو الحديث" وتمر على صحاف، وصحائف، وزمر، وجماعات ممن تخال وتظن وتحسب فترجو،؛ فتجد خيلا تتعب في باطل، أسوء ما فيه أنه في صورة " الحق " يكون. ويرى بيته وبيتك تأكله النار، فيدعوك قائلا لك : وما تقول إذا جعلنا سمرنا الليلة بألف مرة من الصلاة والسلام على النبي، المختار. فتحتار كيف تختار حتى لا يقال : إنك انتقصت من مقام الصلاة والسلام على النبي المختار . صلى الله عليك يا علم الهدى !!
ذاك رجل يجمع أطفالا غير مميزين يفقههم - يزعم - في الدين يعلمهم أحكام غسل الجنابة تكون بعد احتلام أو مساس، وإذا قلتَ له يقول: ومن يرد الله به خير يفقهه في الدين " وإن كنت جهبذا أعد لهذا القائل الجواب..
وبينما ينتهك الظالم المستبد الأعراض، ويحصد الأرواح، ويخرب العمران ويبيع الأوطان، يظل ثالث منهمكا في تحرير مناطات الاختلاف فيمن بايع يزيد أو قتل الحسين، أو في نظرية الفروق بين " الشورى والديمقراطية" تارة يركز على الخلفية، وأخرى يفلي الحاشية الأمامية..لعله يجد قملة سوداء تدب على صخرة صماء في ليلة سوداء ...
و( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ )
ولفهم آيات الله آفاقٌ ، ونحن كلما تجاوزنا أفقا إلى أفق، لم نتجاوز الأول، ولم نلغه، ولم نخطّئ من قال به...ولا ندعي خصيصة نسخ فننسخ، ولا تعليق فنعلق، ولا ندعو إلى هجران فنهجر ، وإنما نطل على الآفاق وندرك أن الكلمات القرآنية خزائن لنور لا يحد، ولحكمة لا تنضب..
ونأبى أن يقصر كلام رب العالمين، الذي نتمسك بأنه كلام الله " غير مخلوق " وما أجمل وأحكم أئمتنا إذا حاربوا من أجل هذا ، وما زلنا بحربهم نحارب ، والذي من أبسط معانيه، أن القرآن الكريم ما يزال وسيظل نبعا معطاء ثرا دفاقا، تسيل بعطاءاته غير المنقطعة ووديان وقلوب..
قالوا وأكثرو " لهو الحديث" الغناء أو فاحشه، والمهيج للشهوات منه. وفسروا الشراء بالمعنيين الحقيقي فقالوا : شراؤه شراء أدواته وكل وسائله بما فيها من يقوم به. وبالمعنى المجازي للشراء فقالوا: والمقصود بالشراء التفضيل، أن يفضل الإنسان لهو الحديث على جده، فيبذل في ذلك وقته وعمره وجهده، مشتغلا بما لا ينفع ولا يفيد ...وذاك أفق أول من القول، وبقول من قال به وهم الأكثرون نقول ...
وعقب على كل تلك المقررات والروايات شيخ المفسرين الإمام الطبري بقوله: والصواب من القول وعني به " لهو الحديث" كل ما كان ملهيا عن سبيل الله ..معنى عام جامع طرق به الإمام كل الأبواب، وارتاد به كل الآفاق.
وقال الإمام البخاري معنونا : كل لهو باطل إذا أشغل عن طاعة الله تعالى.
وقال ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز وتأمل ثم تأمل " والآية باقية المعنى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر، ولا ليتخذوا آيات الله هزوا، ولا عليهم هذا الوعيد -يقصد العذاب المهين- بل ليعطل عبادة الله - بما هو أولى أو واجب الوقت - ويقطع زمانا بمكروه "
وقال الإمام الرازي في مفاتح الغيب" لهو الحديث" إن ترك الحكمة - والحكمة وضع الشيء في موضعه - والاشتغال بآخر قبيح . أي الاشتغال بغير ما تقتضي الحكمة أن نشتغل به، وأي شغل لأسير غير أن يسعى بفكاك رقبته أو عرقوبه الذي هو معلق به.
يزيدك الإمام الزمخشري في الكشاف " لهو الحديث" كل باطل ألهى عن الخير وعما يُعلي " ..
وأختم مع الشهيد سيد قطب وهو يقرر " لهو الحديث" كل كلام يُلهي القلب، ويأكل الوقت - تنبه والوقت هو الحياة وهذه من حسن البناء - ويأكل الوقت ولا يثمر خيرا ، ولا يأتي بحصيلة، تليق بوظيفة الإنسان ..
وأعود إلى مجموعاتنا وصحافنا وما نضيّع في مضغه أعمارنا، وما ننشغل به عن واجب وقتنا ..
أتذكر صًبيغا وكان يشغل المجاهدين عن واجب وقتهم، مما هم فيه من الجهاد بالسؤال عن تفسير مفردات من القرآن، فيضربهم عمر بعرجون النخل مرة بعد مرة بعد مرة وأتساءل وكم من صبيغ فينا وبين ظهرانينا ولا هو ولا نحن ندري ..
"لهو الحديث "أن يستفزك ويستجرك خليٌّ عما يهمك ويشجيك، عن دمك المسفوح، وعرضك المنتهك، ووطنك السليب ..ثم تخوض وهو مع الخائضين.
" لهو الحديث" كل ما يشغلك عن الحق الأحق في لحظته ، وكلمة منه تجعلك في مصاف حمزة سيد الشهداء، وكل ما عداها في وقته لغو أو لهو ، فاختر لنفسك ما يحلو ..
وبحسب امرئ من الضلالة والإضلال عن سبيل الله، أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وحديث الأمس عن حديث اليوم وصيرورة الغد، وأن يختار الحديث الذي يشغل بغير إتاء ، وكل جدل لا ينبني عليه عمل فالخوض فيه باطل. وبحسب امرئ من الباطل أن يختار الحديث الذي يفرق ولا يجمع ثم لا يظن أنه يشتري لهو الحديث، ولأن نجتمع في بحبوحة الحق الجامع خير من أن نفترق في زواريب لجلج الباطل، وكلٌ يظن أنه على الحق الأبلج المبين. يظن وبعض الظن إثم ..
وسئل عن الفرقة الظاهرة فقال"ما أنا عليه أنا وأصحابي" وما كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصحاب قيل وقال، وما كانوا يبالون بما علق بطرف الإزار ...
أيها الناس إن لقرآنكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ..
وسوم: العدد 946