إنّه ينادينا ..(2)
د.عثمان قدري مكانسي
لو أمعنا النظر في هذه الآيات الكريمة لوجدنا التسلسل المنطقي في ورودها ظاهراً في الترتيب المتناسق في تتابعها الذي يأخذك من آية إلى تاليَتِها بشكل بديع متوازن :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ ....(24)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ .........(27)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ...(29)
فماذا بعد النداء الرباني ( يا أيها الذين آمنوا )؟:
1- النداء ابتداءً للمؤمنين الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد رسولاً ، فمن آمن ( أطاع)، ومن أطاع ( استجاب )، ومن استجاب التزم و( لم يخن الأمانة )، ومن ثبت والتزم كان ( تقياً) فلا بدّ – إذاً- بعد الإيمان من الطاعة تتلوها الاستجابة ، يتبعها الثبات والعمل الصحيح ، فكانت سمة هؤلاء ( التقوى) وبالتقوى النجاةُ والنصرُ والتكفير عن الذنوب يوم القيامة والسعادة يوم يقوم الأشهاد لرب العالمين ، ألم يقرر سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم "؟
فمن أطاع بعد الإيمان ، فائتمر وانتهى وقال سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ، وهذه سمات الطاعة الحقيقية كان على صراط مستقيم ، أما الإيمان القولي الذي يخلو من تبعاته الإيجابية ففيه قصور ودخن ويعتبر تولياً عن حقيقة الإيمان ( ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون) إن التلبية من الطاعة ، فمن سمع ونكص ثمّ خالف كان مثل الدوابّ التي تسمع دعاء ونداء فلا تعقله أو تعيه لأنها لم تفهم شيئاً مما أُمرتْ به. وما أتعس مَن شُبّه بالدوابّ في سيرتها !
2- والحياة في الاستجابة لله ورسوله ، فما يأمر الله تعالى ويبلّغ رسولُه إلا بما يجعل الحياة راقية هانئة سعيدة حين يعلم المخلوق سبب حياته ، ويعلم أن خالقه سبحانه خطّ له الطريق السليم في حياته الاختبارية هذه ليصل إلى رضوان الله وثوابه في الحياة الأبدية. فمن سلك السبيل القويم نجا، ومن عصا فلم يستجب عاقبَهُ الله بالحرمان. ألم يقل الله تعالى ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً ). إن مخالفة أمر الله ورسوله يوقع في فتن كثيرة يغرق فيها الصالح الذي يترك المجتمع يقع فيها فلا ينبههم ولا يصوب أفكارهم وخُطاهم، ويقع فيها الطالح الذي غاص فيها وشربها حتى الثُّمالة ، فاكتوى الجميع بنارها، فنزل عليهم – إذ ذاك – غضب الله الذي لا يُردّ والعياذ بالله.
وقد يرى بعضهم الفتنة غالبة لا يستطيع ردّها فتضعف نفسه ويتهاون في واجبه ويتكاسل. ولو كان إيمان هؤلاء قؤياً لأدركوا أن الله تعالى ينصر القِلّة الصابرة - حين يرى منهم إخلاصاً ودَأَباً - على الكثرة الطاغية مهما استعلت وانتفشت.
3- إنّ الخيانة – كما يذكر ابن كثير رحمه الله - تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية . أما قوله تعالى " وتخونوا أماناتكم " فإنّ الأمانة هي الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد من آداب وفريضة ومنهاج حياة ، والخيانة ترك السنن وارتكاب المعاصي . ومن الخيانة إظهار الحق قولاً ومخالفته عملاً ،وهذا هلاكٌ للأمانات وللنفوس . ومن خان الله ورسوله فقد خان الأمانة .
كيف تكون الأموال والأولاد فتنة؟
يذكرنا الله تعالى بهذه حين يقول : "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون " . فمن اشتغل بالدنيا من أموال وأولاد واهتم بها بل قدّمها على طاعة الله ورسوله فقد ضيّع كثيراً من الخير. فثواب الله وعطاؤه في الآخرة خير من الدنيا وما فيها من أموال وأولاد قد يكون منهم العدو والعاق العاصي " وأن الله عنده أجر عظيم " .
في الأثر يقول الله تعالى " يا ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فِتُّك فاتك كل شيء وأنا أحَبُّ إليك من كل شيء " وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " .
4- والتقوى نجاح وفلاح ، قال تعالى " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها" وقال سبحانه: " واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون" فإذا كانت نتيجة التقوى : النصر وتكفير الذنوب والغفران تأهّلَ المرءُ لرضا الله تعالى والخلود في جنته ، وتلك هي الحياة الحقيقية التي يسعى لها المؤمنون العاقلون " لمثل هذا فليعمل العاملون"
إنه سبحانه ينادينا ..... فهل سمعنا النداء؟!