( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل خص أياما معلومة من الدهر بالتقديس والإجلال لاقترانها بأحداث معظمة عنده ، وأمرعباده المؤمنين بتعظيمها وتقديسها تعظيما وتقديسا لما وقع فيها من تلك الأحداث المعظمة ، كما أمرهم بطاعات معلومة تجسد ذلك التعظيم والتقديس .
ولمّا كان حدث نزول القرآن الكريم، وهو الرسالة التي وجهها الله عز وجل إلى الناس كافة حتى تقوم الساعة ، وجعلها خاتمة الرسالات وجامعة لكل ما كان فيها من هدي فيه صلاح الناس في دنياهم وأخراهم ، فإنه يعد الحدث الأعظم الذي عرفته البشرية على الاطلاق.
ولقد كان نزول القرآن الكريم أول مرة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء يتحنث بإلهام من الله عز وجل على طريقة خليل الله إبراهيم الخليل عليه السلام في ليلة مباركة من شهر رمضان عظمها الله تعالى لعظمة ما أنزل فيها من عنده هداية للبشرية جمعاء .
ومن أجل أن يحظى حدث نزول القرآن الكريم بما يليق به من تعظيم وتقديس ، تعبّد الله تعالى عباده المؤمنين بعبادة الصيام والقيام شكرا لهذه النعمة العظمى التي هي جعلها الله تعالى وسيلة خلاص الناس من شقاوة الدارين الأولى والآخرة. أما الصيام الذي هو إمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، فهو الجانب المادي من هذه العبادة أو الطاعة المفروضة في هذا الشهر الفضيل ، وأما القيام الذي هو صلاة تقام بالليل، ويتلى فيها القرآن تعبدا وتدبرا ، فهي الجانب المعنوي من العبادة والطاعة .
ومعلوم أن عبادة الصيام وعبادة القيام لا تنفكان عن بعضهما حيث تُعِّد الأولى الصائمين نهارا للقيام بالثانية ليلا . ولا يخفى ما في الصوم من كسر لشهوتي البطن والفرج ، وما يتطلب ذلك من صبر وتحمل نظرا لما في الشهوات من قوة إلحاح ليس من السهل دفعها عن النفس المجبولة على نشدان اللذة . وبالانقطاع خلال نهار رمضان عن الرغبة في إشباع شهوتي البطن والفرج، يرجح لدى الإنسان الجانب الروحي النوراني فيه الذي ينشد التغذية الروحية من صلاة، وصياما، وقياما ،وتصدقا، وفعلا للخير... على الجانب الطيني المظلم الذي تأسره الشهوات ، وبهذا ينتصف الجانب الروحي في الإنسان من الجانب الطيني خلال أيام معدودات من الشهر الفضيل ، وبذلك تسنح للصائمين فرصة ثمينة هي بمثابة دورة تكوينية روحية، يتم فيها التواصل والتفاعل المباشرين مع كلام الله عز وجل التماسا لما فيه من هدى رباني به يصلح عاجل الإنسان وآجله .
ولقد أخبر الله تعالى عباده المؤمنين بنزول القرآن الكريم في شهر رمضان مباشرة بعد ما تعبدهم بعبادة أوطاعة الصيام ، وربط بين ذكرهما ربطا يكشف عن الغاية من اقترانهما حيث جعل الغاية من إنزال القرآن الكريم هدى وبينات من الهدى والفرقان مصداقا لقوله تعالى : ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ))،كما جعل الغاية من فرض عبادة الصيام تكبيره وشكره سبحانه وتعالى على ما أنعم به من هدى ضمنه كتابه الكريم ، ومن نعمة الصيام التي تؤهل الصائمين لاصطحابه تلاوته ، وتدبره نشدانا لتزكية النفوس التي إذا ما انصرفت إلى الشهوات وانغمست فيها دسّنها ،مصداقا لقوله عز من قائل : (( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )) .
وإذا ما تأملنا هذا الاقتران بين ذكر نزول القرآن الكريم في شهر رمضان وبين فرض عبادة الصيام فيه ، نلاحظ أن الغاية هي هدى الله عز وجل الذي أقام عليه بينات أو أدلة تدل عليه ، وجعله فرقانا يفرق بين الحق والباطل .
ومعلوم أن هدى الله عز وجل الذي ضمنه كتابه الكريم ، هو الذي يجعل للمؤمنين حظوظا من تقواه التي هي خشية وخوف منه سبحانه وتعالى ، وخضوع وتذلل له وذلك من خلال التزام أوامره و الانتهاء عن نواهيه . ومعلوم أن التقوى عن إحساس وشعور له ما يترجمه أو يجسده عمليا وإجرائيا في الواقع ، وبهذا المجسد في الواقع يُعرف صدق التقوى ، وبه توزن درجة حضورها ، ودرجة قوتها خصوصا وأن المؤمنين ليسوا سواء في تقواهم ، ذلك أن الأتقى منهم هو من يجسد ظاهرُه باطنَه ، والظاهر إنما يكون عملا وإجراء ، ويكون الباعث عليه هو الباطن. وما لم يتناسق الباطن والظاهر في هذا الشهر الفضيل ، ويستمر تناسقهما بعد انصرامه ، فإن الاستفادة من الدورة التكوينية الرمضانية لا تكون موفقة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تذكير المؤمنين بما يجب عليهم من إكرام لضيف كريم سيحل بهم قريبا إن شاء الله تعالى ،علما بأن الإكرام يجب أن يكون على قدر الضيف المُكرَّم خصوصا إذا كان يحمل معه هدايا غالية لا تقدر بثمن، وهي عبارة عن رحمة من الله عز وجل، ومغفرة منه ، وعتق من النار.
ويجدر بالمؤمنين أن يستقبلوا ضيفهم الكريم بما يليق به من حفاوة لا تشغلهم عنه الشهوات نهارا، والسهر ليلا في غير مصاحبة القرآن الكريم تلاوة وتدبرا والتماسا للهدى وبيّناته.
وإنه لمن التقصير في حق هذا الضيف الكريم وسوء الأدب معه أن ينصرف المؤمنون نهارا إلى التفكير في إعداد موائد الإفطار، والانشغال ليلا بالسهر في اللهو واللعب غافلين عن حكمة الله تعالى من الدورة التكوينية الرمضانية .
ومع أن الله تعالى قد هيأ للمؤمنين الظروف المناسبة كي يستفيدوا من هذه الدورة التكوينية، وذلك من خلال تصفيد الشياطين الواقفة على أبواب الشهوات بالإغراء ، وتغليق أبواب الجحيم ، وفتح أبواب الجنان ، فإن شرائح عريضة منهم تقصر بهم هممهم عن حسن الصيام وحسن القيام ، فيضيعون الفرصة السنوية الثمينة التي أنعم بها عليهم ربهم سبحانه وتعالى ، وتضيع منهم جوائزها الغالية ،وهي رحمة منه ومغفرة وعتق من النار .
وليعلم المؤمنون أن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس في رمضان بكل ما يفسد على الصائمين صيامهم نهارا ، وبكل ما يلهيهم عن قيامهم ليلا ، ولهذا يتعين عليهم الحذر من كيدهم صيانة لصيامهم وقيامهم .
اللهم إنا نسألك أن تبلغنا رمضان ، وتعيننا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك ، وترضى به عنا ، و نسألك جوائزه بعد انصرامه رحمة منك ،ومغفرة ،وعتقا من النار ، ونعوذ بك من كل ما يفسد علينا صيامنا وقيامنا .
اللهم أعز دينك ،واعل رايته ، وكد بكيدك الشديد كل من يكيدون له ، ويريدونه بسوء . اللهم رد ردا جميلا رفيقا بالضالين من عبادك المؤمنين ، واجعل رمضان الفضيل فرصة توبتهم النصوح . اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين في أرض الإسراء والمعراج التي باركتها ، وباركت مسجدها الأقصى، ورد عنهم كيد الكائدين الذين يريدون بهم سوءا ،اللهم اجعل كيدهم في نحورهم ، واجعل تدميرهم في تدبيرهم ، واجعل دائرة السوء عليهم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1117