لا يجزىء النفوس المدسّاة الندم الزائف وجلد الذوات في شهر البركات ؟
ظرف رمضان يكشف الكثير من العيوب المادية والمعنوية لدى كثير من المسلمين ، فالمادي منها يتعلق بالأبدان التي تعوّد طيلة السنة على الإسراف في إشباع شهوة البطن ، فيكون ذلك سببا في علوق كثير من الأدواء بها ، فيكشفها الصوم ، ويظهر ما خفي منها تدل عليها أعراض ، أما المعنوي منها فيتعلق بالنفوس المدسّاة التي تُرخى لها الأزمة طيلة السنة ، فتتعود على الوقوع في المعاصي والآثام حتى إذا حل شهرالصيام ، أقبلت على عبادتي الصيام ، والقيام ، فتكرثانها ،وتفضحان تدسيتها ، فتنشأ لديها عقدة الشعور بالندم على ما كان منها من تفريط فيما مضى خلال حول كامل قد انصرم .
ومع ارتياد أصحاب هذه النفوس المدسّاة بيوت الله عز وجل خلال شهر الصيام ، وفيهم من لا يرتادونها إلا خلاله متشفعين بذلك ليقبل منهم صومه ، وقد وقر في اعتقادهم أنه لا يقبل صومهم إلا بصلاتهم في شهر رمضان فقط، يصادفون حضور بعض المواعظ والدروس بين العشاءين إذا ما تغلبوا على كسلهم ، وعلى التضجر من انتظار حلول إقامة الصلاة ، فيسمعون نوعين من الحديث يتراوحان بين تيسير وتبشير ، أوتعسير وتنفير ، فترتاح نفوسهم إلى الأحاديث المبشرة والمرغبة لهم في التوبة والإنابة إلى الله عز وجل ، والتي تخاطبهم كضيوف عند الله عز وجل في بيوته وكأنهم حديثي عهد بالإسلام ، وتنسيهم للحظات تدسية نفوسهم التي تؤرقهم مع حلول شهر الصيام كل عام ، وفي المقابل تثير في نفوسهم اليأس الأحاديث التي تقنّطهم من رحمة الله تعالى ومغفرته ، وتكون بالنسبة إليهم جلدا للذوات ، وربما كانت جلدا أيضا لذوات من يحدثونهم ويعظونهم إذا ما كانوا ممن يعرفون ولا يلزمون ، وينهون ولا ينتهون ،ويقولون ما لا يفعلون ، وهم أدرى وأعلم بمقت الله تعالى حين يحدثون ويعظون بما لا ينتهون عنه من بوائق التي قد تشيع عنهم في الناس ، وتتناقلها الألسنة.
وفي هذه الحالة يلتقي على حد سواء الوعاظ والمحدثون من أصحاب النفوس المدسّاة أيضا مع من هم على شاكلتهم ممن يحجون إلى المساجد في رمضان لجلد الذوات كل بطريقة الخاصة ،مع حسن ظن من منهم لا يعرف شيئا عن أولئك الوعاظ والمحدثين ، أما من يعرفونهم عن قرب ودراية ، فلا يقصدونهم أصلا لسماع أحاديثهم ومواعظهم التي تكذبها بوائقهم ومواقفهم السلبية المخجلة .
وقد يكون أيضا من المحديثن والوعاظ من ذوي النفوس المدسّاة من يأتون برقائق يطرب لها من على شاكلتهم في تدسية نفوسهم ، ويكون ذلك عندهم بمثابة تنفيس عن ذواتهم ، ويحذوهم الأمل الكاذب في التخلص من عقدة الشعور بتدسية نفوسهم ، وذلك عن طريق وعظ الرقائق كاذب ، خلاف غيرهم من أصحاب النفوس المدسّاة الذين يجلدون ذواتهم وذوات غيرهم بأحاديث ومواعظ الوعيد، وهم في الحقيقة أولى بالاستفادة منها قبل غيرهم ممن ينصتون إليهم ، وهم يحسنون الظن بهم ، ويشقون بأحاديثهم ، علما بأنهم قلما يُسمع من هؤلاء الوعاظ مثل عبارة " أوصيكم ونفسي بتقوى الله " أو غفر الله لنا ولكم " أو شيء من هذا القبيل مما قد يُشعر من يستمعون إليهم أنهم من الأكياس الذين يدينون أنفسهم ، وأنهم إنما يقصدون جلد ذواتهم قبل جلد غيرهم . ومن هؤلاء خصوصا المترسمين منهم على حد قول أبي حامد الغزالي رحمه الله في مقدمة كتاب إحياء علوم الدين من يغضون الطرف عن أحداث جسام في هذا الظرف الدقيق بالذات، حيث تجري إبادة جماعية للمسلمين في قطاع غزة المقتحم من طرف جيش الكبان الصهيوني ، ولا يجرؤون على الحديث عن إدانتها وشجبها ، واستنكارها ،مع أنه يسقط منذ السابع من أكتوبر إلى يوم الناس هذا عشرات الضحايا يوميا بقصف لا ينقطع ليل نهار ، و فيهم من يموت مثلهم جوعا وعطشا ، ومن شح الدواء ، واستحالة العلاج ، بينما ينشغلون هم بأحاديث عن قضايا ومواضيع تافهة إذا قيست بما يحدث في القطاع من أحداث مأساوسة مروعة ، وكذا وفي عموم أرض فلسطين المحتلة ، عدت قضايا ثانوية باعتبار الظرف الحالي . وإنهم ليفعلون ذلك دون وخز من ضمائرهم ، وفيهم من يخشون وقف الرسم عنهم ، وفيهم من يخشون فقدان المنصب ، والجاه، و السلطة والنفوذ ، وفيهم من قصرت هممهم حتى عن مجرد الدعاء للمستضعفين من النساء، والولدان ، والعجزة ،والمرضى ، بله الدعاء للمجاهدين المرابطين على ثغور القطاع . فكيف يمكن لهؤلاء أن يتوجهوا إلى غيرهم في ليالي رمضان باللوم والعتاب ، والتقريع ، ويحملونهم على جلد ذواتهم ، وكان الأجدر بهم أن يجلدوا ذواتهم أولا ، لأنهم تخلوا عن أمانة إنكارالمنكر ؟ وأي منكر يبلغ درجة منكر السكوت عما يجري في غزة ، ودرجة خذلان المستضعفين ، والمجاهدين من أجل فك المسجد الأقصى من أسره البغيض ، وتطهيره من دنس الصهاينة المجرمين ، ومن أجل تحرير كل ما باركه الله تعالى حوله من احتلال عنصري همجي تدعمه قوى الشر في هذا العالم ؟
إن جلد الذوات عند الذين دسّوا أنفسهم سواء من الذين يرتادون المساجد من رمضان إلى آخرإما تقليدا لغيرهم من روادها أو بتأنيب من ضمائرهم، ثم يهجرونها بعد انصرامه مباشرة ، أو الذين يحدثونهم فيها سواء أصحاب الرقائق أو أصحاب التجريح والتأنيب ، كل هؤلاء لا يجزئهم إظهار الندم وجلد الذات دون صدق النية بتوبة نصوح من خلال صلح صادق مع الله تعالى عسى أن يتوب عليهم ، إنه هو التواب الرحيم .
اللهم بصّرنا جميعا بعيوبنا ، واسترها عليها ، وأعنا على تزكية نفوس مدسّاة أنت غير من زكاها أنت سيدها ومولاها . اللهم لك الحمد في الأولى وفي الآخرة كل وقت وحين .
وسوم: العدد 1075