وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
قال ربي سبحانه وتعالى في أول هذه الآية الكريمة رقم ( 155 ) من سورة البقرة : ( وَلَنَبْلُوَنَّكم ) وختمها بقوله : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) ، ثم أردف هاتين البيئتين الأثيرتين وهو أرحم الراحمين بقوله : (أُولئِـكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ ) 157 / البقرة . فالابتلاء من سنن الله في خلقه ، والصبر على هذا الابتلاء مكانة عالية عند الله تعالى ، وفترة الابتلاء التي تُختم بجائزة الصبر لهي الجائزة الغالية ، ولا يخفى على أي مخلوق من بني آدم أن الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار ، ودار مكافآت محلية مباشرة لمَن يفوز بجائزتها . والإنسان لابد له من الصبر ومن مكابدة شدائد الأيام : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) . ولعل الابتلاء ومكابدته اختبار للإنسان المسلم المؤمن رجلا كان أم امرأة ، فمَن رضي بقضاء الله وقدره ، واطمأن إلى ما اختاره الله له ، فقد نجح في هذا الاختبار ، وليبشرْ بما وعد الله له حيث يقول الباري سبحانه : (أُولئِـكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ ) 157 / البقرة . وقد ذكرنا هذه الآية قبل قليل ، ونعيد ذكرها مرة أخرى لعذوبتها وجلالة قدرها وأخذها بيد الصابرين الفائزين إلى خيمة الهداية الربانية .
ولقد جاء في بعض كتب التفسير : ( أُولَئِكَ : الموصوفون بالصبر المذكور عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي: ثناء وتنويه بحالهم وَرَحْمَةٌ عظيمة، ومن رحمته إياهم, أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ الذين عرفوا الحق, وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون, وعملوا به وهو هنا صبرهم لله. ودلت هذه الآية, على أن من لم يصبر, فله ضد ما لهم, فحصل له الذم من الله, والعقوبة, والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين, وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر. وأن هذا الابتلاء والامتحان, سنة الله التي قد خلت, ولن تجد لسنة الله تبديلا ) . والناس في هذه الحالات معادن ، وفيها الثمين وفيها الرخيص ، وإنما يعرفون عند وقوع المصائب أو الأحداث الجسام أو الكوارث ، والإيمان الحق ليس مجرد لفظ يتفوه به الإنسان ، ولكنه عقيدة راسخة في أعماق القلوب ، وعند وقوع الفتنة أي المصيبة يتبين الصادق ، ويُفتضح الكاذب ، ولينال كلٌ من الفريقين ماوعد الله به . يقول المولى تبارك وتعالى : ( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ*) 1/2/3 /العنكبوت . ولقد كان الابتلاء من علامات حب الله لعبده الي ابتُلي فصبر ولم يجزع . يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ) . والإنسان لايدري أين كتب الله له الخير ، فإن شيئا محبوبا لديه في ظاهر الأمر ، ولكن سيكون له فتنة ، ورب شيء مكروه لديه ولكن عاقبته ستكون خيرا وهناء على صاحبه ، والله يعلم وأنتم لاتعلمون . وصدق الله العظيم : (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) 216/ البقرة . وهذا نداء لأهل الإيمان بالله : أن اصبروا على شدائد الأيام ، واحتسبوا ثوابكم عند الله ، فإن الشدائد لاتدوم ، وهي كفَّارات للذنوب ، وبها للصابرين المحتسبين تُرفع الدرجات يوم لاينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم . وحـري بأهل الإيمان أن يرى الله في صبرهم صدق إيمانهم ، فمهما أظلمت الدنيا في وجوه المؤمنين لابد من انبلاج وجه النهار الذي لايُبقي وحشةَ الليل ، ولا مرارةَ المكابدة ، وإن قـلَّ عمل المؤمن في أداء الصالحات الباقيات ، فإن الله رحيم بعباده ، كريم جـواد في عطائه وهباته .
ولنا أن نتذكر بعض الأحاديث النبوية الشريف في هذا الباب ، لنعلم مكانة الصابرين الراضين بأقدار الله سبحانه وتعالى .
ففي صحيح مسلّم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ( ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ) . قالت رضي الله عنها : فلما توفى أبو سلمة قلت: مَن خيرٌ من أبي سلمة: صاحب رسول الله؟ ثم عزم الله لي فقلتها: قالت: فتزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . وروى الإمام أحمد بسنده عن أبى سنان قال: دفنت ابنا لي. وإني لفي القبر أخذ بيدي أبو طلحة «يعنى الخولاني» فأخرجني وقال: ألا أبشرك؟ قال قلت : بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى :
يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم
قال فماذا قال؟ قال حمدك واسترجع. قال الله تعالى: ( ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ) . وروى الشيخان عن أبى سعيد وأبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (ما يصيب المسلّم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وسوم: العدد 1001