( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها )
من المعلوم أن إرادة الله عز وجل اقتضت أن تكون الحياة الدنيا دار يبتلى فيها الإنسان ابتلاء يتناوب عليه فيه الشر والخير ، وهو ما يؤكده كتاب الله عز وجل حيث يقول سبحانه وتعالى :
(( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )) كما أنه يقول :
(( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )) ، ففي هذين الآيتين الكريمتين بيان للغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الإنسان وهي أن يحيى حياة أولى يبتلى فيها بشر أو بخير كتبهما الله عز وجل عليه ، فيموت ثم يبعث ليحيى حياة أخرى يجازى فيها عما عمل فيما ابتلي به في حياته الدنيا ، وهذه قاعدة إلهية تنسحب على كل إنسان ، ولا يستثنى منها صالح أو طالح .
وإن الإنسان غالبا ما يغفل عمّا أخبر به الله عز وجل من أن الابتلاء في الحياة الدنيا يكون إما شرا و إما خيرا لا محالة ، بحيث لا يمكن أن ينتظر في ابتلائه الخير فقط أو الشر فقط بل لا بد منهما معا ، علما بأن الله تعالى قد أخبر عن حالة الإنسان النفسية حين يصيبه الشر ، وحين يصيبه الخير، فقال سبحانه وتعالى : (( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا )) كما قال جل شأنه : (( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط )) .
وقد يلتبس على الإنسان ابتلاؤه بالخير بابتلائه بالشر بحيث يحب ما يراه خيرا له ،وهو في الحقيقة شر له ، ويكره ما يعتقده شرا له وهو في الحقيقة خير له كما في كتاب الله عز وجل حيث قال : (( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)).
والإنسان المؤمن الذي يدرك أن حقيقة الابتلاء تكون بشر وبخير ،وهو لا يعلم ما يعلمه خالقه سبحانه من أمر ما يبتلى به، فيواجه الابتلاء بالشر بصبر ، كما يواجه الابتلاء بالخير بشكر كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه :
"عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له "
إن الإنسان المؤمن كما جاء في هذا الحديث الشريف، يكون موقفه دائما متّزنا وهو يبتلى في حياته الدنيا ، وهو اتّزان مرده اللجوء إلى الشكر إذا أصابه خير ، و اللجوء إلى الصبر إذا أصابه شر ، علما بأنه قد لا يوفق لإدراك الخير فيما يظنه شرا له كما أنه لا يوفق في التنبه إلى الشر فيما يحسبه خيرا وذلك لما غاب عنه مما استأثر الله عز وجل بعلمه، ولم يكشفه له إلا بعد حين .
وإذا ما صبر على ما يظنه شرا له ويكون في الحقيقة خيرا له أعذره الله تعالى في ذلك لجهله بما أخفاه عنه سبحانه وتعالى من خير فيما ظنه شرا . وإذا ما شكر على ما يظنه خيرا له وهو شر له أعذره سبحانه أيضا لجهله بما أخفاه عنه، فيكون مع ذلك في الحالتين موفقا بعون من الله تعالى وتوفيق منه .
والإنسان المؤمن في ابتلائه بالشر والخير يكون معرضا للحسد إذا ما أصابه خير ، وللشماتة إذا ما أصابه شر . والحسد والشماتة من صفات النفاق كما جاء ذلك في كتاب الله تعالى وهو يتحدث عن المنافقين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال مخاطبا رسوله وصحابته :
(( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط )) .
وهذا السلوك المشين دليل على النفاق الذي يكون من فرد أو من جماعة.
وقد يخفي المنافقون الذين يعيشون وسط المؤمنين ما يسوءهم ، ولا يظهرونه إذا مست الحسنة المؤمنين ، ولكنهم لا يستطيعون إخفاء الشماتة بهم إذا مستهم السيئة نكاية فيهم بأسلوب أو بآخر تلميحا أو تصريحا ، والله عز وجل يحيط علما بما يعملون.
حديث هذه الجمعة دعت إليه حاجة تذكير المؤمنين بأمر ابتلائهم في هذه الحياة الدنيا بشرا وخيرا ، وتذكيرهم بأنهم ربما أخطئوا التقدير في التمييز بين ما هو شر لهم وما هو خير لهم ، وبأنهم عليهم أن يلازموا الصبر إن أصابهم شر ، ويلازموا الشكر إن أصابهم خير ، وأن عليهم أن ينتبهوا إلى الذين يستاءون حين تصيبه الحسنة ، ويفرحون حين تصيبهم السيئة .
ومعلوم أننا نعيش زمن شيوع فساد التدين لدى كثير من المسلمين سواء كانوا ، وهو ما يوفر بيئة لاستشراء النفاق الذي يكشف عنه الفرح بما يلحق المؤمنين من شر ، والاستياء بما ينالهم من خير .
فماذا عسى الإنسان أن يقول في زماننا هذا عن أفراد أو جماعات أو جهات أو أنظمة وكلهم محسوب على الإسلام ـ يا حسرتاه ـ لكنهم يسوءهم أن يكون المسلمون بخير ، وفي نعمة ، وأمن وأمان ، وسلم وسلام ، و في المقابل يسرهم ويفرحهم أن يصيبهم سوء أو ضيق أو خوف أو جوع أو حرب ... أليس في هذا ما يدل على النفاق ؟
اللهم إنا نسألك أن تلهمنا معرفة ما جعلته خيرا لنا وغابت عنها معرفته ونحن نظنه أنه شر لنا ، و نسألك أن تنبهنا إلى ما فيه شر لنا ،ونحن نظن أن فيه خيرا لنا . اللهم إنا نعوذ بك من شماتة الشامتين إذا ما ابتلينا بشر ، ومن حسد الحاسدين إذا ما ابتلينا بخير . اللهم أحسن عاقبتنا في كل الأمور ، وتوّلنا بما توليت به عبادك الصالحين ، وارزقنا اللهم الشكر في السراء ، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 948