سورة الناس (2)
في نور القرآن
د. نعيم محمد عبد الغني
نقرأ في سورة الناس: (من شر الوسواس)، وهذه الكلمة هي محور هذا المقال، حيث إنها استعاذة خاصة بعد تلك الاستعاذة العامة التي قالها الله تعالى في سورة الفلق (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق)، ثم جاءت الاستعاذة من الوسواس الذي يعني الدعاء بخفاء، وهو آت من صوت الحلي، وقد ذكره الشاعر بقوله: (تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت).
والوسواس جاء في القرآن اسما وفعلا، حيث جاء اسما في قوله تعالى (من شر الوسواس) وفعلا ماضيا في قوله عز شأنه (فوسوس لهما الشيطان) ومضارعا في قوله عز وجل: (الذي يوسوس في صدور الناس).
ولم يأت الفعل الأمر (وسوس)؛ لأن الله تعالى قضى بأن الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا، ولا يأمر الله بالفحشاء التي يحض عليها إبليس الذي يقول أتباعه: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء).
ثم يأتي الاسم الدال على الثبات، حيث إن صفة الوسوسة ملتصقة بشياطين الإنس والجن جميعا، ومن كثرة التصاقها بهم صارت كأنها اسما لهم، فليس المقصود شيطان الجن وإنما يأتي معها شيطان الإنس أيضا، يقول صاحب الظلال: وأنواع الوسوسة كثيرة، فمنها حاشية السلطان التي تزين له سوء عمله وتجعله مستبدا، ومنها الحديث بين الناس بالنميمة...إلخ)
كما جاءت فعلا ماضيا رواية لما حدث لآدم عليه السلام، تأكيدا وثبوتا لهذه القصة، وما حدث فيها من غواية الشيطان لهما حيث وسوس لهما بأن يأكلا من الشجرة وقال في وسوسته: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) وأقسم لهما (إني لكما لمن الناصحين).
ثم جاءت بصيغة المضارع الذي يدل على التجدد والاستمرار، حيث يظل الشيطان يوسوس للإنسان حتى يصده عن الصراط المستقيم ولا يمل ولا يتركه حتى يموت. وهذا يؤكده قوله تعالى الذي جاء بصيغة التوكيد والإصرار من إبليس (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وقال: (ثم لآتينهم من بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين).
وصدق الرسول –صلى الله عليه وسلم- (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
وإذا تأملنا في بنية الكلمة وسوس لاحظنا التكرار في السين، ذلك الحرف المهموس الذي يتسرب الهواء من بين الأسنان لنطقه، وفيه دلالة على منتهى اللطف والخفاء في دعوة الشيطان للإنسان.
ولنتأمل معا الآيات الآتية:
فوسوس لهما الشيطان
من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد.
إذا تأملنا الآيات السابقة فإننا نلاحظ أن الوسوسة لها مصدران: الشيطان، والنفس، وجاء ذكر النفس مرة واحدة والشيطان في المواضع الباقية، للدلالة على شر الشيطان وأن النفس لها أنواع، وقد ترقى بالإنسان وتسمو به فيكون في عليين وقد تهبط به وتنحط، لتكون شرا من الأبالسة أجمعين. وقد لاحظ الحسن البصري ذلك فقسم الوسوسة إلى نوعين: وسوسة من الشيطان ووسوسة من النفس.
لكن هل يحاسبنا الله تعالى على وسوسة النفس وحديث الشيطان لها، وماذا لو كانت هذه الوسوسة بالكفر أو بالمعصية؟ تلك قضية الحديث في الأسبوع القادم إن شاء الله.