أصحاب الأخدود... عبر ودروس 10-11
أصحاب الأخدود... عبر ودروس
طارق مصطفى حميدة
( الحلقة 10) اصبري ... فإنك على الحق
( فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق).
لقد جن جنون الملك وفقد السيطرة نهائياً، حيث يأمر بالأخاديد أن تخد وتضرم فيها النيران، ثم يؤتى بالمؤمنين إلى الأخاديد المضطرمة الملتهبة يساومون بل يهددون بالقتل حرقاً إن لم يرجعوا عن دينهم فمن لم يرجع يلقيه الجنود في النار أو يأمرونه بالاقتحام وهذه أشد على النفس من الأولى.
والملاحظة الأولى هي حالة الجنود الذين يرون كل هذه المشاهد والآيات ويظلون كأنهم مسلوبي الإرادة، أو أنهم لشدة ولائهم ومصالحهم مع النظام يفقدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم حتى لتراهم مستعدين دائماً للقيام بما لا ينبغي القيام به مهما بلغت درجة الجريمة وشدة القبح.
والأمر الثاني تكرر عبارة ( الرجوع عن الدين كشرط للبقاء على الحياة)، حيث لا تطيق الأنظمة الفرعونية من يتخذ إلها غير الحاكم الأعلى، وما يتضمنه ذلك من مشاعر انتقام عالية جداً لدى هذه الأنظمة، فهي من جهة لا تقبل ببقاء المؤمنين على قيد الحياة، وهي من جهة تختار لقتلهم أشد الطرق إيلاماً وبشاعة ولاإنسانية من مثل الشق بالمنشار والتحريق وتذبيح الأطفال، ومن جهة ثالثة لا يضيرها أن يكون هؤلاء الذين تقتلهم أفراداً أو شعوباً، آحاداً أو ألوفاً أو ملايين، ورابعاً التلذذ الذي يصاحب التقتيل والتحريق حيث يكونون شهوداً على تلك الجرائم فيستمتعون بمشاهد المؤمنين يتلظون بالنيران وبأصوات الصراخ والألم، ورائحة اللحوم المحترقة للآدميين.
وثالثة الملاحظات أن تخيير المؤمنين بين ترك الإيمان أو إلقاء أنفسهم في النار، هو عذاب فوق العذاب، والأهون على المؤمن أن يلقيه عدوه فيها حتى لا يكون كأنه هو الذي يقتل نفسه.
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم لختام القصة تلك المرأة وابنها، فكأنه يقول لنا إن هذا الإيمان الجماعي، ومن بعده تلك التضحية والبطولة الجماعيتان، لم تكن فعل جماعة من الرجال فقط، بل كان فعل مجتمع مؤمن برجاله ونسائه وأطفاله.
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الختام، بما يسمى في الفن والأدب النهاية المفتوحة، فإنه أولاً يؤكد للسامعين والقراء أن المعركة لم تنته بالتحريق في الأخاديد، وأن الذي وقع للمؤمنين هو انتصار مؤزر أدركه حتى ذلك الغلام، وأن النهاية ليست هي التي أرادها الملك بإنهاء الإيمان، إن المعركة الحقيقية ليست بقاء المؤمنين على الحياة أو موتهم، بل هي ثباتهم على الإيمان أو رجوعهم عنه، وحيث قد ثبتوا على إيمانهم وهو الحق، ولم ينصاعوا للملك بالرجوع عنه فإنهم هم المنتصرون وهو الذي حاقت به الهزيمة، وفي سورة البروج ما يوحي بأن هناك من تاب حتى من أعوان الملك وجنوده، وذلك في قوله تعالى: )إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق(، فالآية من جهة تخبر عن حدث ماض فيه جماعة فتنة المؤمنين،[1] ثم هي تتوعد الذين لم يتوبوا منهم، ما يشي بوجود قسم من التائبين، وهذا أمر متوقع، فأولاً إن مشهد البطولة الجماعي يحرك القلوب والمشاعر ويوقظ العقول، ثم إن الضغوط لا تبقى بالشدة نفسها ولا بالثقل ذاته على هؤلاء الأشخاص فإذا بهم يتحينون الفرصة كي يتخلصوا من عذابات الضمير، ويكفروا عن جريمتهم.
وفي رواية الإمام أحمد (فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه)، وهو ما لم يرد في رواية الصحيح، ويخالف حديثاً آخر للرسول عليه السلام أنه لم يتكلم في المهد غير ثلاثة، ليس منهم صبي قصة الأخدود، فإننا نرى القول بأن الغلام كان مميزاً، ولعل ما أورده الإمام أحمد كان إدراجاً من أحد الرواة، ولا داعي للظن بأن مثل هذا القول من الصغار لا يكون إلا بمعجزة خارقة، فإن الأحداث الجسام التي تمر بالأمم والتحديات العظام التي تواجهها تنضج الصغار وتنطقهم وتجعلهم أحكم من الحكماء وأفصح من كبار القادة العظماء، ويكون لهم مواقف وسلوكيات يعجز عنها الكبار والأبطال، واللافت أن الرسول عليه السلام قد استخدم في وصف الصغير لفظ ( صبي) ثم لفظ (غلام)، والغلام أكبر وهو الذي قارب البلوغ، والصبي أصغر منه، وكأن الرسول عليه السلام بعدما أشار إلى صغر عمره أراد أن يلفت إلى أن كلامه كلام الكبار، وقد رأى الناس في فلسطين، على سبيل المثال، للصغار خلال انتفاضة 1987، وانتفاضة الأقصى وغيرهما الكثير من الأمثلة، المؤكدة لما نقول.
" إن الناس إذا تجردوا لله وعرفوا الحق وأرادوا أن يثبتوا عليه فإن الله يثبتهم بأشياء من عنده ليست من عندهم، يمدهم الله بطاقات جديدة، هذه المرأة ما كانت تتوقع أن ينطق الغلام بهذه العبارة المثبتة ( يا أمه! اصبري فإنك على الحق )"[2]، ولنا أن نتخيل العديد من الخواطر والإيحاءات والمشاهد والرؤى والمواقف التي أدت إلى تثبيت تلك الجموع المؤمنة في تلك الظروف العصيبة.
لقد بدأت القصة بملك يريد أن يستمر حكمه الفرعوني القائم على القهر والزيف والخداع، وانتهت بغلام يقول لأمه: اصبري، وكأن الملك هو الماضي الآفل، والدين وأهله هم المستقبل القادم.
************************
( الحلقة 11) الشهداء بروج هادية
تتحدث سورة البروج عن ظروف صعبة عاشها دعاة التوحيد، في مكة زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصحابه رضي الله عنهم، ومن قبلهم المؤمنون السابقون أصحاب قصة الأخدود.
إنها حالة ظلمة حالكة في ليل بهيم، لا يكاد الواحد يرى موضع قدمه، حيث يشتد الأذى بالمسلمين حتى نشروا بالمناشير، وحرّقوا في الأخاديد.
وحيث يعم الظلم والظلام، ويلف النفوسَ المؤمنة والمستضعفة مشاعرالحزن والكآبة، حزناً على الذين دفنوا تحت التراب من حملة مشاعل الإيمان، وخوفاً على النفس، وقلقاً على مصير دين الله، مما يلاقيه أتباعه على أيدي أعدائه، فإن السورة تدعو المؤمنين كي ترتفع أبصارهم وقلوبهم إلى السماء ذات البروج ولا تظل منكسة باتجاه الأخاديد والقبور، فإن الشهداء عناك في عليين وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم نجوم هادية وليسوا مجرد قتلة تحت التراب، ولا رماداً في الأخاديد.
عند ذلك كله يقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج، مطمئناً المؤمنين أن دين الله في سماء عالية ذات بروج حصينة، وأن الكفرة من أعداء الدين، ليسوا أكثر من أقزام ينفخون على الشمس ليطفئوها، أو يصعدون "السلالم" لينزلوها. ولهذا يأتي ختام السورة مطمئناً المؤمنين أن هذا القرآن في مأمن، من أن تصل إليه أي يد بإحراق أو إلغاء أو إنقاص، فإنه (قرآن مجيد في لوح محفوظ).
وتبرز هذه السورة عظمة الجريمة بتحريق المؤمنين، وتكشف عن سببها "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" . فالكفار لغبائهم يتحرشون بالذين آمنوا بالله (العزيز) الذي تأبى عزته أن يترك عباده لأعدائه، وإن كان يمهلهم أن يتوبوا حتى بعد أن فتنوا المؤمنين والمؤمنات... فيبشر المؤمنين بجنته، وينذر الكفار ناره وبطشته.
ولعل في لفت الأنظار إلى السماء ذات البروج في جو الظلام البهيم، ما يرقى بأبصار المؤمنين إلى السماء لترى البروج الجميلة، فتزول عنها مشاعر الكآبة والحزن والانكسار، كيف لا وقد قال رب العزة "ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين" إن هذه البروج زينة وبهجة للنفوس، وسعادة للقلوب وشرح للصدور، ولكن شريطة أن تجد لها جماعة من الناظرين. فتنشط نفوسهم من جديد لعمل الخير والقيام بأمر الدين.
ويبدو أن هنالك تشبيهاً للشهداء بالبروج، وكأن الآيات تقول للمؤمنين لا تظنوا أن هؤلاء قد غيبهم الثرى وطوتهم القبور، بل هم نجوم وبروج مضيئة ومُثُل عُليا، تستدعي منكـم أن تشخصوا بأبصاركم إلى عليائهم، وتتابعوا مسيرهم. وهو ما رأيناه في قصة أصحاب الأخدود الواردة في الحديث حيث كان استشهاد حملة الدين دافعاً إلى الإيمان الجماعي.
[1] كما أن الآية فيها ترغيب وترهيب لقريش، ولكل من يفتنون المؤمنين والمؤمنات.
[2] أصحاب الأخدود، محمد صالح المنجد.