رمضان ... شهر الصبر ...والجهاد.. والانتصار.. والتقوى ...
رمضان ...
شهر الصبر.. والجهاد.. والانتصار.. والتقوى
د. أبو بكر الشامي
مع إطلالة شهر رمضان المبارك من كل عام ، يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بهذا الوافد الكريم ، ويستقبلونه بمظاهر الفرح والزينة في البيوت والمحلات والساحات العامة ، وينيرون له المساجد ، ويضفي على البلاد جوّاً خاصاً من الخشوع والرهبة ، الممزوجة بأحاسيس الفرح والمحبة والبهجة..
ترى فما الذي يعنيه لنا رمضان حتى يحدث في الأمة مثل هذا التحول الكبير .!؟
لا شك أن الذي يعنيه لنا رمضان كثير ...
فهو أولاً : شهر الخير والبركات والتقوى :
قال تعالى في كتابه العظيم : بسم الله الرحمن الرحيم
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) (البقرة:183)
وروى الشيخان ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( إذا جاء رمضان ، فُتحت أُبواب الجنّة ، وغُلّقت أبواب النار ، وصُفّدت الشياطين ).
ويا لها من حقيقة هائلة ، جديرٌ بالمسلمين أن يقفوا ملياً أمامها ويتأملوا دلالاتها .
أن تُفتّح أبواب الجنة ، وتُغلّق أبواب النار ، وتُصفّد الشياطين ...!!!
فما الذي بقي على كلّ منا إلا نفسه التي بين جنبيه ، يعالجها باليسير من الجهد .!؟
وما أهون تلك النفس ، وما أضعفها ، بعد أن زال عنها قرينها المصفّد بالسلاسل والأغلال .!؟
إنها إذاً بركات السماء تلفّ أهل الأرض ، وإنها أفضال الملأ الأعلى تنهلّ على بني البشر، ولو أنهم رعوها حق رعايتها لأدركوا حقيقة المعنى الوارد في قوله -صلى الله عليه وسلم- :
( لو يعلم العباد ما رمضان ، لتمنت الأمة أن تكون السنة كلها رمضان ) رواه ابن خزيمة .
وأي عذر بقي لأولئك الثرثارين المترخصين ، الذين أدمنت نفوسهم الهوى ، واستمرأت ألسنتهم الجدل ، على أطباق من البطالة المقنّعة والفراغ المقيت ، فراحوا يلسعون الناس بألسنتهم ، وينهشون من لحومهم .!؟
ألم يعلموا بأن الصيام الحق لا يكون إلا بترك المعاصي ، ومخالفة الهوى ..!!؟
فلينصتوا إذاً إلى قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ، كما رواه البخاري :
( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ،
وقوله : ( إذا كان يومُ صومٍ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابّه أحدٌ أو خاصمه ، فليقل : إني صائم ) .
وهو ثانياً : شهر الصبر والجهاد والتضحيات والانتصارات :
فهو شهر بدر الخالدة ، وفتح مكة ، وعين جالوت ، وفتح المغرب العربي ، والأندلس الخضراء ، وغيرها من الملاحم العربية والإسلامية الخالدة ، التي لم يكن توقيتها في رمضان ، خطة مبرمجة خطّتها يد البشر ، إنما هي إرادة الله العظيم ، التي جمعت بين قداسة الشهر ، وجلالة النصر ...
بسم الله الرحمن الرحيم (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ )) (الأنبياء:18)
ولقد اقترن في تاريخنا الإسلامي الأغر ، الصيامُ بالجهاد ، حتى لكأنهما صنوان لا يفترقان ...
فعلى رأس سبعة أشهر من الهجرة النبوية الشريفة كان فرض الصيام ...
وعلى رأس سبعة أشهر من الهجرة النبوية الشريفة كان فرض الجهاد أيضاً ...
ولقد كان أول رمضان يلتقي المسلمون فيه في المدينة يصومون فيه ...
وكذلك أول رمضان يلتقي فيه المسلمون في المدينة يجاهدون فيه ...
ولقد تطابق الصيام والجهاد حتى في أسلوب فرضهما ، فقال تعالى عن الصيام :
(( كُتب عليكم الصيام )) . وقال عن الجهاد أيضاً : (( كُتب عليكم القتال )) .
ولقد عُقد أول لواء في الإسلام لجهاد أعداء الله في رمضان ، وكان أول من تشرف بهذه المكرمة الخالدة ، أسد الله ورسوله ، حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه ، الذي قاد أول سرية للجهاد في سبيل الله ، وهي سرية سيف البحر...
وفي رمضان الثاني كانت ملحمة بدر الخالدة ، التي وصفها الله بما وصف به قرآنه العظيم فقال : (( يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان )) .
ولئن كانت بدر قد أوغلت في أعماق التاريخ ، إلا أنها كانت قد تركت في نفوس العرب والمسلمين ، وفي نفوس الصائمين والمجاهدين ، دروساً عظيمة ، ومعاني خالدة ...
فهي الكتاب المفتوح الذي تنهل منه الأجيال على مرّ العصور وكرّ الدهور ، الكثيرَ من معاني العزّة والكرامة والتحدّي ...
واليوم ... وشعبنا السوريُّ العظيم يخوض ملحمته التاريخيّة ( البدريّة ) الخالدة ، ضد العصابة الأسديّة الظالمة ، من أجل دينه ، وحريّته ، وعزّته ، وكرامته... ويستقبل رمضان جديد في تاريخ ثورته المباركة ، ما أجمل أن نستذكر من ملاحم رمضان التاريخيّة الخالدة دروسها وعبرها ، لتكون نبراساً لشعبنا السوريّ المجاهد، نقتدي بها ، ونسير على هديها ، ونستمد منها كل المعاني العظيمة التي تعيننا على تحقيق أهدافنا المقدّسة في العزّة والحريّة والكرامة ...
* ولعل أول هذه الدروس المباركة : هو درس الصبر ...
فرمضان هو شهر الصبر ، والنصر مع الصبر ، والعاقبة للمتقين ...
قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون )) آل عمران (200 ).
صحيح أن شعبنا السوريّ العظيم قد دفع على طريق حريّته وكرامته آلاف الشهداء والجرحى والأسرى والمشرّدين منذ انطلاق ثورته المباركة حتى الآن ...
وصحيح أيضاً بأن النظام الأسدي الظالم ، وعصاباته المجرمة ، هو من أعتى أنظمة الإجرام في العالم ، وهو لا يمتّ إلى الإسلام أو العروبة أو الوطنية أو الإنسانية ، أو أية قيمة من قيم الدنيا بأية صلة ...!!!
ولكن الأصحّ أيضاً بأننا نجاهد من أجل ديننا ووطننا وشعبنا وأمتنا ومقدّساتنا وأعراضنا ، ونناضل ونثور من أجل حريّتنا وكرامتنا وعزّتنا ومستقبل أبنائنا ، وهي قيم ومعاني ترخص من أجلها الأرواح ، وتهون من أجلها الصعاب ، وتحلو في سبيلها التضحيات ...!!!
والأهم من ذلك كلّه ما أعدّه الله للمجاهدين الثائرين الصابرين من الأجر والفخر في الدنيا والآخرة ، قال تعالى في كتابه العظيم :
((يا أيها الذين آمنوا هل أدلُّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله ، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومساكنَ طيّبةً في جنّات عدن ، ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبّونها نصرٌ من الله وفتحٌ قريب ، وبشّر المؤمنين )) الصف ( 12)
فالشعب السوريّ العظيم ، يصنع اليوم ، بصبره وجهاده وتضحياته تاريخاً جديداً لسورية والشام والخليج والأمة ، وهو والله ، أهل للمكارم ، وخليق بالتضحيات، وجدير بالنصر إن شاء الله ...
فإن كنا نألم ، فالنظام الأسديّ الظالم يألم كما نألم ... ونرجو من الله على صبرنا وجهادنا وتضحياتنا ، ما لا يرجوه على ظلمه وعدوانه وإجرامه...!!!
(( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ، إن تكونوا تألمون ، فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون ))
والدرس الثاني : في الوحدة الوطنية والتعاون والتكافل بين جميع أبناء الوطن السوريّ العظيم .
ولقد تجلّت الوحدة الوطنية في سورية الثائرة في أبها صورها في الأشهر الماضية من عمر الثورة المباركة ، ويشهد الله ، لقد كان شعر رأسي يقف ، وتنتابني قشعريرة في جميع خلايا جسدي ، عندما كنت أسمع أبناء درعا الأبطال وهم ينادون بأعلى أصواتهم : (( واحد واحد واحد ... الشعب السوري واحد )) ...
(( يا دوما ويا بانياس ويا إدلب ويا ... حنّا معاكي للموت )) ، فيرد عليهم أبناء دوما وأبناء الجزيرة وأبناء سورية كلها التحيّة بأحسن منها ...!!!
وفي رمضان المبارك : تتعزز أواصر هذه الوحدة المباركة أكثر فأكثر ، وتزداد طرق التعاون والتلاحم والتكافل بين جميع فئات الشعب الواحد المجاهد ...
فمن استطاع الخروج للجهاد في رمضان فهذا من أشرف أعمال الطاعة في رمضان المبارك ، وهو خيرٌ من الصيام والقيام بإذن الله ، فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( موقف ساعة في سبيل الله ، خيرٌ من قيام ليلةِ القدرِ عند الحجر الأسود ) رواه أحمد وأبو داوود ...
يلي ذلك في الفضل ، الإنفاق على المجاهدين لأهل الوفرة ، والخروج للتظاهر
مع المتظاهرين ، ليكثّر سواد السوريين المتظاهرين ، ويعلي هتافاتهم ، ويشدّ من أزرهم ، وهو من قيام رمضان إذا صلحت النيّة إن شاء الله ...
وهو مشمول بدعوة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم :
(( رحمَ اللهُ امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوّة ))
ومن لم يستطع الخروج للجهاد والتظاهر لعذر قاهر ، وكان من أهل المال والوفرة ، فعليه أن يجهّز المجاهدين والمتظاهرين بالسلاح والطعام والشراب واللافتات الوطنية ، ويخلف المجاهدين والمتظاهرين في أهليهم ، ويتفقّد عوائل الشهداء والأسرى والجرحى ، فيقدّم لهم ما أمكنه من وسائل الدعم المادي والنفسي ، فهو له جهاد وقيام بإذن الله ، فلقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : ((من جهّز غازياً في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا )) ...
وأما السوريون المغتربون فجهادهم في دعمهم المالي والنفسي والإعلامي والسياسي للمجاهدين على أرض الوطن ، وتقديم جزء ثابت من رواتبهم ودخولاتهم الشهرية للمجاهدين وعوائلهم ...
وإلى جميع السوريين في العالم ، والعرب ، والمسلمين ، الذين تعوّدوا أن يُخرجوا زكاة أموالهم في رمضان نقول : دونكم المجاهدين الأبرار في الشام ، وأبناء شهدائهم ، وعوائلهم ، ومنكوبيهم ، فهم من أحق الناس على وجه الأرض بالدعم ، والنصرة ، والمساندة ، ليستمروا في جهادهم المبارك حتى إسقاط هذه العصابة النصيريّة المجرمة ، وأسيادها في قم ، وعملاءها في جنوب لبنان ...!!!
وبعد ... فإلي كل فرد من أبناء شعبنا السوريّ العظيم ، بجميع أديانه ومذاهبه وأعراقه ، وإلى أبناء أمتنا العربية والإسلامية ، وأخصّ منطقة الشام والخليج العربي ، وإلى شرفاء الإنسانية نقول :
إن الثورة السورية المباركة مستمرّة بإذن الله حتى تحقيق أهدافها الناجزة في الحريّة والعزّة والكرامة ، وهي نفحة إلهية في الزمان والمكان لا تتكرر إلا مرّة واحدة في التاريخ ، وها هو رمضان المبارك مقبل إليها ليلتحم بها ويباركها ، فتصير النفحة نفحتان ، والمكرمة مكرمتان ، فهنيئاً لكل من شرّفه الله بالانغماس فيها ، والتطهّر بها ، بأي قول أو فعل ...
وأعلاها طبعاً الخروج للجهاد والتظاهر ، والتضحية بالنفس والأهل والمال ، فهؤلاء تاج رأس الأمة ، ودرر العرب والمسلمين ، وصنّاع مجدهم ، ومجدّدي دينهم وحضارتهم
وأوسطها : دعم المجاهدين والمتظاهرين مادياً ومعنوياً ، وإخلافهم في أهلهم وأسرهم ، وتفقّد جرحاهم وأسراهم ومشرّديهم ، وإكرامهم ورعايتهم ، حتى يستمر أبناؤهم في الجهاد والتظاهر والتضحية غير خائفين ولا وجلين ولا قلقين على أسرهم من بعدهم ...!!!
يليها في الأجر والفخر ، دعم المتظاهرين إعلامياً وسياسياً ، ونقل قضيّتهم إلى جميع المحافل العربية والإقليمية والدولية ، وبذل كل جهد إعلامي وسياسي ممكن لفضح النظام الأسدي المجرم ، وتعريته ، وتعرية إجرامه أمام الرأي العام العربي والإسلامي والدولي ، ولجم آلته القمعية الإجرامية الظالمة بحق شعبنا السوري الثائر المجاهد .!!!
هذه هي أهم واجبات السوريين ، في الداخل والخارج ، ومعهم إخوانهم العرب والمسلمون من أهل المال والسياسة والإعلام ...
فإن انتصرت الثورة السورية ، وهي منتصرة بإذن الله ، فنصرها نصر لسورية والشام وجميع العرب والمسلمين ...
وإن تكن الأخرى ، لا سمح الله ، فلا والله ، لا نأمن أن يجتاح المد الصفوي الشام والخليج العربي ، ولا والله ، لا نأمن أن تطفح مجاري الماء من دماء العرب والمسلمين ، وأن تجرّ الكلاب الصفوية بخلاخل نساء العرب والمسلمين ... !!!
ألا هل بلّغنا ... اللهم فاشهد ...!!!