حرمة دم المسلم ..
ما أعظمها تأمُّلات في ظلال سورة الفتح
د. حمزة محمد وسيم البكري
في السنة السادسة للهجرة، قُبيلَ صُلح الحديبية، قصد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون مكّة للعُمرة، فصدَّهم المشركون عن دخولها، فبعث إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عثمانَ بنَ عفان رضي الله عنه ليُحاوِرَهم في ذلك، فمنعوه من الخروج من مكّة والرجوع إلى جموع المسلمين على مشارفها، وأُشيع في الناس أنه قُتل، فبايع المسلمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا يفرُّوا، أو بايعوه على الموت في سبيل الله ـ على اختلافِ الرواياتِ في ذلك ـ وهي البيعةُ العظيمة التي أحلَّ الله بها عليهم رضوانَه، فسُمِّيت: بيعةَ الرضوان.
وهنا سَنَحَت الفرصةُ لقتال المشركين في ديارهم، ودخول المسلمين مكة فاتحين، وفي سورة الفتح من كتاب الله تعالى عِدّةُ إشاراتٍ إلى أن المسلمين لو دخلوا مكة يومَها لفتحوها، كما في قوله: ﴿ولو قاتلكم الذين كفروا لَوَلَّوُا الأدبارَ ثم لا يجدون وليّاً ولا نصيراً﴾ [الفتح: 22]، وقوله: ﴿وهو الذي كفَّ أيديَهم عنكم وأيديَكم عنهم ببَطْنِ مكّةَ مِن بعدِ أنْ أظفَرَكم عليهم﴾ [الفتح: 24]، وغير ذلك مما سيأتي بيانُه.
فما الحكمةُ إذن من تأخير فَتْح مكة؟
من المعلوم أنه لا يمكنُ لأحد أن يتجاسرَ فيَحصُـرَ الحكمةَ في أقدارِ الله تعالى وأفعالِه وتشريعاتِه في أمرٍ أو اثنَين، وإنما الكلامُ فيهما يظهرُ للعباد من حِكَم الله تعالى، وهي كثيرة أيضاً، ولذا أقتصـرُ على ما يُناسِبُ المقام، فأقول: من حِكمةِ الله تعالى في ذلك تعظيمُ حُرْمة دماء أفرادٍ من المسلمين والمسلمات، وبيانُ عدم رضاه سبحانه أن تُسفَكَ هذه الدماء بأيدي المسلمين أنفسِهم، لأنّ في ذلك وَصْمةَ عارٍ وخزي تَلصَقُ بهم مدّةَ حياتهم، وتلزمُهم بعد مماتهم، ولا يمحوها عنهم إحسانُهم قبلها ولا بعدها أبدَ الدهر، وفي هذا المعنى قال تعالى: ﴿همُ الذينَ كفروا وصدُّوكم عن المسجدِ الحرامِ والـهَدْيَ معكوفاً أن يَبلُغَ مَـحِلَّه ولولا رجالٌ مؤمنونَ ونساءٌ مؤمناتٌ لم تَعلَمُوهُم أن تَطَؤُوهُم فتُصيبَكُم منهم مَعَرّةٌ بغيرِ عِلمٍ لِـيُدخِلَ اللهُ في رحمتِهِ مَن يشاءُ لو تزيَّلوا لَعذَّبْنا الذينَ كفروا منهم عذاباً إليماً﴾ [الفتح: 25].
قال الإمامُ المفسِّرُ ابنُ كثير: «قوله: ﴿ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات﴾ أي: بينَ أظهُرِهم [يعني: بين أظهُرِ المشركينَ في مكّة] ممّن يكتُمُ إيمانه ويُخفيه منهم خِيفةً على أنفسِهم من قومهم، لكُنّا سَلَّطناكم عليهم فقتلتُموهم وأبدتُم خَضْـراءَهم، ولكنْ بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوامٌ لا تعرفونهم حالةَ القتل؛ ولهذا قال: ﴿لم تَعلَمُوهم أنْ تَطَؤُوهُم فتُصيبَكم منهم مَعَرَّة﴾ أي: إثمٌ وغرامة ﴿بغير عِلمٍ ليُدخِلَ اللهُ في رحمتِهِ مَن يشاء﴾ أي: يُؤخِّر عقوبتَهم ليُخلِّصَ من بين أظهرِهم المؤمنين، وليرجع كثيرٌ منهم إلى الإسلام. ثم قال: ﴿لو تزيَّلوا﴾ أي: لو تميَّز الكفّارُ من المؤمنين الذين بين أظهُرهم ﴿لَعَذَّبْنا الذينَ كفروا منهم عذاباً أليماً﴾ أي: لسَلَّطْناكم عليهم فلَقَتَلتُموهم قَتْلاً ذريعاً».
وقال العلامةُ المُفسِّرُ ابنُ عاشور في «التحرير والتنوير» في بيان معنى المعرّة: «المعرّة: مصدر ميميّ؛ من: عرّه؛ إذا دهاه، أي: أصابه بما يكرهُه ويشقُّ عليه من ضُـرّ أو غُرْم أو سوءِ قالة، فهي هنا تجمع ما يلحقُهم إذا ألحقوا أضراراً بالمسلمين من دياتِ قتلى، وغُرْم أضرار، ومن إثم يلحقُ القاتلين إذا لم يتثبّتوا فيمن يقتلونه، ومن سوءِ قالةٍ يقولها المشركون ويُشيعونها في القبائل أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لم ينجُ أهلُ دينهم من ضُـرِّهم».
وقد اختلف المفسِّرون في عدد أولئك المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكّة، فقيل: سبعة رجال وامرأتان، وقيل: ثلاثة رجال وتسع نسوة، وقيل غير ذلك، ومهما يكن من أمر فإنهم عددٌ قليل لا يكاد يُذكَر! ومع ذلك عظَّم اللهُ شأنَهم، وأعلى قَدْرَهم، وجعل لدمائهم حرمةً عالية، لتكون في قلوب عباد الله غالية.
فانظر وتأمّل ـ رزقني الله وإياك حُسْنَ الفَهْم ـ كيفَ يُؤخِّرُ اللهُ فَتْحَ مكّة، وفيها بيتُه الحرام، وكعبتَه المُشرَّفة، وهي القبلةُ التي يتوجّه إليها المسلمون في صلاتهم، وحالُها يومَئذٍ أنها مُدنَّسةٌ بالكفر، والأصنامُ قائمةٌ في أركانها، ويُصدَعُ فيها بالإشراك بالله ليلَ نهار! يُؤخِّرُ الله فَتْحَها وتطهيرَها من ذلك كلِّه قرابة عامين( ) لحِكَم جليلة، منها صَوْنُ دماءِ بضعة أفراد من المؤمنين والمؤمنات، مُقرِّراً أنهم لو تميّزوا عن المشركين لعجَّل الله لهم بالفَتْح، وعذّب الذين كفروا عذاباً إليماً. فكيفَ لو كانوا بضعَ عشرات أو بضعَ مئات؟!
فأيُّ عارٍ وخزيٍ ذاك الذي وقع فيه اليوم جيشُ مصر! وقد سفك دماء المئات ـ على أقلِّ التقديرات ـ وارتكب المجازرَ والموبقات! وأيُّ جنايةٍ تلك التي يُقدِمُ عليها مَن يُباشرُ القتلَ والترويع! وشريكُه في الجريمةِ والإثم مَن يُسانِدُه من ورائه بالإعلام الكاذب المُزوَّر، وكذا مَن يؤازِرُ هذا الإعلامَ بنَشْـرِ مُقاطعَ من تقاريره المكذوبة؛ التي يُشوِّهَ فيها صورةَ المظلوم ويُزيِّنَ صورةَ الظالم، وأعظمُ منه جرماً مَن أثنى على الطاغية المجرم الجاني في فِعلِه، ومجّدَه في صنيعِه، وأضفى عليه أزكى الألقاب، ومَنْ راحَ يلتمسُ له ما يُسوِّغُ ظلمَه، ويُشـرِّعُ جُرْمَه، فليتّقوا الله في دماء عباده المؤمنين، وليكفُّوا شـرَّهم وأذاهم عنهم، وقديماً قالوا: إذا لم تستطع قولَ الحقّ فلا تقولنّ الباطل.
وقد يرتأي البعضُ أن يكون حيادياً! وأن يعتزلَ الفتنة! وأيُّ فتنة أعظمُ من أن لا يُنكِرَ المُنكَر، وأن لا يَنصُـرَ المظلوم ولا يُنصِفَه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلمُ أخو المسلم، لا يظلمُه ولا يخذلُه ولا يحقرُه»، وفي رواية: «لا يخونُه ولا يَكذِبُه»، وفي أخرى: «لا يظلمُه ولا يُسلِمُه». وأيُّ خِذلانٍ أكبر من أن يُظلَمَ الناس، وتُسفَكَ دماؤهم، وتُلفَّق لهم الأكاذيب، ويُتَّهمون بالفاشية والإرهاب، وحالُ أصحابهم: أنْ لا شأنَ لهم بهم، لأنهم محايدون، وللفتنة معتزلون! وحالُ خصومهم: أنْ تَدَاعَوْا عليهم من كل جانب، واجتمعوا عليهم من كلِّ جهة، ولم يألوا جهداً في أذيَّتهم والتنكيل بهم! سبحانك هذا بهتان عظيم.