( تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون )
من المعلوم أن الله عز وجل لمّا اقتضت إرادته ختم رسالاته بالرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم رسله وأنبيائه سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى جميع إخوانه المرسلين ،وأراد لها أن تكون رسالة للعالمين خلاف ما كانت عليه الرسالات السابقة لها التي كانت تهم أقواما بعينهم ، هيأ لها أسباب الانتشار والتوسع في الأرض حتى تبلغ كل شبر فيها ، ولا يبقى لأحد من الخلق ممن أدركتهم عذر يعتذرون به يوم يعرضون عليه في الآخرة . ومن تلك الأسباب دفع كل ما يعترض طريق انتشارها ،بما في ذلك الذود عنها باستعمال القوة . ومن أجل أن يلازم هذا الذود هذه الرسالة إلى قيام الساعة ، جعله الله تعالى عبادة ، تعبّد بها عبادة المؤمنين ، ووعد الصادقين في هذه العبادة بعظيم الأجر والثواب في الآخرة ، وتوعد المتقاعسين فيها بالعذاب الأليم ، والتمس العذر لغير القادرين عليها رحمة منه سبحانه وتعالى . ولقد جعل جل شأنه لأداء هذه العبادة العظيمة ثلاثة مسالك : مسك الجهاد بالمال ، ومسلك الجهاد بالنفس ، ومسلك الجمع بهما ، مصداقا لقوله عز من قائل : (( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن فريضة الجهاد تجب في حالي الخفة والثقل على حد سواء. وقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بالحالي :الشباب والكهولة أو الشيخوخة ، وقيل الركوب ، والمشي ، وقيل الغنى، والفقر . ولقد تقدم في هذه الآية ذكر الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس ، لأن المال هو عماد العدة والعتاد ، وهو ما أمر به الله تعالى في قوله : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )) ، والقوة تكون إنما تكون بالعتاد وبالرَّكوب ، ولا يتأتى ذلك إلا بمال .
ومن أحوال المؤمنين زمن البعثة النبوية الشريفة ، خلال الغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكر الله المجاهدين الذي أعدوا ما أمروا به من عدة ، وأنفقوا من أجل ذلك أموالهم ، واسترخصوا أنفسهم في سبيل الله ، مصداقا لقوله عز من قائل : (( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنّات تجري من تحتهم الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم )) . وذكر سبحانه وتعالى إلى جانب هؤلاء الضعفاء، والمرضى ،والمعوزين ، وأعذرهم ، فقال جل شأنه : (( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم )) ، كما أعذر الذين يتعذر عليهم الالتحاق بالجهاد ، وهم يرغبون فيه ، فقال : (( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون )) ، ففي هذه الآية الكريمة وصف لحال فئة من المؤمنين جد مؤثرة، ذلك أنهم استجابوا لأمر الله تعالى ، ولكنهم لم يجدوا ما يُحملون عليه ، ولا ما ينفقون من أجل اقتناء الرَّكوب ، وقد بلغ بهم الحزن أن فاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن معاناتهم بسبب حرمانهم من المشاركة في جهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أعد الله لمن حضره الأجر العظيم .
ولما كانت العبرة في كلام الله تعالى بعموم لفظه ، لا بخصوص سبب نزوله ، فإن هذه الفئات التي ذكرها سبحانه وتعالى في حديثه عن الجهاد ، ستتكرر إلى قيام الساعة ، ويكون فيها من يتيسر لهم الجهاد في سبيل الله حين ينادى المنادي إليه ، وفيها من يتعذر عليهم حضوره لضعف ، أو لمرض، أو لفاقة، أو لانعدام رَكوب أو عدة .ولا شك أن الذي أعذر به الله تعالى من عاشوا زمن رسول الله صلى الله عليه، قد أعذر به غيرهم إلى قيام الساعة في حال تعذر قيامهم بفريضة الجهاد، وهذا من رحمته سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين .
حديث هذه الجمعة فيه تذكير للمؤمنين بما تعبدنا به الله عز وجل حين تجب فريضة الجهاد ، وبما أعذرنا به إذا لم يتيسر لنا القيام بها، وهي واجبة شرعا سواء كنا خفاقا أو ثقالا بما تعنيه الخفة والثقل. ومعلوم أن المؤمنين في كل بقاع العالم اليوم و في هذا الظرف بالذات ، وإخوانهم في قطاع غزة يخوضون جهادا في سبيل الله ضد أعدائهم الصهاينة ، إما أن يتيسر لهم القيام بفريضة الجهاد إلى جانبهم وهم قادرون عليها ، أو يتخلفون عن واجبهم ، أو يمنعهم مانع مما أُعذرنا الله به . وتبقى فئة أخرى ذكرها الله تعالى ، وهي فئة أشربت قلوبها بالنفاق ـ والعياذ بالله ـ وهي تتذرع بالذرائع الواهية من أجل التخلف عن فريضة الجهاد ، وهي قادرة على ذلك ، وقد قال الله تعالى في مثلها : (( وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون )) ، فهؤلاء لا عذر لهم ،وهم قادرون على نصرة المؤمنين الذين يستغيثون في غزة ، وقد اشتد عليهم القصف ، وأهلك منهم خلق كثير ، وحوصروا ،وجوّعوا ، ومنعوا الماء والدواء ، ودمرت مساكنهم ...، وعلى كل من بإمكانهم أن يقدموا لهم عونا ، وهم أقدر على ذلك أن يحذروا إن كانوا حقا يحسبون على المؤمنين قربهم من الكفر الذي حذر منه الله تعالى حكاما ومحكومبن .
أما الذين لا يستطيعون الوصول إليهم أو إيصال عون لهم ، وهم يتألمون لذلك ، وتفيض أعينهم من الدمع ألا يجدوا ما ينفقون أ وما يقدمون أوما يفعلون لنصرتهم، فقد أعذرهم ربهم سبحانه وتعالى ، وعليهم النصح له سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم . أما من انشغلوا بانتقاد المجاهدين ، وفيهم القادرون على نصرتهم ، فعليهم أيضا أن يحذروا القرب من دائرة الكفر . وأما من تخندقوا مع أعدائهم سرا أو علانية ، فإنهم قد ركبوا مغامرة غير محمودة العواقب إلا أن يتوبوا إلى ربهم توبة نصوحا ، ويتداركوا أمرهم قبل أن تحل بهم قارعة ، وعليهم أن يكفّروا عن خيانتهم لله ولرسوله وللمؤمنين بتقديم ما يسد مسد الكفارة عن الانحياز للعدو، خصوصا ونارالحرب لا زالت مشتعلة ، وقبل أن تضع أوزارها ، وتضيع منهم الفرصة النادرة التوبة ، ويندمون على ذلك ، ولات حين مندم .
اللهم إنا نبرأ إليك ممن لهم القدرة على نصرة إخواننا في غزة وفي القطاع ،ولم يفعلوا ، وتقاعسوا وتخلفوا عن ذلك . اللهم إنا نشكو إليك استحالة إمداد المجاهدين بالعون، وقد حوصروا ،وتعذرالوصول إليهم أم الإيصال إليهم ، وحالنا لا يخفى عليك . اللهم إنه حيل بيننا وبين نصرتهم أمام بطش الظالمين ، فإننا ندعوك يا ربنا أن تكون في عونهم ، وأن تثبت أقدامهم ، وتسدد رميهم ، وتفرغ عليهم صبرا ،وتمددهم بمددك القوي الذي وعدت به عبادك المؤمنين ، وتحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ولا تجعل اللهم لأعدائهم عليهم سبيلا ، وعجلا لهم يا رب بفرج ونصر قريبين ، اللهم عجل بإطفاء نار الحرب المعلنة عليهم ، فإنه لا يطفئها إلا أنت ، إنك سبحانك نعم المولى ، ونعم النصير .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1063