من أحداث شهر صفر، يوم الرجيع وبئر معونة
واقعتان محزنتان تستحقان وقفة عبرة وتأمل، حدثتا والنبي صلّى الله عليه وسلّم على رأس المسلمين. كِلا الواقعتين حدثتا في شهر واحد، شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة، أي بعد أربعة أشهر من غزوة أحد التي كانت في شوّال/3ه، وكانتا في مكانين متقاربين بين مكة وعسفان.
وكان من فجيعة يوم الرجيع أن استُشهد سبعة من الصحابة، كان أميرهم عاصم بن ثابت، وكان منهم خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، غدر بهم الكفار. وأما في بئر معونة فقد استُشهد سبعون من الصحابة، غدراً كذلك من المشركين. ونذكر ههنا بعض تفصيل للحادثتين، ثم نذكر الدرس والعبرة. وسيمرّ ذكر ثلاثة، كل منهم اسمه عامر:
- عامر بن مالك: أبو براء، مُلاعب الأسنّة، سيّد بني عامر بن صعصعة وأحد فرسانهم. وهو خال عامر بن الطُّفيل.
- عامر بن الطُّفيل: شاعر وفارس فتّاك شرّير من بني عامر بن صعصعة من قبيلة هوازن.
- عامر بن فهيرة، رضي الله عنه: مولى أبي بكر الصديق، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد شهداء بئر معونة.
* * *
قَدِمَ وفدٌ من قبائل عضل والقارة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يطلبون منه أن يرسل معهم مَن يعلّمهم شرائع الإسلام، فأرسل معهم سبعة من خيرة أصحابه، حتى وصلوا إلى حي من هُذيل يُقال لهم بنو لحيان فأحاطوا بهم وقاوم فيهم عاصم بن ثابت فقتلوه، وأسروا خبيباً وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكّة فاشتراهما بعض أهلها وقتلوهما انتقاماً لمن قُتل منهم في بدر، وكان ذلك في موقع يدعى الرجيع.
* * *
وجاء أبو براء/عامر بن مالك، إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليتعرّف إلى الإسلام، وسمع الكلام العذب والحجج الظاهرة لكنه لم يُسلم، ولم يُظهر عداوة للإسلام، بل قال: يا محمّد، لو بعثتَ رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعَوهم إلى أمرك رجوتُ أن يستجيبوا لك!. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إني أخشى عليهم أهل نجد. قال عامر: إني جار لهم. (وهذا يعني أنهم في حمايته، ولن يجرؤ عليهم أحد).
اطمأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى تعهّد أبي براء، فإن العرف السائد آنذاك أن سيد قبيلة قوية إذا أجار أحداً فلن يُخْفِرَ أحد جواره. فاختار سبعين رجلاً من صحابته، ممن يُعرفون بالقرّاء، وأمّرَ عليهم المنذر بن عمرو. فلما وصلوا إلى مكان يسمى بئر معونة قريباً من أرض بني سليم، وليس بعيداً عن أرض بني عامر، أرسلوا أحدهم وهو حَرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل يدعوه إلى الإسلام، لكن عامراً لم ينتظر ويستمع، بل أخذته العزّة بالإثم وأمرَ أحدَ أتباعه بقتل حرام بن ملحان!. واخترق الرمح ظهره ونفذ من صدره فصرخ: فُزتُ وربّ الكعبة.
وأراد الشقيّ عامر بن الطفيل أن يحرّض بني عامر على بقية الدعاة، فلم يُجيبوه، احتراماً منهم لجوار سيّدهم عامر بن مالك، فاستعدى على الدعاة قبائل من سليم: من عُصيّة ورِعْل وذَكْوان، فأجابوه وقتلوا الدعاة، إلا أن أحد الدعاة وهو عمرو بن أميّة الضمري تمكّن من النجاة ورجع إلى المدينة... وتأثر النبي صلّى الله عليه وسلّم لمقتل أصحابه، وبقي شهراً يقنُت في الصلاة ويدعو على رعل وذكوان وعصيّة.
* * *
وإن أول ما يتبادر إلى الذهن: لماذا لم يوحِ الله تعالى إلى نبيّه يحذّره مما سيقع في أصحابه من غدر في يوم الرجيع وبئر معونة؟ بل لماذا لم يُلهمه ابتداءً يوم بدر أن ينزل المنزل الأفضل الذي أشار عليه به الحُباب بن المنذر؟ ولماذا لم يأمره بأن يكون قتال يوم أحد متحصّناً بالمدينة ما دامت أكثر أمناً، ولا يخرج للقتال في ضواحيها؟ ولماذا يمكّن لأعداء الإسلام أحياناً أن يبطشوا بأولياء الله من الدعاة والمجاهدين في كل عصر؟!.
أسئلة كثيرة نُجيب عليها بأن الله تعالى رحيم بعباده، حكيم فيما يفعل. ولقد أنزل هذا الدين لا ليخصّ به جيل الصحابة، بل ليكون الدين الذي يُظهِره على الدين كله إلى يوم الدين. وعبر الأجيال يحمل هذا الدين ويجاهد في سبيله بشرٌ يُصيبون ويخطئون، ويكشفون كيد عدوّهم مرة، ويغفلون مرة ويُخدعون، ويتعلّمون من تجاربهم. ومهما كانت التضحيات كبيرة فإن هذا الدين يستحق كل تضحية. وإن المسلمين، وهم يُقتلون في مواجهة أعدائهم، أو نتيجة مكر عدوّهم الذي استطاع أن يوقع بهم، هم شهداء أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون.
والخطأ يقع من القادة كما يقع من الجنود، ولا يمكن الاحتراز من المغامرة دائماً، ولا يُستبعد الغدر من الكافر في أي حال، والمؤمن على خير ما دام يتحرّى الحق والصواب.
وسوم: العدد 995