أنفق "أبا سارة" ولا تخش من ذي العرش إقلالا
أنفق "أبا سارة"
ولا تخش من ذي العرش إقلالا
د. محمد المجالي*
قد يبدو عنوان المقال غريبا؛ فما نحفظه هو قول الرسول الحبيب، صلى الله عليه وسلم، لبلال بن رباح، رضي الله عنه: "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا". فهو فقير محتاج للمال، ومع ذلك يشجعه الرسول الأكرم أن ينفق، ورب العرش سبحانه له ملكوت السماوات والأرض، يعطي بلا حدود، فلا تخش عاقبة النفقة؛ فقد قال سبحانه: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" (سبأ، الآية 39). أجل؛ يخلفه، يعوضه لك عاجلا أو آجلا. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "ما نقصت صدقة من مال"؛ فظاهريا هو ينقص، لكنه صلى الله عليه وسلم يقسم أن المال لا ينقص، إما ببقاء بركته، أو بتعويض صاحبه كما دلت الآية السابقة، أو بدفع ضر عنه بمثل ما أنفق.
في حملة جمعية المحافظة على القرآن الكريم، والتي كانت بعنوان "وقف أهل القرآن"، تدافع الشعب من مختلف أطيافه وأعماره وجنسه للتبرع لصالح أهل القرآن. ونحن حين نحث الناس، نذكر النماذج القديمة من سيرة النبي نفسه، صلى الله عليه وسلم، وصحابته والتابعين والصالحين عبر التاريخ المشرق للأمة الإسلامية. ولكنني هنا أود أن أسجل نماذج لشعبنا الأردني بأطيافه؛ كيف تفانى وضحى وتدافع نصرة للقرآن العظيم وأهله، طمعا في الأجر العظيم، وإسهاما في بناء جيل القرآن، جيل الصحوة والنهضة. فالقرآن هو الهادي "هدى للمتقين"، و"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" (الإسراء، الآية 9). وأمر الله رسوله (ومن معه) بالاستمساك به "فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم" (الزخرف، الآية 43)، وهو حبل الله المتين الذي به عصمتنا وسؤددنا: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" (آل عمران، الآية 103).
جاء رجل يخفي اسمه إلى مقر الحملة في إذاعة "حياة إف. إم"، وأعطى أحد الشباب ورقة بداخلها مبلغا من المال. فتح الشاب الورقة، ووجد فيها مبلغا من المال (750 دينارا). ومكتوب على الورقة هذا الرقم، وبجانبه عبارة "مبلغ علاج عيون ابنتي سارة"، وبعض الكلام الذي يريد تحقيقه من خلال تبرعه، بنية شفاء سارة، ونصرة الإسلام وأهله، وتحقيق نعمة الأمن، وغيرها من العبارات. فسأله الشاب: ما هذا يا أخي؟ فقال: هو مبلغ ادخرته لعلاج عينيْ ابنتي سارة. وطلب الطبيب تأجيل العملية لأنها ما تزال صغيرة. وأنا سمعت بالحملة وأتبرع بالمبلغ بنية شفاء ابنتي سارة. وهو المبلغ الذي يملكه!
يا الله يا لطيف يا كريم؛ الله أكبر كم في هذه الأمة من خيرين محبين لك ولكتابك ودينك! ينفق ما يملك لعلاج ابنته من أجل القرآن، ثقة بك أن تشفي ابنته، وثقة بك أن تعوضه وتعوضها خيرا. فالمال مالك، والعبد مستخلف فيه، أنت ربنا وحسبنا ونعم الوكيل.
وذهب الرجل بكل ثقة بربه سبحانه، وسمعت بالقصة. وطلبت من الإخوة في الجمعية ضرورة ترتيب زيارة له وشكره، وصممت شخصيا أن أجمع له ما أنفقه وزيادة. وفوجئت بأن قصته قد ذكرها أخي مدير عام الجمعية على قناة اليرموك، وذكرتها إذاعة "حياة إف إم"، فما كان من بعض الخيرين من أهل هذا البلد إلا أن تسارعوا للتبرع بالمبلغ نفسه للأخ أبي سارة، وتبرع مركز طبي للعيون بعلاج ابنته، واتصل آخر من السعودية لرعاية سارة.
هنيئا لك أبا سارة، وهنيئا لك سارة؛ فدعاء الآلاف لك ولوالدك لن يذهب سدى، وما عند الله خير وأبقى. فالإنفاق في سبيل الله قد حصل، وإخلاف المال قد تم بسرعة كذلك، وهي علامة دالة على بشرى حب الله لكما، إنه الله سبحانه الرحمن الرحيم البر اللطيف الخبير.
ومن القصص أن أكثر من متصل مع الإذاعة تبرعوا بمبالغ بنية قضاء الدين؛ الله أكبر، هو مدين ومع ذلك ينفق، ولا يخشى الفقر، ولا تتزحزح ثقته بالله تعالى أن يعوضه وييسر له ويرزقه. هذه الثقة بالله هي التي نريد.
أما تلك العجوز التي جاءت بنفسها على العكاز، فخلعت إسوارتها القديمة (عصملي) ووضعتها بين يدي الموظفين وهي تقول: لا أملك سواها، ورثتها عن أمي وجئت بها رجاء أن يشفي الله حفيدي المصاب بالسرطان! لقد استشعرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "داووا مرضاكم بالصدقة"، وهي ثقة بالله عالية.
وقصة لآخر كان قد وضع على طاولته كشفاً بأسماء بعض أقربائه وأحبابه وأصدقائه المتوفين، أخرج الكشف ووضع رقما من النقود بجانب كل واحد: هذا 5 دنانير، وهذا 3 دنانير، وهذا ديناران، وهذا 10 دنانير.. وهكذا، ثم جمع المبلغ فكان 200 دينار، تصدق بها عنهم احتسابا لوجه الله تعالى، ووفاء لهم وبرا بعد مماتهم.
حتى الأطفال تسابقوا للمكرمة. فهذا طفل يحضر حصالته أمام الموظفين، وأبى أن يفتحها إلا في مقر الإذاعة. وعندما عدّ ما فيها، كان الرقم 70 دينارا. وفرح الطفل فرحاً شديداً بذلك المبلغ الذي أنفقه، فأي تربية هذه التي تعوّد الطفل على البذل والعطاء؟!
وجاء سائق تكسي ومعه غلة يومه، وهي 13 ديناراً، قدمها كلها، وخرج وهو يعتذر أنها قليلة، وكان يحب أن تكون أكثر فيقدمها في سبيل الله لأهل القرآن.
وما أجمل تلك العبارات التي خرجت من المتبرعين وواكبت تبرعهم. فذاك يتبرع بنية الشفاء، وهذا بنية إصلاح أولاده، وآخر بنية انتصار الثورة السورية، وآخر يتصدق عن فقراء الصومال، وبنية الإفراج عن أسرى فلسطين، وبنية حفظ القرآن، وبنية التوفيق بالزواج. ومنهم من أنفق عن بعض الشهداء، كسعيد صيام وعرفات جرادات، وهكذا.
إنه دين عظيم، وإنها صحوة إسلامية ووعي نعوّل عليه كثيرا. فالأمة لا ينقصها عدد ولا مساجد ولا لحى ولا حجاب، إنما ينقصها النوع والوعي والثقة بالله تعالى؛ ينقصها التفاعل والإيجابية، لتنتقل من زمن الترهل والغثائية، إلى زمن الحركة والأمل والإيجابية والعطاء، والثقة بالله تعالى وبالنفس.
وثمة نقطة مهمة، وهي أن هذا الشعب بحاجة إلى نماذج قدوة، وثقة في مؤسساته. والدولة مطالبة بالمصداقية ليتفاعل الشعب مع دولته أكثر. فالزكاة كفيلة بالقضاء على الفقر، والوقف تاريخه مشرق عظيم، ومبادئ التكافل والتراحم مؤصلة في ديننا؛ فالذي يجعل أشخاصا عاديين يتبرعون بالآلاف، وبشقق وأراض يوقفونها أو يتبرعون بها مباشرة، إنما يفعلون ذلك ثقة ببعض المؤسسات. فالثقة والمصداقية أمران مهمان في علاقة الرعية بمؤسسات الحكم.
* أكاديمي أردني