( إنا أنزلناه في ليلة مباركة )
من المعلوم أن الله عز وجل قد كشف للخلق في آخر رسالة سماوية خاتمة إليهم عن ظرف إنزالها الزمني في ثلاثة مواضع فيها وهي قوله تعالى : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ))، وقوله : (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )) ، وقوله أيضا : (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة )) . والملاحظ في هذه الآيات الكريمة أنه بيّن للخلق الوقت الذي أنزلت فيه رسالته الخاتمة إليهم ،فحدده في شهر معين وهو شهر رمضان ، وفي ليلة معينة منه .
ومعلوم أن أوقات إنزال الله تعالى الرسالات على رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين هي أعظم الأوقات على الإطلاق، لأن الله تعالى رحمة بالخلق كان يتوجه إليهم بكلامه المقدس حين تدعو ضرورتهم إلى ذلك حيث تكون منهم انحرافات عن صراطه المستقيم ، ويقعون في شراك الكفر، والشرك، والعصيان واقتراف مختلف الموبقات التي تجعل حياتهم شقاء ومعاناة وقد خلقهم سبحانه وتعالى لإسعادهم في الدارين لا ليشقيهم فيهما .
ولمّا كان القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة ذات الفضل على سائر الرسالات السابقة ، وقد خص بها الله تعالى العالمين على اختلاف أجناسهم، وألوانهم وألسنتهم، وأقطارهم، وأزمنتهم قبل حلول يوم القيامة ، فإن وقت نزوله أمر جلل عظيم لا يضاهيه غيره عظمة وجلالا، لهذا حدد الله تعالى زمن هذا الحدث العظيم في تاريخ البشرية ، و في ذلك تنبيه لهم إلى ما تتضمنه هذه الرسالة الخاتمة من رحمة ربهم بهم وقد أوشكت دنياهم على الزوال إذ ليس بعد ختم الرسالات إلا زوالها الذي ليس بعده عظائم أمور في دنياهم كتلك التي ستكون في حياة أخرى خالدة لا زوال لها .
ولمّا كانت للرسالة الخاتمة قدسيتها عند الله عز وجل فقد باركها ، وبارك الظرف الذي أنزلها فيه .ومن بركة هذا الظرف وهو ليلة من ليالي شهر الصيام أنها تفضل قدر شهور مصداقا لقوله تعالى : (( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر )) ، ولقد تكرر ذكر هذه الليلة ثلاث مرات في هذه السورة الكريمة تعظيما لشأنها ، وهو تعظيم يتجلى في كونها خيرا من ألف شهر ، وفي تنزّل الملائكة والروح فيها ، وفيما خصها الله تعالى به من سلام يدوم فيها إلى غاية طلوع الفجر، فضلا عن كونها ليلة من ليالي شهر عبادة الصيام التي يتجلى فيها الإخلاص لله تعالى ، و هي عبادة لا يمكن أن يلابسها رياء، لأنه لا يعلم صدقها إلا الله تعالى ، وقد خفي عن غيره خلاف ما يكون من أمر العبادات الأخرى التي لا تخفى على الخلق ، وإن كانت هي الأخرى يخفى إخلاصها عليهم والذي يستأثر بعلمه دونهم خالقهم سبحانه وتعالى ، ولئن كان منهم شهود على صلواتهم، وحجهم، وزكاتهم ، وعلمهم بها ظاهرها فقط ، فإنه لا شاهد منهم على صومهم الذي لا ظاهر له .
ولقد ذكر الله تعالى تبريك ليلة نزول القرآن الكريم بقوله : (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة )) ، وواضح من أن السر في هذا التبريك، هو حدث نزول القرآن العظيم، ذلك أن تلك الليلة كانت كسائر الليالي حتى حدث فيها هذا الحدث العظيم.
وذكر بركة هذه الليلة يستوقفنا ونحن نقرأ هذه الآية الكريم الواردة في فاتحة سورة الدخان، ومطلعها قوله تعالى : (( حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة )) ، والملاحظ أن الله تعالى قد قدم وصف كتابه الكريم بالبيان على وصف الليلة التي أنزل فيها بالتبريك ، وهو وصف اكتسته الليلة من وصف الكتاب المبين ، وهذا ما يدعو إلى ضرورة انصراف الأذهان أولا إلى حدث الليلة، وليس إليها في حد ذاتها كظرف ، وهو حدث مؤثر في باقي أحداث هذه الليلة كما أخبر بها الله عز وجل بقوله : (( إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم )) . و معلوم أن الإشارة بعد تبريك ليلة القدر إلى الإنذار والإرسال، فيها إخبار بالطبيعة الإنذارية للرسالة المنزّلة وهو إنذار الذي يكون بسبب خطورة مهددة ومتربصة بالمنذرين . ومن اعتاده الناس في حياتهم أنهم أحيانا يتوصلون برسائل تتداول فيما بينهم ، فتكون في بعضها إنذارات متعلقة بأمور دنياهم ،فيحدث ذلك لديهم حين يتلقونها فزعا، وقلقا، وخوفا... وذكر الله تعالى في فاتحة سورة الدخان الطبيعة الإنذارية لرسالته الخاتمة إلى العالمين من شأنها أن تثير القلق، والخوف، والانزعاج في نفوسهم مما لا تثيره إنذارات الخلق ، وذلك باعتبار قدرة، وقوة ،وعظمة المنذر جل في علاه.
وعند التأمل في طبيعة هذا الإنذار الإلهي في الرسالة الخاتمة، نجد أنه يتعلق بتحذير من خطر عظيم لا يوجد أعظم منه يتهدد البشرية ، ويكون بسبب انحرافها عن صراط الله المستقيم الذي يتسبب في شر مصير مؤبد وبيل قد فصل في وصفه الله تعالى تفصيلا في ثنايا رسالته من أجل استيفاء إنذاره هدفه وغايته إذ لو اقتصر الأمر على ذكر الإنذار دون تفصيل له ، لما أحدث ذلك أثرا في النفوس خصوصا النفوس المكابرة .
ومباشرة بعد ذكر الطبيعة الإنذارية للرسالة الخاتمة، وهي رسالة بيان ووضوح ،ذكر سبحانه وتعالى ما يرافق ظرف نزولها في تلك الليلة المباركة من أمور استأثر بعلمها ، وهي ذات علاقة بشؤون الخلق المغيبة عنهم لحكمة علمها عنده جل في علاه . وما تنزل الملائكة والروح في تلك الليلة إلا بسبب تلك الأمور المغيبة عن الخلق . ولقد ذكر سبحانه وتعالى أن تلك الأمور تفرق في تلك الليلة المباركة إشارة إلى فصله وقضائه في خلقه ، ولذلك سميت رسالته الخاتمة فرقانا.
مناسبة حديث هذه الجمعة أننا مقبلون بحول الله تعالى وقوته، ولا حول ولا قوة إلا به جل في علاه على الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن ، وقد أمرنا بقيامها حتى مطلع الفجر قياما نصاحب فيه رسالته الخاتمة إلينا مستعرضين ما تضمنته من أخبار، ومن بشارات، ومن إنذارات ، ونكون ونحن نستعرضها بمثابة من يدينون أنفسهم بين يدي خالقهم يعرضون أعمالهم عليها، ويقيسون المسافات التي تفصلهم عن هديها ،وتوقعهم في الضلال ، وهم يلتمسون الصفح، والعفو ،والمغفرة من خالقهم على كل تقصير صادر عنهم، وقد مكنهم برحمته من فرصة طلب الصفح والعفو والمغفرة حين بلغهم شهر رمضان ، و بلغهم الليلة المباركة التي تفرق فيها أمور منها ما له صلة بحياتهم . وعلينا أن نتعامل مع هذه الرسالة الخاتمة في تلك الليلة خلال استعراضها وقد انصرفنا إليها طيلة ليالي الشهر الفضيل وكأننا نطلع عليها لأول مرة . ولا شك أن الذي يجب أن يشغلنا أكثر فيها هو الإنذار قبل البشارة، لأن الله تعالى قدمه في حديثه عن إنزاله الرسالة الخاتمة إلينا في الليلة المباركة، وإن كان من مقتضيات ذكر الإنذار فيها أن تصاحبه البشارة برحمة الله عز وجل وقد أشار إلى ذلك في سياق الحديث عن الليلة المباركة في قوله تعالى : (( رحمة من ربك إنه هو السميع العليم )) ، ومن تلك الرحمة إنذاره سبحانه وتعالى ، ولو غاب إنذاره لكان ذلك حجبا لرحمته عنا وحاشاه أن يحجبها عنا وهو الرؤوف الرحيم . والناس في حياتهم قد يحمدون بعضهم حين ينذر بعضهم بعضا من خطر يتهددهم ، فما بالهم إذا أنذرهم خالقهم وهو أرأف وأرحم بهم من أنفسهم .
ولا بد من التذكير بغفلة كثير من الناس عن الإنذار الإلهي في ليلة القدر حيث يستزلّهم عدوهم المبين الشيطان الرجيم ، وقد مر بهم طيلة ليالي رمضان التحذير المتكرر من مكره بهم ،و من تربصه بهم للإيقاع بهم فيما أنذروا منه ، فيعمد بعضهم إلى الوقوع في الكبائر التي منها كبيرة تعاطي السحرة والشعوذة بسبب قناعات وعادات فاسدة ، و باطلة، ومنحرفة ، وهم يتوخون من إتيان تلك الكبيرة الإضرار ببعضهم البعض عن عمد ، وسبق إصرار في الوقت الذي كان يجدر بهم أن يقفوا بين يدي خالقهم تائبين إليه مما اقترفوه ، منكسرة نفوسهم ، وقد بلغهم سبحانه وتعالى رحمة بهم فرصة ثمينة للتوبة والإنابة . ويا خسارة من ضيع هذه الفرصة فأغواه عدوه إبليس اللعين بارتكاب أشنع المنكرات في ليلة العفو، والعتق مما أنذر منه الله تعالى ،وبئس المصير .
اللهم يا غافر الذنب، وقابل التوب ، وواسع الرحمة والمغفرة ، نسألك بكل اسم منزه لك ، وأنت العفوّمحب العفو أن تعفو عنا في ليلتك المباركة ، وأن تتجاوز عنا ذنوبنا التي نقر لك بها ، ونبوء لك بها ، والتي لا يغفرها سواك ، ولا يرجى لذلك غيرك ، ونسألك اللهم الرحمة، والمغفرة لكل من شهد لك بالألوهية والربويية، وشهد لرسولك عليه الصلاة والسلام بالرسالة ، واجعل اللهم هذه الشهادة شفيعة لنا عندك يوم لقائك، ويوم نبعث بين يديك ، وليس لدينا من صالح العمل إلا القليل مع كثرة الذنوب وعظمها إلا صدق هذه الشهادة وأنت أعلم بها .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1028