( وكذاك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا )
حدبث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل قد ذكر في رسالته الخاتمة للعالمين إلى يوم الدين أوصافا لها في أكثر من سورة لحمل البشرية على الاستئناس بها ، وترغيبها في الإقبال عليها ، وذلك من أجل جني ثمار هذا الإقبال الذي هو تحصيل سعادة الدارين، لأنه سبحانه وتعالى ضمّنها كل ما به تحصل تلك السعادة .
وقد يأتي الحديث عن هذه الرسالة في سياقات مختلفة تتعلق بالحديث عن أصناف البشر باعتبار أحوالهم من استقامة على صراط الله المستقيم أو من تنكبه ، وتكون أوصافها متوقفة على تلك الأحوال .
ومن بين تلك الأوصاف في سياق الحديث عن الفئة الناكبة عن الصراط المستقيم قوله تعالى : (( وكذلك أنزلناه فرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا )) ، ففي هذا النص القرآني تذكير بإنزال الرسالة العالمية الخاتمة للعالمين إلى يوم الدين ، وقد اختار لها المنزل سبحانه وتعالى اللسان العربي لأنه الأقدر على تبليغها البلاغ الشافي والكافي نظرا لفصاحة تأليفه، وسلاسة تعبيره ، وتناسب حروفه وآياتها ، وعجيب نظمه ... و هنا تستوقفنا عربية هذه الرسالة، لأن فهمها ،وتذوقها، واستيعاب مضامينها إنما تتأتى باللسان الذي أنزلت به أكثر مما تتأتى بغيره من الألسن ، وهو ما يثبته ويؤكده واقع الحال إذ يجد عنتا في إدراك مضامينها من يطلب ذلك بغير اللسان العربي ، ولن تدرك أبدا ألسن أخرى شأو التعبيرعنها بهذا اللسان مهما حاول ذلك من يرومون ترجمتها من اللسان العربي إلى غيره من الألسن، وفضلا عن هذا فقد جعل الله تعالى عربية هذه الرسالة حجة على من نزلت فيهم وهم يتحدثون بها ، ويتفننون في التعبير بها عما تجيش به نفوسهم ، وقد كان أصح علم عندهم أشعارهم كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وإذا ما التمست لغير العرب أعذارا لتبرير عدم بلوغهم الشأو في استيعاب رسالة الله عز وجل الاستيعاب الجيد ، فلا عذر للعرب في تقصيرهم عن بلوغ ذلك ، وهنا لا بد من التذكير بأن العرب تقع عليهم مسؤولية تبليغ هذه الرسالة لأنها أنزلت بلسانهم المبين ، وأول ما يقع به التبليغ هو تعليم البشرية هذا اللسان من أجل تأهيلها لفهم واستيعاب مضامينها المفضية في نهاية المطاف إلى سعادة الدارين .
ولا عذر لمن أطلق الله تعالى لسانه بالعربية إن لم يبلغ رسالته لغير الناطقين بها شريطة أن يكون مجيدا لها ،خبيرا بقواعدها وضوابطها وأساليبها، لأنها أفضل وسيلة لتلقي رسالة الخالق سبحانه الخاتمة التلقي المطلوب .
وبعد تنويه الله عز وجل بمقروئية رسالته ، وعروبة اللسان المعبر عن مضامينها ، يذكر الغاية منها بقوله جل وعلا : (( وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا )) ، ومعلوم أن التصريف في اللسان العربي هو التنويع إذ ترد أنواع الوعيد في هذه الرسالة الخاتمة ، وهو تحذير وإنذار بصيغ متنوعة من أجل أن ينفذ إلى كل القلوب على اختلافها قسوة أو لينا . وعلى قدر نوع الوعيد يكون تفاعل القلوب ، فتحصل التقوى التي هي في نهاية المطاف طاعة الخالق سبحانه وتعالى ، وهي كل ما يرجى من الوعيد . وفضلا عن ذلك يُحدث الوعيد في القلوب ذكرا أو تذّكرا ،لأنه لا يعتمد التأثير العاطفي فقط بل يعتمد التأثير العقلي أيضا، وهو عبارة عن إقناع ترتاح له العقول ، وتطمئن به القلوب .
ويلزم كل قارىء للقرآن باللسان الذي أنزله به الله تعالى أن تستوقفه كل صيغ الوعيد فيه ليقيس مقدار ما يحصل له من تقوى أو طاعة ، ومقدار ما يحصل له من تذكّر . ومن مرت به آيات الوعيد ، ولم يحصّل منها ما يجب من تقوى أو طاعة ، ولم يحصل له بها تذّكر فقد ضاعت منه فرصة لا يمكن أن تعوض، لأن المتوعد هو الله تعالى الأعلم بما يضر الإنسان أو يتهدده في عاجله وآجله ، وبما يفسد عليه سعادته فيهما . وإن الإنسان ليتلقى باهتمام كبير وعيد غيره من البشر كما هو الحال على سبيل المثال في تحذير الطبيب مما يضر بصحته وعافيته، فكيف به إذا كان المحذّر والمتوعّد هو خالقه سبحانه وتعالى ، وكان التحذير من خسارة سعادة الدارين وأعظم بحسارة الآخرة من خسارة .
وإنه ليجدر بكل تال للقرآن الكريم المتضمن لأنواع الوعيد أن يستوعبها الاستيعاب الجيد ، وتكون مما يرسخ في ذهنه وفي وجدانه على الدوام ، وفي كل أحواله ، وهي إما وعيد متعلق بالدنيا ،أو وعيد متعلق بالآخرة وهو الأدهى . ولا شك أن الذي يتعظ بوعيد الدنيا يكون أشد اتعاظا بوعيد الآخرة .
ومن وعيد الدنيا الوارد في كتاب الله عز وجل، نذكر بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر منها التهديد بزوال السماوات والأرض في قوله تعالى : (( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا )) ، ومنها سرمدية الليل والنهار في قوله تعالى : (( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون )) ، ومنها إمساك الرزق في قوله تعالى : (( أمن يرزقكم إن أمسك رزقه )) ، ومنها قوله تعالى : (( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين )) .
وإلى جانب التحذير من زوال السماوات والأرض، وهو أعظم تحذير على الإطلاق، لأن بحصوله يكون زوال الحياة الدنيا ، والتحذير من سرمدية الليل والنهار، لأن بهما تستقيم حياة الإنسان سعيا بنهار وسكونا بليل ، ومن إمساك الرزق، لأن بزواله يكون هلاك الإنسان، ومن غور الماء لأن بغوره يكون هلاكه أيضا ، توجد أنواع أخرى من التحذيرات لا تقل خطورتها أيضا على الإنسان في دنياه والتي بها يُكبح انحرافه عن صراط ربه المستقيم ،كما تجعله متذكرا خطورة زوال إنعام خالقه عليه. ومن حذر تحذيرات الدنيا كان أكثر وأشد حذرا من تحذيرات الآخرة وهي الأدهى.
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تذكير المؤمنين بوعيد الله تعالى، وبتحذيره الذي يرجى منه تقواهم ،وطاعتهم ، وتذكرهم خصوصا ونحن نمر بفترة غلاء وهو محسوب على إمساك الزرق ،و فترة جفاف أيضا وهو محسوب على غور الماء. وكان من المفروض أن يكون حذرنا من عواقب هذا الغلاء، وهذا الجفاف وسيلتنا إلى تقوى الله عز وجل وطاعته فيما أمر ونهى خلافا لما نحن عليه من انحراف عن صراطه المستقيم ، وقد ذهب سفهاؤنا بعيدا في التجاسر على خالقهم بالمعاصي والدعوة إلى إتيانها جهارا نهارا .
اللهم إنا نبرأ إليك ممن تجاسروا على معصيتك ، فلا تهلكنا بما يفعلون أو يقولون ، ولا تؤاخذنا بذنوبنا ما علمنا منها وما تعمدنا ، وما جهلنا منها وما غفلنا عنها . اللهم إنا نلجأ إليك بكلمة التوحيد أن ترفع مقتك وغضبك عنا ، وأن تنزل علينا من بركات السماء ، وتخرج لنا من بركات الأرض ، اللهم إن نعوذ بك من الغلاء ، ونسألك الرخاء . اللهم إنا نسألك توفيقنا لإرضائك بما ترضى من قول وعمل ، ونعوذ بك من إغضابك بقول وعمل، وأنت الغني عنا ،فارحمنا يا مولانا فإنه لا مولى لنا سواك ، ولا راحم لما إلا أنت .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1032