( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا )
من المعلوم أن الله عز وجل قد ضمّن رسالته الخاتمة الموجهة إلى العالمين ،والمنزلة على خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كل ما يتصل بالحياة البشرية في مختلف أحوالها من سلم وأمن ، وحرب ، وبأساء، وضراء... ولقد جاء التوجيهات والأحكام الإلهية فيها عامة لجميع البشر، وهي تغطي كل العصور والأمصار إلى قيام الساعة ، وإن ارتبطت بأسباب معلومة ساعة أوحي بها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن تلك الأسباب كانت بمثابة نماذج تتكرر في حياة كل البشر ، لهذا يقال عن هذه الرسالة إن العبرة بعموم ألفاظها ،لا بخصوص أسباب نزولها .
ومن الأحداث التي ضمّنها الله عز وجل رسالته الخاتمة ،ما يتعلق بالصراع بين أهل الحق وبين أهل الباطل ، علما بأن الحق ارتبط بعبادة وبتوحيد الله جل في علاه ، بينما الباطل ارتبط بعبادة غيره شركا به تعالى الله عما يصفون .
ولقد كان هذا الصراع يأخذ أشكالا مختلفة في فترة نزول الوحي ، فضلا عما قصته الرسالة الخاتمة من أشكاله عند أمم سابقة ، بما في ذلك المواجهة المسلحة . ومن تلك الأحداث يوم الأحزاب ، وهو يوم اجتمع فيه أهل الشرك والباطل ومعهم اليهود لمواجهة أهل الإيمان والحق ، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حاصروا المدينة المنورة بغرض اقتحامها ، فكان في أعلاها اليهود من بني قريظة الذين نقضوا عهد كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعهم مشركون ، وفي أسفلها قريش وأحلافها من قبائل أخرى قد حرضها اليهود من أجل استئصال دعوة الإسلام كي يعود الوضع إلى ما كان عليه قبلها ، وهو وضع كان يخدم مصالح أولئك اليهود من بني النظير، وبني قريظة ، وبني قينقاع، وخيبر حيث كانت كل أنواع التجارة بأيديهم ، وكانوا بذلك يتحكمون في مصائر القبائل العربية الغافلة عن مكرهم الخبيث ، وكانوا يوقدون نيران الحروب بينها كما كان الحال بين الأوس والخزرج ، وغيرهما من القبائل التي كان يفني بعضها بعضا .
ولقد وصف الله تعالى ما كان يوم الأحزاب في قوله عز من قائل : (( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديد )) ، ففي هذا النص القرآني وصف للوضع في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم المحاصرة من طرف الأحزاب المتواطئة لاستئصاله واستئصال دعوته . ومما جاء في وصف حال المؤمنين عندما استحكم حولهم الحصار أن أبصارهم زاغت ، وزيغها كان مرده الرعب والهلع من قرب هلاك محقق بحيث لا يقع من عيونهم تركيز لانشغالها بحدث الحصار المنذر بهجوم وشيك ، وصاحب ذلك بلوغ قلوبهم الحناجر ، وهو تعبير عن شدة الهلع حتى أن القلوب المستقرة في الصدور توشك أن تخرج عبر الحناجر ، وهذه الصورة لا مثيل لها في وصف حالة الرعب الشديد الذي يصيب الإنسان . ومع هذا الرعب راجت الظنون السيئة منها الإشفاق من وقوع الهزيمة بسبب قوة عدد وعدة الأحزاب ، وما يترتب عليها من قتل ،وأسر ، وسبي ... إلى غير ذلك من الظنون . ويذكر الله تعالى أن ذلك الرعب الذي مر بها المؤمنون إنما كان ابلاء واختبارا لهم ، وتمحيصا لإيمانهم على ما كان من شدة في ذلك الابتلاء والتمحيص الذي وصفه سبحانه وتعالى بالزلزال الشديد تشبيها له بما يحدث للأرض من تغيير لسطحها إلى من شدة وقوة ازلزالها ، وهذا وصف غير مسبوق أيضا في وصف شدة ما يتعرض له الإنسان حين ينتابه الرعب الشديد . وكما تختبر صلابة الأرض وثباتها من تسليط الزلزال عليها ، فكذلك اختبر ثبات إيمان ويقين المؤمنين بنصر الله عز وجل الذي وعد به رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولقد ذكر الله تعالى من تلك الظنون التي ظنت يومئذ ما كان يعبر عنه المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، وفصّل سبحانه وتعالى ذلك بقوله :
(( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا )) ، ففي هذا النص وصف لأحوال المنافقين ، فمنهم من شكك في وعد الله تعالى رسوله بالنصر ، واعتبر دعوته للنفير تغريرا بهم ، ومنهم من دعا إلى الفرار والنكوص ، و الرجوع إلى البيوت ، ومنهم من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم للفرار بذريعة الخوف على ضياع بيوتهم . ولقد فضح الله تعالى أمرهم، وهو استعدادهم للردة ،وهي الفتنة في الدين في حال دخول الأحزاب عليهم المدينة ، كما ذكر ما كان منهم من نقض لعهد قد عاهدوا عليه الله عز وجل ورسوله بأن يثبوا عند النزال دون إدبار أو فرارا من أمام عدوهم ، ثم أخبرهم سبحانه وتعالى أنه لا مفر مما قضى موتا أو قتلا ، وسوءا أو رحمة ، وأنه لا ولي ولا نصير إلا هو جل في علاه . ومضى سياق الحديث عنهم ، وعما كان منهم من خذلان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخذلان المؤمنين .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بأن الصراع بين الإيمان والكفر ، وهو صراع بين الحق والباطل، هو سنة الله عز وجل الماضية في الخلق لتمحيص المؤمنين من الكافرين، وأن ما وقع يوم الأحزاب سيتكرر لا محالة بين أهل الإيمان وبينهم منافقون وبين أهل الكفر إلى قيام الساعة . وها نحن نعاين اليوم حصارا بغزة كحصار مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوقها ومن تحتها ، وها هو وضع المؤمنين فيها كوضع من كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصارهم زاغت ، وقلوبهم بلغت الحناجر ،وهم يواجهون الآلة الحربية الأمريكية والأوروبية المدمرة التي زود بها الصهاينة ، وقد شاعت من حول المرابطين في غزة ظنون المتخلفين عن نصرتهم ، والمترددين في واجب القيام بها كما أمر الله تعالى، وحال هؤلاء المتخلفين المترددين كحال من كانوا يوم الأحزاب ممن وصفهم الله تعالى بالمنافقين ومرضى القلوب ، ففينا اليوم من يخطّئون المرابطين المجاهدين في غزة لمّا بادروا العدو الصهيوني بالهجوم عليهم ، وهو الذي يهاجمهم كل حين ، ويحملونهم ما يقوم به من جرائم فظيعة ضد الأبرياء من أطفال، ونساء ،وشيوخ ،ومرضى ، كلمّا نال من جنده الرعديد جند المقاومة الباسل الصامد ، وفينا من يقف المواقف التي لا يمكن أن تفسر سوى أنها وقوف إلى صف العدو الصهيوني ، وفينا من يتحدث بلسانه عن دعم أهل غزة المحاصرين دون القيام بعمل ملموس أو جد ملحوظ لكسر هذا الحصار الظالم ، وإمدادهم بالطعام والماء والوقود والدواء ، وهم أقرب منهم ، بل على مرمى حجر منهم ، وهم إما متواطئون مع العدو أو يخشونه .
فما أشبه اليوم بالأمس، حصار غزة كحصار المدينة من فوقها ومن تحتها ، والأحزاب التي تحاصرها كأحزاب المدينة تماما ، وتشكيلها كتشكيل أحزاب المدينة، وهو عبارة عن يهود وصليبيين ، وعرب إما متواطئون مع اليهود والصليبيين وهم يخفون التواطؤ، أو متباكون متخاذلون لا يقدمون شيئا للمؤمنين المحاصرين .
ولقد قضى الله تعالى أن وراء محنة أهل غزة غاية وهي الابتلاء والتمحيص تماما كما كان ذلك يوم الأحزاب ، ولقد كانت العاقبة يوم الأحزاب أن رد الله تعالى الأحزاب خائبة ، وهو لا شك راد أحزاب غزة ، وناصر جنده اليوم كالأمس ، وما النصر إلا من عنده سبحانه وتعالى ، وهو القوي العزيز .
اللهم ثبت أقدام إخواننا في غزة ، وفي كل ربوع فلسطين ، وأفرغ عليهم صبرا ، وسدد رميه ، وانصرهم بجندك الذي نصرت به المؤمنين يوم الأحزاب ، واحفظهم من عدوك المجرم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم .وارحم اللهم شهداءهم الأبرار . وابعث الحمية الإسلامية في قلوب من تخلفوا عن نصرتهم ، واخذل اللهم من خذلهم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى ’له وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1059