( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم ما خالفكم إذا اهتديتم )
من المعلوم أن الرسالة الخاتمة المنزلة على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لهداية العالمين إلى يوم الدين مكلف بتبليغها كل من بلغته مصداقا لقوله تعالى : (( وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ )) ، فقوله سبحانه (( ومن بلغ )) يؤكد أن ما في رسالته العالمية الخاتمة من إنذار قد كلف بتبليغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، فلما التحق بالرفيق الأعلى صار كل مؤمن بهذه الرسالة معنيا ومكلفا بتبليغها عنه إلى قيام الساعة .
ولقد حدد الله تعالى كيفية تبليغها بقوله : (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) ، وسبيل الله تعالى هو دين الإسلام ، وقد جاء في كتب التفسيرأنه استعير للتعبير عنه السبيل، لأن هذا الأخير على وجه الحقيقة يوصل إلى الهدف ، كما يوصل دين الله تعالى إلى مرضاته وجنته . وأما الحكمة، فهي معرفة صائبة محكمة بالأمور والأشياء لا يشوبها شك أو خطأ ، وهي معرفة تلك الأمور والأشياء على حقائقها . وأما الموعظة ، فهي القول اللّين المؤثر في النفوس، والذي يحبّب إليها الحق والخير ، وهي أخص من الحكمة . وأما المجادلة ، فهي الاحتجاج لتصويب الآراء إذا ما انحرفت عن جادة الحق ، وإبطال باطلها ، ويشترط فيه أن يكون بالتي هي أحسن ، وهو ما تقتضيه المجادلة التي تكون بين رأيين متعارضين أو على طرفي نقيض، كل منهما قد يتعصب له صاحبه سواء كان محقا أو كان مخطئا ، وقد يغلظ القول كل منها للآخر تحت تأثير التعصب لرأيه ، فلهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ومن خلاله دعا كل المؤمنين إلى الدعوة إلى دينه الحق ، ومجادلة من لا يعتنقونه بحكمة، وموعظة تكون بالتي هي أحسن ،وهي ليونة في القول لترغيب الموعوظ في الإقبال على دين الله عز وجل .
وكما حدد الله عز وجل كيفية تبليغ رسالته للعالمين ، حدد كيفية التعامل مع الذين يصرّون على رفض دعوة الإسلام بعد مجادلتهم ووعظهم بالتي هي أحسن ، فقال جل شأنه : (( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من خالفكم إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) ، فقوله تعالى : (( عليكم أنفسكم )) ، يعني الزموا أنفسكم، واحرصوا على اهتدائها بالثبات على دين الله عز وجل حين يخالفكم في ذلك الناكبون عن صراطه المستقيم ، وقد قمتم بواجب دعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ، واستفرغتم في ذلك جهدكم ووسعكم ،ولم تقصرّوا ، فحينئذ لن يضرّكم ضلال الضالين المضلين شيئا ، ولن تحاسبوا على إصرارهم على ضلالهم ثم إنكم جميعا راجعون إلى ربكم سبحانه وتعالى يوم القيامة لينبأ المهتدي بهدايته والضّال بضلاله ، ويجازى كل واحد بما عمل .
وقد يساء فهم وتأويل قول الله تعالى : (( يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم )) ، فيظن أن هذا القول ينسخ قول الله تعالى : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ، وهو ظن قد ظنه البعض زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلافة الراشدة في عهد الصديق رضي الله عنه، فتم تصحيح ذلك بأن المقصود بقوله تعالى : (( عليكم أنفسكم )) ،لا يعني ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لا يستقيم أمر الناس إلا بالقيام بها ، وهي جوهر دعوة الإسلام . وتبيّن أن المقصود بقوله تعالى هو التزام سبيل الهداية إذا ما أصر أهل الضلال على ضلالهم بعد دعوتهم إلى سبيل الهداية دون أسف عليهم أو شعور بغم بسبب إعراضهم عن الاهتداء ، أو خوف من تقصير في وعظهم بعد استفراغ الجهد والوسع في دعوتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بالكيفية التي أمرهم بها الله تعالى لتبليغ رسالته للعالمين ، وهي دعوة لا تنفك عنهم كما أنها ملزمة لهم ، وتكون بحكمة، وموعظة حسنة ، ومجادلة بالتي هي أحسن ، فإذا أصر المدعوون إليها على رفضها ،يلزم الدعاة إليها أنفسهم بالثبات عليها ، وحينئذ لا يضرّهم الرافضون لها ولا ما يكيدون لهم من كيد ، ولا لوم عليهم وقد قاموا بواجب دعوتهم، ووعظهم ،ونصحهم دون أن يحزنوا على إصرارهم على ضلالهم .
وإننا لنجد كثيرا من المؤمنين يشق عليهم ضلال الضالين ، ويبخعون أنفسهم ألا يهتدي هؤلاء وهم يلحون في دعوته إلى الإسلام إن كانوا غير مسلمين أو يلحون في دعوته إلى الاستقامة إن كان مسلمين عصاة لا يلتزمون بشرع الله تعالى، خصوصا إن كانوا من أقربائهم أو معارفهم ، والواجب علي هؤلاء أن لا يتركوا الدعوة إلى دين الله عز وجل بالنسبة لغير المسلمين إلا إذا أصر هؤلاء على ضلالهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة للمسلمين العصاة لكن إذا ما وقع الإصرار منهم على المعاصي ، فعليهم حينئذ بأنفسهم كما أمرهم بذلك ربهم جل وعلا . وإن بدر من المصرّين على الكفر ومن المصرّين على المعاصي ما يدل على تراجعهم عن إصرارهم ، وجبت دعوتهم من جديد بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن من أجل إيصالهم الهداية بعد الضلال ، والاستقامة بعد العصيان .
وإن الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن لها أسلوبان متكاملان : دعوة باللسان ، ودعوة بالحال لأن هذه الأخيرة هي المحك الذي يصدق أو يكذب دعوة اللسان ، لهذا يلزم كل داعية بلسانه أن يقدم بين يديّ دعوته دليلا ملموسا بفعله وحاله ، وذلك من استيفاء شرط الدعوة إلى الله عز وجل .
فكم من داعية عالم أو علاّمة بليغ فصيح راسخ القدم في العلم والمعرفة لكن دعوته الناس تقتصر على اللسان ،ولا يترجم حاله شيئا مما يلوكه لسانه ، وليس ذلك من استيفاء شرط الدعوة ، وليس ذلك من الحكمة ، بل ربما كان هادما بحاله ما يشيده بلسان ، وقد يكون همه أن يقال عنه إنه عالم وداعية ، فيقال له ذلك في دنياه ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
ولا بد من التركيز على أنه رب دعوة بحال أبلغ من دعوة بمقال لا يترجمه إجرائيا حال . فكم من مقبل على الإسلام بعد كفر أو شرك أثر فيه حال فكان سببا في اعتناقه الإسلام . وإن الدعاة بالحال يشبهون الإدلاء الذي يهدون الناس في الطرق والمسالك دون أن يكلموهم ، وشتان بين من يسير أمامك لتحذو حذوه في سيرك ، ومن يدلك على الطريق بلسانه دون أن يسير أمامك .
ولا بد أخيرا من الإشارة إلى بعض المحسوبين على الإسلام من بني جلدتنا ممن يقفون مع ملة الكفر والشرك في خندق واحد لمحاربة الإسلام و النيل منه بشتى الطرق والوسائل ، والتضييق عليه وعلى أهله ، وهم لا يبالون بنصح الناصحين أو وعظ الواعظين ، فلهؤلاء نسأل الله تعالى التعجيل لهم بالتوبة والهداية ، فإن أصروا على ما هم عليه فهم كما قال الله تعالى لن يضروا المسلمين شيئا إذا ما تشبثوا بدينهم ، ونافحوا عنه بكل ما استطاعوا .
اللهم إنا نسألك الهداية والثبات عليها حتى نلقاك وأنت راض عنها كل الرضا ، ونسألك العون في أداء الدعوة إلى سبيلك بالحكمة، والموعظة الحسنة ،والمجادلة بالتي هي أحسن ، ونسألك القيام بواجب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونسألك صرف كل أذى أو ضرر يلحق بنا ممن ضلوا عن سبيلك وهم مصرون على ذلك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1006