( فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين )
من المعلوم أن رسالة الإسلام وهي خاتمة الرسالات وهي عالمية أرسلت للناس كافة إلى قيام الساعة، تضمنت أخبار الأمم السابقة لتكون عبرة لكل من أدركتهم هذه الرسالة . ويكفي أن تستعرض أخبار تلك الأمم ليعلم المقصود من ذكرها .
ومن تلك الأخبار انتقام الله عز وجل من الأمم المكذبة بمن أرسل فيها من مرسلين ، وما أرسله إليها من رسائل متضمنة لأوامره ونواهيه . ومن النصوص القرآنية التي ذكر فيها انتقامه سبحانه وتعالى من الأمم البائدة قوله تعالى : (( ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين )) . ففي هذا النص القرآني خطاب موجه إلى صاحب الرسالة الخاتمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله هو موجه إلى أتباعه من المؤمنين إلى قيام الساعة ، وفحوى الخطاب إخبار عن سنة الله تعالى إرسال الرسل والرسالات إلى البشرية عبر تاريخها الطويل ، وهي رسالات تتضمن بيّنات تكشف عما يريده سبحانه وتعالى من المرسلة إليهم من طاعة وعبادة ،والتزام بما شرعه لهم لتحقيق استقامتهم وفق إرادته . ومن بيان القرآن الكريم في هذا النص أنه وصف إعراض المعرضين عن البيّنات بالإجرام الذي هو ارتكاب الجنايات أو المخالفات المقتضية للعقوبات التي سماها الله تعالى في هذه الآية الكريمة انتقاما ، والانتقام هو الافتعال من النقم ،ويكون غضبا ينال من يقترف جرما أو جناية ردا على جرمه أو جنايته كما هو الشأن بالنسبة لما يكون بين الناس من ثأر، فينتقم مثلا من القاتل بالقتل بسبب الغضب مما جناه.
ولقد جاء في كتب التفسير أن انتقام الله عز وجل من الأمم الناكبة عن الصراط المستقيم كما بينته البيّنات المضمنة في الرسالات التي أرسلت إليها هو في حد ذاته نصر وانتصار لأولئك المرسلين ولأتباعهم المؤمنين، علما بأن المرسلين وأتباعهم كانوا دائما يتعرضون لشتى أنواع الاعتداء من طرف المجرمين المكذبين بالرسالات ، لهذا كان انتقام الله عز وجل من هؤلاء نصرا لأولئك ، وهو نصر موعود منه سبحانه وتعالى على كل المؤمنين أن يستيقنوا بحصوله لا محالة لأنه جل جلاله صادق الوعد الناجز ، وهذا اليقين مما يوجبه الإيمان الراسخ الذي لا يلابسه تردد أو ريب .
ومعلوم أن هذا الانتقام الإلهي من الإجرام البشري إنما هو سنة إلهية جارية وسارية إلى قيام الساعة ، وهو انتقام له أشكال وكيفيات حسب طبيعة الإجرام ، وقد ذكر لنا الله عز وجل منه ما جاء قوله تعالى : (( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ))، وهذا النوع من الانتقام الإلهي هو أقسى وأقصى أنواع الانتقام ،ويكون النهاية المخزية للمجرمين ، ودونه أنواع أخرى من الانتقام تكون سابقة له كتحذيرات من الانتقام الأقسى والأقصى ، ومن ذلك على سبيل المثال ما أصاب فرعون وقومه قبل إغراقهم كما جاء في قوله تعالى : (( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون )) ، وواضح أن هذا الأخذ كان انتقاما تحذيريا قبل الانتقام العقابي والنهائي .
ولا يمكن أن يؤمن انتقام الله عز وجل سواء التحذيري منه أو العقابي إذا ما أجرم الناس في كل زمان ومكان . ولا شك أن الناس ممن أدركوا الرسالة الخاتمة إلى يومنا هذا قد عاشوا أو عاينوا أنواعا وأشكالا من الانتقام الإلهي التحذيري ، وربما غفل عنها الكثير منهم، وظنوه أمرا طبيعيا وعاديا ، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر انحباس القطر و فشو الغلاء والوباء، وكل ذلك من الأخذ الإلهي كما مر بنا في خبر آل فرعون لعل الناس يذّكرون ، فيعودون إلى صراط ربهم المستقيم.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه الغافلين من المؤمنين إلى ما حذر منه المولى جل وعلا من انتقام ينال المجرمين ممن يجرمون في حق أنفسهم وفي حق غيرهم علما بأن عالم اليوم يعج بالإجرام غير المسبوق حيث تعتدي دول على أخرى ، وأقوام على آخرين ، ومن المعتدين كفار ومشركون ، يعتدون على المؤمنين ، ويضطهدونهم كما هو الحال في فلسطين المحتل ، والصين ، وبورما ، والهند... ودول أخرى في المعمور ، وقد يتحالف بعض المحسوبين على الإسلام معهم ، ويدخلون معهم في أحلاف على حساب المضطهدين من المؤمنين دون أن يخطر ببالهم أن الانتقام الإلهي سنة جارية عليهم أيضا كما جرت على من كان قبلهم من المعتدين ، وأنه حاصل لا محالة ، وأن نصر المؤمنين ناجز لا محالة أيضا . ولا شك أن كثيرا من المجرمين كما سماهم الله تعالى غافلون عن انتقامه ، لا يفكرون فيه ، ولا يظنون أنه واقع بهم ، وهو ما يزيدهم طغيانا خصوصا حين تتوفر لديهم أسباب القوة والإمكانات التي يراهنون عليها ، ويثقون فيها كل الثقة دون أن يحضرهم الانتقام الإلهي ، وما هو منهم ببعيد ، ولا تنفعهم إذا ما نزل بهم قوتهم خصوصا وأنه مسبوق بأشكال من التحذيرات مما يعيشه العالم اليوم من حروب وغلاء ووباء... والغريب أن الله تعالى قص علينا في الرسالة الخاتمة أخبار السابقين الذين كانوا يعولون على قوتهم وإمكاناتهم لكن كل ذلك لم ينجهم من انتقامه كما كان الحال بالنسبة لآل فرعون وقد قال الله تعالى عنهم : ((فلمّا آسفونا انتفمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين )) إلا أن كثيرا من الآخرين مع شديد الأسف لا يعتبرون ، ويمضمون على نهجهم في الإجرام .
وينبغي على أمة الإسلام أن تثبت على إيمانه بأن وعد الله عز وجل ناجز لا محالة ، وأن انتقامه من المجرمين واقع لا محالة ، وأنه يكون نصرا للمؤمنين الصادقين الصابرين الثابتين على دينهم .
اللهم إنا نسألك الثبات على الإيمان وعلى الدين ، ولا تفتنا فيهما ، اللهم عجل بانتقامك من أعدائك أعداء الدين كما جرت بذلك سنتك في العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 989