( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم )
من المعلوم أن الله عز وجل تحدث كثيرا عن القرآن الكريم وهو رسالته الخاتمة التي خص بها العالمين إلى يوم الدين، وقد ضمّنه توجيهاته لهم كي يحيوا حياة كريمة طيبة في عاجلهم وآجلهم ، وجعله دستورهم المفصّل الذي لا يحتاج إلى تعديل أو بديل مصداقا لقوله عز من قائل : (( كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون)) . والمتتبع لهذا الكتاب المفصلة آياته كلما أقبل عليه ازداد رغبة في تلاوته ، وتدبره ، وزاده الله تعالى فهما واستيعابا له ، وازدادا تمسكا به رغبة فيما أودع فيه سبحانه وتعالى من هدي، ومن استقامة على صراطه المستقيم .
وكيف لا يتمسك به الإنسان ، وقد أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بذلك فقال يخاطبه ، ومن خلاله يخاطب الناس أجمعين خصوصا عباده المؤمنين : (( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم )) ، والمتأمل في هذه الآية الكريمة يستوقفه الأمر الإلهي بالاستمساك بالقرآن الكريم الذي هو وحي منزل من عند رب العزة جل جلاله على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . والاستمساك هو شدة المسك ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، ويكون ذلك بصفة دائمة ، وهو أمر من الله تعالى بالثبات على هدي القرآن الكريم ، والغاية من هذا الأمر هو الثبات على صراطه المستقيم ،وهو ثبات لا يتأتى إلا بهذا الاستمساك .
ولقد جاء هذا الأمر الإلهي في سياق الحديث عن وعيد توعد به الله عز وجل من كانوا يصدّون عن صراطه المستقيم وقد قال عنهم : (( ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيّض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدّون عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبيس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين فإما نذهبنّ بك فإنا منهم منتقمون أو نريّنك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون )) ، فبعد هذا الحديث عن قرناء الشيطان الذين كان شغلهم الشاغل هو الصد عن القرآن الكريم ، وقد شبّههم سبحانه وتعالى بالصم ،والعمي، والضالين ، جاء أمره لنبيه الكريم بالاستمساك بما أوحى إليه به ، وهو ما جعله على صراط مستقيم . وفي قوله تعالى هذا ما يدل على أن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على هداية هؤلاء الضالين ، وكان يجد منهم عنادا، وإصرارا على الضلال المبين ، وقد هوّن عليه ربه ما كان يعانيه من مشقة دعوتهم إلى صراطه المستقيم خصوصا وأنهم كانوا يتربصون به الموت ليتخلصوا منه، ومن حرصه على هدايتهم ، فأخبره ربه أنه سينتقم منهم في حياته أو بعد موته .
وأمر الله تعالى نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام بالاستمساك بالوحي لا يقتصر عليه وحده بل هو أمر لكل من آمن به إلى قيام الساعة إذ على المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان أن يستمسكوا بالقرآن الكريم لأنهم باستمساكهم به فقط يكونون على صراط ربهم المستقيم ، ودون هذا الاستمساك يكونون عرضة لتنكبه، ويصيرون قرناء الشيطان المقيض لهم لصدهم عن سبيل الرشد ، وهو يزين لهم ضلالهم ،ويوهمهم أنهم مهتدون .
وإن الناس في كل زمان وفي كل مكان بعد بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إما أن يكونوا على صراط مستقيم مستمسكين بالقرآن الكريم أو في ضلال مبين قرناء الشيطان الرجيم يصدون عنه صدودا
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بأمر الله تعالى الاستمساك بكتابه الكريم خصوصا وأننا نمر بظرف في غاية الدقة حيث يستهدف كلام الله عز وجل من جهات عدة ،وقد علت أصوات بدعوات باطلة تروم صد المؤمنين عن هدي القرآن الكريم وتصفه بما لا يليق بقدسيته من افتراءات انتصارا لدعوات باطلة وضلال مبين وقد صدق عليهم إبليس ظنه كما أخبر به رب العالمين في القرآن الكريم ، وذلك في قوله تعالى على لسان اللعين : (( فبعزتك لأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )) . ولقد وقع الكثير من المحسوبين على دين الإسلام في أحابيل الشيطان الرجيم و أحابيل قرنائه ممن يظنون أنهم مهتدون ، وهم ضالون ومضلون يدعون إلى الصد عن صراط الله المستقيم ، ويريدون عن كتابه الكريم وعن هديه القويم بدائل من وساوس إبليس اللعين ليفسد عليهم دنياهم وأخراهم ، وهم بذلك يرومون استبدال شرع الله تعالى بشرائع أهوائهم حتى بلغ الأمر ببعضهم حد الدعوة إلى دين جديد سموه ديانة إبراهيمية ، وجعلوا لها بيتا ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد نسبوه افتراء وكذبا إلى نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام الذي قال عنه ربه في محكم التنزيل : (( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين )) ، كما قال عنه أيضا : (( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين )) ، هكذا برّأ الله تعالى نبيه الكريم مما يفتريه عليه المفترون من قرناء الشيطان الرجيم ، وجعل نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أولى به ، وهو الذي أمره بالاستمساك بما أوحي إليه لأنه الوسيلة الوحيدة إلى الاستقامة على الصراط المستقيم ، ومن يبتغي غيره سبيلا، فساء سبيله ،وهو في ضلال مبين .
ويجدر بالمؤمنين ونحن على موعد قريب من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أن نلتزم بأمر الله تعالى ، وأن نستمسك بكتابه الكريم ، ونلتمس فيه خلال هذا الشهر العظيم معالم صراط ربنا المستقيم ، فنقرؤه ، ونتدبره ، ونتخلق به ، فلا يمر بنا رمضان إلا ونحن على هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام .
اللهم إنا نسألك عونك كي نستمسك بما أوحيت إلى رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام ، اللهم بلغنا شهر القرآن ، وحبب إلينا القرآن ، وخلقنا بخلق القرآن ، وثبتنا على هدي القرآن حتى نلقاك ونحن على صراطك المستقيم ، وأنت عنا راض .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1024